صبحي حديديصفحات سورية

اسكتلندا: إغواء الكتلة الأكبر/ صبحي حديدي

 

 

 

قرار الاسكتلنديين بالبقاء ضمن المملكة المتحدة، وبنسية 55,3%، لم يكن هو المفاجأة ذات المغزى؛ بل لعله كان متوقعاً، على نطاق واسع، حتى في صفوف دعاة الاستقلال. الطارئ المفاجئ، في المقابل، هو نسبة الإقبال على الاستفتاء، والتي بلغت 84,6%؛ وهو رقم عالٍ تماماً، إذا ما قورن بنسب الإقبال على انتخابات وطنية تشريعية، أو محلية بلدية.

في وسع المرء أن يساجل، مع ذلك، أنّ هذا الاهتمام الشعبي الواسع لا يشكّل بالضرورة عودة الروح إلى السياسة، بمعانيها المختلفة، القاعدية والعامة، التي تخصّ الديمقراطية والمواطنة وفصل السلطات والرقابة. كان مواطنو اسكتلندا على قلق من استقلال ـ أقرب إلى انفصال، في الواقع ـ يلقي بهم إلى مجهول محفوف بالمخاطر، أياً كان حجم المعلوم فيه، وسط اضطرابات العالم عموماً؛ وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وانكماش أسواق العمل، في أوروبا ومنطقة اليورو، خصوصاً.

وبهذا المعنى فإنّ الميل الغريزي إلى البقاء داخل الكتلة الأكبر، وما يعد به هذا الخيار من فُرَص التكافل والتضامن والتقاسم، كان في عداد العوامل التي حسمت قلق المواطن الاسكتلندي تجاه ذلك المجهول: نبقى في المملكة المتحدة، إذاً، ولنا ما لها، وعلينا ما عليها؛ خير من أن نهبط بعدّاد المستقبل إلى ما يداني الدرجة صفر، في غمرة الانواء الهوجاء والعواصف العاتية. وثمة الكثير الذي يمكن كسبه، استطراداً، من نتيجة الاستفتاء هذه، كأنْ تتلقى الحكومة المركزية رسالة اسكتلندا بوضوح أعلى، فتباشر سلسلة الإصلاحات الموعودة في طبيعة العلاقة بين لندن وشركائها، ومنح غلاسكو المزيد من السلطات المستقلة.

هنالك، غنيّ عن القول، سلسلة مصالح مشتركة توطّد خيار البقاء، إذْ لا يمكن للبريطانيين أن ينسوا فضائل 300 سنة من انضمام اسكتلندا إلى التاج: من قاعدة “برنامج ترايدنت” للردع النووي البريطاني، الذي تستضيفه اسكتلندا؛ إلى مكتشف البنسلين، السير ألكسندر فلمنغ، السكتلندي؛ ومواطنه اللورد جون ريث، مؤسس الـBBC؛ وجون بيرد، مخترع أول تلفزة ميكانيكية؛ مروراً بالسير جيمس ماثيو باري، كاتب “بيتر بان”، إحدى أكثر حكايات الأطفال رسوخاً في الذاكرة الإنسانية؛ والدكتور إيان ويلموت، صاحب النعجة الشهيرة دوللي، وأوّل استنساخ من هذا الطراز في التاريخ؛ وانتهاءً، أخيراً وليس آخراً، بالممثل المخضرم شون كونري، في عشرات الأدوار الخالدة، قبل جيمس بوند وبعده.

وإذا جاز اعتبار القرار الاسكتلندي انحناءً أمام إغواء البقاء ضمن الكتلة الأكبر، فإنّ من المشروع أيضاً أن يكون تجسيداً جديداً لخيار عتيق، سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي؛ أطلق عليه جون كينيث غالبرايث، المفكر الاقتصادي الكندي ـ الأمريكي الكبير، تسمية “ثقافة الرضى”: جسم إيديولوجي اجتماعي ـ اقتصادي يلبس لبوس الديمقراطية (حين لا تكون هذه خيار مجموع المواطنين، بل أداة أولئك الذين يقصدون صناديق الاقتراع دفاعاً عن امتيازاتهم الاجتماعية والاقتصادية)، ويفرز أجهزة حكم لا تنطلق في تطبيقاتها السياسية من مبدأ التلاؤم مع الواقع والحاجة العامة، بل من طمأنة الخلايا الدقيقة المنعمة والراضية، أو البائسة والراضية، أو القلقة والراضية… التي تصنع الأغلبية الناخبة.

الموقف من الزمن التاريخي (أي ذاك الذي يرتد إلى الماضي من المستقبل، مروراً بالحاضر) هو إحدى السمات المكوّنة في لاهوت ثقافة الرضى التي تحدث عنها غالبرايث. إنها لا تنكر التأزّم (حيث يتعذر الإنكار)، لكنها تسعى إلى تأجيل الفعل اللازم لحلّه، وتنحي جانباً كل ما يثير الاضطراب: مظاهرات، اضرابات، نتائج انتخابية تقلب المعادلات الراسخة رأساً على عقب… واليوم، بعد مرور قرابة ربع قرن على نظريات انتهاء التاريخ مرّة وإلى الأبد، ليس عسيراً أن نشهد استقطابات جذرية تتحرّك في السطوح الأعمق من السياسة اليومية، الميدان المعلن الذي يتبدّى فيه عجز الاقتصاد الرأسمالي عن تطويع الحياة اليومية.

والحال أنّ الفخار القومي الاسكتلندي، فضلاً عن فصول دامية حكمت علاقة البلد بالتاج البريطاني، ورداءة قوانين التقاسم الراهنة إجمالاً، كانت كفيلة بترجيح الـ”نعم”، الاستقلالية؛ لولا أنّ إغواء التكتل رجّح الكفة، مقابل هواجس الانفصال والانعزال. والأرجح أنّ الملفّ لن يُطوى تماماً، ونهائياً، حتى إذا احتاج إلى جيل بأكمله، وثقافة أخرى أكثر انعتاقاً من رهاب الحاضر، كي يُفتح مجدداً… على مستقبل جديد.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى