صفحات الناس

اسمها.. عايدة

 

ديانا مقلد

ننظر إلى الصورة ولا نقوى أن نشيح ببصرنا عنها.

أول ما نقع عليه هو عيناها الخضراوان تتضرعان وذاهلتان من الألم، فيما جفت الدماء على جانبي وجهها الذي تلفه الضمادات، وكفها مرفوع أمام وجهها كمن يذود عن نفسه خطرا داهما لكنه واقع لا محالة.

وجهها ولا شيء سواه في الصورة، فتشدنا تلك النظرة، وتلك الدماء التي جفت وامتزجت بلون بشرتها، والأخاديد التي حفرتها والتي ستبقى طويلا في الذاكرة.

إنها صورة سيدة سورية من إدلب فقدت ولديها وزوجها في قصف لقوات النظام. واحدة من مجموعة من الصور عن يوميات الألم السوري التي نالت جائزة «بوليتزر» الرفيعة للصور الصحافية الأسبوع الماضي. لقد نالت صور الموت السوري نصيبا وافيا من الجوائز هذا العام أيضا. فكيف يمكن لصورة الأب الحلبي المتربع على الشارع مطأطئا باكيا حاضنا جسد ولده المضمد الذي غادرته الحياة أن لا تبقى تصيبنا بالوجع كلما استعدناها؟

لكل حرب صورها وأيقوناتها الخالدة.

إنها تلك الصور التي باتت تستوطن في الذاكرة الجماعية، فبتنا لا نستذكر حربا بعينها، أو فاجعة ما، من دون استعادة هذه الصور. كيف نستعيد حرب فيتنام من دون صورة الفتاة الصغيرة تركض وتصرخ من الألم بعد قصف النابالم؟ أو مجاعة السودان من دون صورة الطفلة التي تزحف ببطء على الأرض فيما يتربص بها على بعد أمتار نسر ينتظر موتها؟ هذه الصور وغيرها ساعدت كثيرا في جذب انتباه العالم وحثه على فعل شيء ما.

وحدهم السوريون قليلو الحظ، إذ لم تنجح كل تلك المشاهد والصور التي ملأت سمع وآذان العالم في أن تحد من كلفة الموت في بلدهم، ولا أن تحرك ساكنا لدى النظام البعثي في دمشق.

هذه الصور التقطها مصورون محترفون، وساهم في تحققها نظام قاتل. نظام ليس من الغباء بحيث لا يقدر قوة الصورة وأثرها، لكنه بلغ حدا من الجنون والعنف بحيث يعتقد أنه قادر على اختراع ما يريد من تلك الصور.. كيف لنا مثلا أن نفهم ذلك الفيلم المعد بعناية فائقة لمناسبة عيد الأم في سوريا، والذي تظهر فيه السيدة أسماء الأسد تحتضن أمهات جنود سوريين قتلوا في معارك النظام؟

السيدة الأسد ظهرت في قصرها بقاماتها وابتسامتها العريضة تحوط النساء وتهتم بهن مستغلة مأساتهن. لم ينس قسم الإعلام الخاص بالسيدة الأولى أن يظهرها مشرقة وبأحدث كاميرات التصوير، وبكادرات محترفة، وبلمسات إخراجية فنية، بحيث نعتقد أن أسماء الأسد هي من فقدت عزيزا، ولكن بقالب درامي يجعل من المقبول لأمهات سوريا أن يفقدن أبناءهن في سبيل الوطن ظاهرا، لكنه في الحقيقة في سبيل العائلة.. عائلة الأسد.

صورة سيدة إدلب والصور التي نالت جائزة «بوليتزر» هي صور عابقة بالألم والغبار والدم، أما صورة السيدة الأولى فهي ناصعة تلمع، لكنها لشدة لمعانها باتت بلا حياة.. مغرقة في القسوة.

صور أسماء الأسد مصنوعة ومشغولة لتخاطب ما تفترضه العائلة رأيا عاما يعنيها، فيما صورة سيدة إدلب صنعتها آلة حرب العائلة.

سيدة إدلب المفجوعة اسمها عايدة.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى