صفحات الثقافةعزيز تبسي

اصطفاء الخراف وذبحها!!/ عزيز تبسي

 

 

قالت بصوتها الأليف، في وصية للجزار الواقف بسترته البيضاء، التي تصل إلى ما تحت ركبتيه:

-لا تعذّب الخروف قبل ذبحه، ولا تذبح الخروف أمام إخوته!!

لم تتيقّن إن كان سيأخذ بوصيتها أم لن يأخذ بها، فللجزارين، كما لسواهم من أصحاب المهن، مناهجهم. استدارت بعدها، وكأنها مغمضة العينين، بعدما أبلغت رسالتها وأتمّتها، لتعود بخطوات متمهّلة إلى غرفتها، في عمق البيت.

وكان أولادها الصغار يتحلّقون حول الرجل البدين، لا لينظروا إلى الخروف المصطفى الذي لم يمدّد بعد على الأرض، ولا إلى سكينيه اللتين تُشحذان بسحجهما المتقن ببعضهما، بل إلى عيون إخوته التي تنظر بخوف وضراعة إلى أخيهم المختلج بين يديه، وهما ترفعانه بشد متين على فرائه. تعقّبوا حركة حذائه الأسود المدبّب الرأس، الذي تهيأ ليدوس بقوة وثقل على القائمتين الخلفيتين والأماميتين، ويثبتهما فوق صلابة الإسفلت.

بعد هذه الحركات المتقنة، رفع الرجل جذعه إلى الأعلى، انتظر محركاً سكينيه في الهواء. شحذهما ببعضهما، شاغلاً الوقت باحتراف الخبير، مترقباً دنو لحظة استسلام الكائن الضعيف، وفقدانه أي أمل بالنجاة.

قرفصوا تباعاً، ليضعوا عيونهم في عيون الخراف المتبقية. رأوا صمتها المخنوق بقضمات الأعشاب البرية، التي كانت قد هيأت أبدانها الفتية لهذا الذبح الواثق، وفكوكها المطبقة بانقباض متوجّس، كأنها نسيت لوهلة غريزة الاجترار، عيونها المفتوحة على مسيل من دموع يعتصرها حنان آدمي، ثغاؤها الفردي المتقطع، كنداء أخير لاستنهاض الأخ المصطفى الممدد. ثم، ثغاؤها الجماعي اليائس في وداعه، بعد عبور السكين الصقيلة على عنقه وتدفق الدم من حلقومه وشريانيه.

-2-

لم يخطر في بال من كانوا يرتجفون لهذا الذبح، معزين أحزانهم بنسيان يأتي على هيئة ولائم، من لحوم مشوية، وأطباق تتوّج برؤوس الخراف وأفخاذها، تواكبها أفراح عائلية، وهذيانات موسيقية وبلاغات لغوية، ينسبها من يأتون بها إلى الغناء، أنهم سيوضعون في يوم ما، في مكان الخراف.

قدر الخراف أن تكون ولائم، لكن ما هذه الأقدار التي آلت بوضع البشر إلى موقع الخراف؟

الموت مآل لتهتّك البدن وفقدان صبره على الحياة. لكن ما يحصل ليس موتاً، بل عقوبة الموت المبكر، أو قتل لأناس في ريعان الصبا، تحصل تحت غطاء عقائدي، هي أشد إيلاماً ووحشية من القتل ذاته، فضلاً عما يسبقها ويتلوها من إهانة للمقتول وتصغير شأنه، بإذلال عقيدته التي ورثها، أو تلك التي حصل عليها بالمعرفة والسجال، أو بذاك البصق على أصله وفصله.

كلها مقدمات للوصول إلى ضرورة تمزيقه بالسكاكين، وإكمال هذا القتل المهين، بتجريده من ثيابه كلها أو بعضها، وتركه في العراء بلا دفن، سيراً على نهج الضواري التي لا تدفن طرائدها التي تمزقها بأنيابها. تركه في العراء، يعني تركه لتمزيق وحوش البرية، التي تجذبها رائحة الدم واللحم، ليتبدد أثره ويضيع الوصول إليه، في غاية مضمرة لتجريد القتيل الأعزل من القيمة المعنوية للدفن، الذي لم يكن سوى إيذانًا بعودته إلى التراب، الذي منه تكوّن قبل هجوع حمامة الروح إلى استيطان جسده المخذول.

أهو وقوع تحت سطوة “فوران الدم”؟ ما الذي يدفع الدم للفوران، كسائل في مرجل تؤججه النار وتتأجج فيه؟ أبذاك النفير الذي يخرج الأحقاد العمياء من أوكارها، وتركها تخبط كبهائم دائخة كل ما يصادفها، والاستسلام بعد ذلك، بإظهار العجز عن السيطرة عليها؟

فات عصر إخفاء الجرائم والتستر على القتلة، فالمجرمون اليوم يصورون جرائمهم بالتقنيات الحديثة، ويتفاخرون بها، ويروجونها كنمط عقابي ووعود أشد جهنمية من جهنم، لذلك ما من ضرورة للكلام عن تضليل العدالة، كناية عن القضاء، بافتراض وهمي آخر يضاف لسلسلة الأوهام التي تروج عن السلطات الثلاث، فلا عدالة حاضرة بثقلها المادي والمعنوي، حتى يتنكب المرء عناء تضليلها.

لا قول جديد إن قلنا ليس القتل لمعاقبة المقتولين، المفتونين بملمح جديد للحياة فحسب، وإنما لترهيب من تغريهم تجربتهم. وهو بمثابة إعلان دموي عن العقوبة المنتظرة.

لم يعد يهم من استوطن الرعب في قلوبهم، وأمسوا لا يخافون الموت فحسب، بل الحياة أيضاً، أن نذكرهم ببعض من عبارات علماء الاجتماع، الرافلون في سكينة العزلة: “إن قتل الإنسان من دون إيلامه، خير من إيلامه من دون قتله”.

جفلت قلوبهم من تلك الوعود المهددة بالموت الشنيع. يعودون إلى ذكريات “السكين الشاطرة”، أي السكين المجلوخة على الحجر، المدببة الرأس، الصقيلة الجذع، التي تذبح من دون ألم. قبل أن يواكبوا زمن “القنابل الذكية” من دون التيقن ممن يطلقها، الذي قد يكون قليل الذكاء.

لا تُعرف منابع المزاج الرائق للقتلة، ليفحصوا بعناية، المختونين من غيرهم، الموشومين من الذين بقيت أذرعهم من دون عبور إبر الوشم وحبره الأزرق، كرغبة في تعزيم هذه الأجساد العزلاء وتحصينها ضد الشرور. القبض المتأني للأعناق وتقليبها، لتحري القلادات المتدلية، واستنطاق دلالاتها الدينية أو سواها.

” ولا بدّ من نسيان بعض العبارات المريبة وغير المكتملة التي باتت تقرع الآذان، من مثل: “ما في ألذ من الذبح”، التي تغفل ماهية الذبيح، أهو خروف أم دجاجة أم إنسان أعزل رمته أقداره بين السواطير؟ وتلك العبارة المرعبة “كم زبون باق عندنا”؟ والمقصود الناس المدرجة أسماؤهم على قائمة الذبح. وكأنه نكوص إلى زمن البدائية، لأن الشرائع تأتي بعد البدائية لا قبلها.

ولم يعد مجدياً الحديث عن تلطيخ الشرائع والأخلاق والتاريخ بالدم، بعدما غرق الناس فيه. كما لم يعد من المفيد تذكير الذباح بالنداء الاستغاثي الملهوف لتلميذ المدرسة الابتدائية “أنا رفيق ابنك بالمدرسة يا عمو”. لكن قد يكون من المجدي التذكير: بأن من تذبحونهم ليسوا خرافاً.

-3-

– لماذا رميت الولد من نافذة الطابق الخامس؟

– بعدما قتلنا عائلته كلها؟ الموت رحمة له، ولمن هم في مثل حالته، أتريدنا أن نتكفّل به؟

عزيز تبسي حلب شباط 2016

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى