صفحات المستقبلمازن عزي

اصطناع الكيان السوري وخرابه/ مازن عزي

 

 

من اتفاقية “سايكس-بيكو” في العام 1916، إلى “معاهدة سيفر” ومؤتمر “سان ريمو” في العام 1920، تم تقاسم تركة السلطنة العثمانية، في المشرق العربي، بين فرنسا وبريطانيا. رُسمت الحدود، وتم إعلان سوريا دولة مستقلة تحت الانتداب الفرنسي الذي سرعان ما قسّمها إلى دويلات صغيرة، على أسس مناطقية ومذهبية، بعد أن نسف مقررات “المؤتمر الوطني” ومملكة فيصل حديثة العهد. الانتداب عاد ووحد الجغرافية السورية على شكلها الحديث، بعد ما واجهه من صعوبة في الملاءمة بين مصالحه وفهمه للدولة الحديثة، وما اعتاده السكان من طرق الحكم خلال الخلافة الإسلامية.

وباستثناء لجنة كينغ-كراين التي عيّنها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون، عام 1919 للوقوف على آراء أبناء سوريا في مستقبل بلادهم، لم يسأل منتصرو الحرب الأولى والثانية، المكونات البشرية السورية عن رأيهم في نظام الحكم الذي يريدونه، ولا المساحة الجغرافية لبلادهم. فالتقسيم القسري لأرض الخلافة الإسلامية العثمانية، انتزع سكانها من سياق تطورهم البطيء، وفرض عليهم نمطاً جديداً مصطنعاً من الحكم؛ الدولة الحديثة. اعتياد السكان على نظام حكم “الخلافة الإسلامية” لأكثر من 13 قرناً، تم تغييره بقوة خارجية، من خلال فرض الحداثة عبر الاستعمار.

قد لا تكون المشكلة في التقسيم للجغرافية السورية-العراقية، بقدر وصلها؛ ففصل حلب عن الموصل كان قطعاً لعمق سكاني-تجاري تاريخي، لا يماثله في السوء سوى توحيد حلب ودمشق، الغريمتين التاريخيتين. فتاريخ المدينتين، كان تاريخ مدن-دول، غالباً ما احتربت وتنافست، ولم تكن يوماً في معرض الوحدة. انعكس ذلك سريعاً على دولة الاستقلال، في النزاع البرلماني بين “حزب الشعب” الحلبي والـ”حزب الوطني” الدمشقي، الذي تطور إلى استقواء خارجي ببغداد والقاهرة. الخلاف بين المدينتين-الدولتين، سمح بصعود مدينة وسطى كحماة، وتسبب في وصول الجنرال أديب الشيشكلي، والمنظر الفلاحي أكرم الحوراني، إلى الحكم بعد سلسلة انقلابات عسكرية.

في المكتوم من تاريخ سوريا الحديث، يمكن متابعة تناوب صعود المدن لحكم الكيان السوري، المصطنع والموحد خارجياً؛وفيه ثمة انزياح كبير لهيمنة المدن، على حكم البلد. وإذا كانت السويداء ذات الأغلبية الدرزية، قد لعبت دور المحرك التاريخي للوحدة السورية، والانقلابات على هيمنة المدن الكبرى، طيلة العقدين الأولين بُعيد الاستقلال، فاللاذقية ذات الأغلبية العلوية برزت منذ منتصف الستينات، كمدينة طرفية سيادية. هيمنة اللاذقية على الدولة السورية أصبحت عنواناً لتاريخ سوريا المعاصر، وسيطرة لأقلية مناطقية على البلد.

الإمبراطورية العثمانية كانت قد تمكنت من حكم الشعوب السورية، بعد تطوير كبير لنظام “الملة”، أدارت من خلاله النزاعات بين المناطق والطوائف والمذهب والأعراق، مع حفظ هوامش واسعة للحكم الذاتي، مقابل دفع الضرائب والالتحاق بالعسكرية. لكن بقية نظم الدولة السورية الحديثة، المطعمة بهيمنة المدن، لم تتمكن من توحيد السكان، ولا تطوير هوية وطنية سورية. فقد ظل الهوى متنازعاً بين “الهلال الخصيب” و”سوريا الكبرى” و”الوحدة السورية-المصرية”، وصولاً إلى النظام الشمولي الذي صممه حزب “البعث العربي الإشتراكي” وطوباويته المعنونة بـ”الوحدة العربية”.

وإذا كان عسف الانتداب الفرنسي قد تسبب بثورة صنعت بوادر هوية وطنية سورية، فإن دولة الإستقلال وما رافقها من صعود هويات جزئية مناطقية-عرقية، قد ساهم في تفكيك الهوية الوطنية وتحويلها إلى قضية مأزومة بلا مشروعية. كما أن نظم الحكم “الحداثية”، ومؤسسات الدولة المفروضة قسراً، ظلت تركيباً فوقياً لم يتحول إلى سياق طبيعي متداخل بحياة الناس؛ فالدولة لم تمثل لأغلبية الشعوب السورية، سوى أداة قهرية، بيد نخب عسكرية ذات خلفيات مناطقية أو طائفية، أو كليهما. الأمر الذي ظهر جلياً للعيان، في المناطق “المحررة”، حيث تجلت سهولة التخلي عن مؤسسات الدولة، وتدميرها، والاستعاضة عنها بمؤسسات بديلة، أكثر شبهاً بطبيعة السكان. فـ”القضاء الشرعي” بات نموذجاً معمماً في جميع المناطق الخارجة عن سلطة الدولة. والدولة نفسها، حُشرت في بوتقة النظام، الذي انقلب بدوره إلى مجرد مؤسسة عسكرية-أمنية تُدار من قبل فريق أقلوي.

في التوحيد القسري للشعوب السورية، مع تناوب تسلط مجموعات أقلوية (مناطقية أو طائفية) على دولتها “الحداثية”، كمنت عوامل انقسام سوريا الكامن. ومع الفوضى التي رافقت “الربيع العربي”، تصدعت البنية الشمولية لحكم نظام الأسد، ما فتح المجال واسعاً لاستعادة الهويات المناطقية والإثنية، ومحاولات إنسلاخها عن كيان سوريا السياسي. وفي ظل تعنت النظام في التسليم بتغير الواقع، قام بتدمير معظم منجزات دولة الإستقلال ودولة “البعث”، وتحويل الشعوب السورية إلى نازحين ولاجئين. كما برزت مشاريع شمولية تسعى إلى توحيد قسري جديد، من باب الحكم الإسلامي، الذي يمثل تنظيم “الدولة الإسلامية” أقصى نماذجه الإقصائية العنفية.

تركة السلطنة العثمانية، بعد تقسيمها وتشكيل كيانات سياسية مصطنعة، لم تتمكن من الحياة فعلياً إلا من خلال ديكتاتوريات عسكرية علمانية شكلاً. هذه الديكتاتوريات لم يعد بامكانها الاستمرار، بعد الإطاحة الأميركية بصدام حسين، وردات “الربيع العربي”. وإذا كانت الامبراطورية الأميركية، في طورها المتراجع، تحاول الانسحاب من عالم الفوضى الذي يعم الشرق الأوسط، فإنها تتيح للاعبين إقليميين إذكاء نزعاتهم الإمبريالية، دفاعاً عن “أمنهم الإقليمي”. ما يشير إلى أن فوضى الكيان السوري، ستستمر زمناً طويلاً، وقد تخلي المجال جدياً لتفكيكه.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى