صفحات الثقافة

اعتذار عباس بيضون/ عباس بيضون

 

 

لم أجادل حينما تلقيت دعوة لحضور ملتقى الشعر في القاهرة، فقد سبق أن حضرت ملتقى كان فيه محمود درويش وسعدي يوسف. ثم انه الشوق إلى القاهرة وأصدقائي فيها جعلني أرتجل القبول ولا أفكر في تبعاته، ثم رُشحت للجنة التحكيم، وهذه المرة كان عليّ أن أفكر وأن أستشير لكني نمت عن ذلك، فقد بقي في خاطري الملتقى الأول الذي شهدته وشهدت فيه شعراء لا أشك في شاعريتهم. أما الذين لا يرضونني كشعراء فهم في كل ملتقى وكل مؤتمر ولا عبرة في وجودهم. ثم حدث أن سافرت إلى «السليمانية» في كردستان العراق السبت الماضي، وهناك أمضيت خمسة أيام لم أتصفح فيها جريدة ولم يصل إلى علمي ما يحدث بخصوص ملتقى الشعر. عدت البارحة فقرأت وأنا في الطائرة مقالة في «السفير» للزميل الصديق محمد شعير فهمت منه أن أدونيس وسعدي يوسف اعتذرا عن عدم الحضور، وليس هذا بلا سبب، ثم علمت أن عبد المنعم رمضان وهو من شعرائي المفضلين، ومعه سرب آخر من الشعراء المصريين اعتذروا أيضاً عن عدم الحضور، وليس هذا بلا سبب أيضاً. قلت في نفسي ما شأني أنا بملتقى يغيب عنه هؤلاء، لأسباب لا أشك انها تعنيني كمثقف وتعنيني كشاعر. شكرت في قلبي الزميل الصديق على مقالته تلك، التي لولاها كنت سأطير إلى القاهرة السبت القادم، لأشارك في الملتقى كشاعر وكمحكم.

لا أريد أن أعتذر عن عدم الحضور تضامناً مع أحد ولكن تضامناً مع نفسي، لقد حضرت الملتقى الأول كشاعر وشاركت في إحدى أمسياته بقصيدة. أما الآن فإنني أحضر كمحكّم، في ملتقى تكاد تكون الجائزة غرضه الأول. أحضر، إذا حضرت، لأجد نفسي من غير إرادة في الجهاز الذي يفعل ويقرر، ولأتحمل، من دون إرادة، مسؤولية عما يتم تقريره، سواء كنت من رأيه أم لم أكن، فقد قرره جهاز أنا عضو فيه وليست المسؤولية فيه فردية، فما يجري تقريره هو ثمرة نقاش تدرج فيه الجميع إلى هذه النتيجة. لقد آثر شعراء مهمون، من أجيال مختلفة، أن لا يحضروا ملتقى حجب جائزته ذات يوم عن سعدي يوسف، الذي كان من رأي محمود درويش، الذي صارت إليه جائزة الملتقى الأول، انه أهم الشعراء العرب. فمن أنا لأحضر وأشارك، على رأيي في الشعر وعلى تجربتي فيه وعلى نظرتي للعالم وللثقافة وللأجهزة الثقافية وغير الثقافية. ألست في هذا أخون نفسي وأخون معها الشعر، بكل ما عنى لي وما كانه في نفسي وفي حياتي.

فهمت من مقالة محمد شعير أن الدورة الحالية للملتقى وهي الدورة الرابعة، توازن بين شاعرين هما سيد حجاب وإبراهيم أبو سنة. لست أحسب أن أمراً كهذا يستحق أن يكون له ملتقى، والأحرى في مثل هذه الحال أن نخفي رؤوسنا عن الشعر، وأن لا نشهد فيه الشهادة التي تعني فقط انه تقهقر وتجرجر وساءت حاله ورثّ. ألا يعني هذا أن عقوداً من الشعر جرى إهمالها وأجيالاً ثم تجاوزها، وتجارب رائدة نجرؤ على عدم الاعتراف بها. كأننا لم نفعل سوى نسيان تاريخ الشعر الراهن ورميه خارجاً. هذا بالطبع يحدث، إذا حدث، من دون الاكتراث بأن الأعين لا تزال مفتوحة، وأن ما تراكم في زمننا الراهن من تجارب وألوان وأجيال شعرية قد صار معروفاً بما فيه من آثار وأسماء، وأن الغض عنه وتجاهله لن يكونا سوى عبث في عبث. لن يكونا سوى تحايل ممجوج، وتلاعب بحت.

الشعر لمن يشتغل فيه ولمن يهمه ولمن تكرس له، أمر أكبر من ذلك. الثقافة أيضاً، في مجتمع لا يسلمها للأجهزة ولا يتلاعب بها، أمر أكثر أهمية من أن نتجاهل تاريخه، وأكثر اعتباراً من أن نتناوله بيد طائشة ونظرة سريعة. لقد صارا تاريخاً وينبغي أن نتناولهما كتاريخ نحذر أن فيه نتعثر ونحن نخطو فيه، نحذر أن نخطو فيه جزافاً، وأن نتبسط فيه بحيث يغدو قشرة برانية، وبحيث نتناوله كأن لم يمر عليه زمن وكأن لم يكن فيه أوائل وأواخر، وكأن لم يحدث فيه تفاعل ولم يسفر عن قيم وعن مواقع وعن حدود.

إذا كانت هذه الدورة مصرية الجائزة، مع انني لا افهم هذا التصنيف بين عربي ومصري، ألم يكن في مسار الشعر المصري «أصوات» و «إضاءة» ألم تكن فيه قصيدة النثر، ألم تتعاقب فيه أجيال فلماذا الإصرار على عدم النظر إلا إلى بقايا طور لم تكن أساسية فيه. وكيف لمثلي أن يشترك في تنصيب من لا يستطيع قراءتهم.

شوقي إلى مصر وإلى أصدقائي الشعراء فيها يظل راهناً لكنني أعتذر لهم أولاً من أنني لن أحضر شاعراً ولا محكّماً.

السفير

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى