صفحات الثقافة

اعتراف الجلاد

 

نديم جرجوره

يستحيل أن يُثمر كلُّ لقاء بين جلاّد وضحية، في بلد معقود على عفو عام على الجرائم كلّها، شيئاً جيّداً. يستحيل أن يُنتج كلُّ لقاء بين هذين الطرفين أي شيء إيجابي، في بلد منذور للنسيان، ولانعدام مخيّلة ابتكار حياة. يستحيل أن يؤدّي كلُّ لقاء بينهما إلى ما يُغسل الثاني من بشاعة الأول، وإلى ما يُنقذ الأول من غضب الثاني، في بلد لا يريد ذاكرة، ولا يسعى إلى مصالحة، ولا يرغب في التئام جراح.

هذا واقع. البلد مقيم في جحيم حربه الأهلية المستمرّة. لا مجال لاعتراف يليه اعتذار تليه مغفرة. لا مجال للغفران في بلد لم يتجرّأ أحدٌ على قول المبطّن المشبع بالدم والجثث والحرائق والتغييب. لا مجال لإنقاذ الجلاّد والضحية من صدامهما الدائم، طالما أن الأول متشبّثٌ بالصمت، والثاني رافضٌ النسيان. قليلون هم رافضو النسيان في بلد يُبنى على اتلاف كل ذاكرة. قليلون هم رافضو التحرّر من الماضي قبل تسويته، في بلد ترتفع ناطحات السحاب فيه على مقابر جماعية مغيّبة. قليلون هم الساعون إلى هذا الماضي لتنقيته من إجحاد راهن يمنع عليه إعلان نفسه. قليلون هم العاملون على جعل الماضي حاضراً دائماً كي لا تلتهمه تنانين مال وإعمار وطوائف. لكن هذا وحده لا ينفع. هذا وحده لا يبلغ مبتغاه. فالجلاّد متمسّك بماضيه الدموي، مغيّباً إياه في شعارات آنية كاذبة، يُصدّقها مريدوه لجهل أو لعشق نسيان مطلق. والضحية متمسّكة بحقّها في كشف ما حصل، كي يستقيم موتها وهناؤها.

«جرأة» جلاّد قال اعترافاً منقوصاً وقدّم اعتذاراً ملتبساً، لا تعني نهاية الغضب في ذات الضحية. لا تعني أجوبة واضحة عن أسئلة معلّقة. لا تعني مغفرة لا تكتمل من دون إماطة اللثام عن كل مخفيّ. «جرأة» مفضوحة برفض صاحبها الجلاّد الذهاب باعترافه إلى أعماق الحكاية وخواتيمها. «جرأة» مدّعية، تريد تنقية روح صاحبها الجلاّد، من دون أن يسعى صاحبها الجلاّد إلى المساهمة في تنقية أرواح الضحايا. تنقية أرواح الضحايا تعني أن يُصبح موتهم حقيقياً. أن يُصبح غيابهم معلوماً. أن تُقال وقائع الأشياء كما هي. الجلاّد يريد خلاصاً ذاتياً لنفسه فقط. هذه أنقى صورة للجلاّد وأصدقها. هذه ذروة الأنانية. هذه ليست توبة. الجلاّد يريد تحرّراً ذاتياً من ماضيه الأسود. هذا لا ينفع، وإن أمضى ما تبقّى من عمره داخل معبد، أو أمام مذبح. الخلاص والتحرّر لهما طريق واحدة فقط: اعتراف كامل. أما الباقي، فافتراء وتحايل وخديعة. لا تنفع الصلاة. لا ينفع ترداد «فعل الندامة» ملايين المرّات. هذا كذب على الذات لا تُصدّقه الضحية، ولا تنبهر به.

مأزق بلد كهذا كامنٌ في أن الجلاّد يتفنّن في تطوير ذاته كجلاّد. في تطوير أساليب عمله كجلاّد. في اعتقاده أن هذا كلّه قابل للتصديق، وإن صدّقه كثيرون.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى