صبحي حديديصفحات سورية

اغتيال الحريري والتسع العجاف/ صبحي حديدي

كان انسحاب النظام السوري، عسكرياً وأمنياً، من لبنان، هو العاقبة الأولى الأبعد أثراً أيضاً، محلياً وإقليمياً ودولياً، وراء اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، في مثل هذه الأيام قبل تسع سنوات. وفي أصل التأثير أنّ دخول النظام إلى لبنان، صيف 1976، كان النقلة السياسية والعسكرية الأهمّ في تاريخ “الحركة التصحيحية”، التسمية الرسمية للانقلاب الذي قاده حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970.

انسحاب 2005 كان، استطراداً، يستكمل تلك النقلة نحو الوجهة المعاكسة إذا جاز القول، أي تجريد النظام السوري ـ ببطء تارة وبتسارع دراماتيكي طوراً، ولكن على نحو مضطرّد إجمالاً ـ من المغانم والأوراق والقوى والحلفاء وهوامش المناورة الإقليمية. ومن الإنصاف القول إنّ انحطاط نفوذ النظام في لبنان كان قد بدأ مع سحب الملفّ اللبناني من يد عبد الحليم خدّام، نائب الأسد الأب آنذاك، وتسليمه إلى الأسد الابن كجزء من ترتيبات إعداد الفتى لخلافة أبيه (وبالطبع، غنيّ عن القول إنّ الانحطاط لم يبدأ لأنّ خدّام كان أرحم باللبنانيين من الأسد الوريث، بل على العكس تماماً: الأخير كان في طور التلقين وألعاب الهواة، وكان الأوّل أشدّ شراسة وأكثر تشدداً).

غير أنّ وفاة الأسد الأب، في حزيران (يونيو) 2000، خلقت مناسبة دراماتيكة لكي يصحو اللبنانيون على الحقيقة البسيطة التالية: وجود النظام السوري (“الشرعي والمؤقت” بالنسبة إلى الرئيس اللبناني إميل لحود يومذاك، والمؤقت ولكن اللاشرعي الذي آن أوان إنهائه بالنسبة إلى معظم اللبنانيين)؛ ينبغي ألا يظلّ على حاله السابقة، بعد أن غاب الأسد، صانعه الأوّل، الأعلى دهاءً ومكيافيللية ودموية من وريثه في السلطة.

هذه الحقيقة/ البديهية كانت تقبل، أو تصنع تلقائياً، ذلك الاستطراد البديهي الآخر: إذا تآكل وجود النظام السوري في لبنان ـ سواء نُظر إليه في مستوياته العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية، أو في مستويات أخرى اجتماعية (العمالة السورية، التوترات بين الشعبين، انقسامات اللبنانيين…) أو حقوقية (اتفاق الطائف، القرارات الدولية…) ـ وكفّ عن كونه صانعاً لأوراق القوّة؛ فمن المنطقي، والحال هذه، أن ينقلب إلى عبء على سلطة الوريث، أو ربما كعب آخيل الأخطر في الجسم الذي أطلّ منه الأسد الابن على الكون الخارجي، على الجوار الإقليمي والعالم بأسره.

ومن الإنصاف التذكير، كذلك، أنّ أولى إشارات الصحوة اللبنانية تلك، لم تأت من وليد جنبلاط، أو ميشيل عون (وكان، حينذاك، في صفّ كارهي النظام السوري!)، أو “الكتائب”، أو “القوّات اللبنانية”؛ وطبيعي، أيضاً، أنها لم تأتِ من الراحل الحريري نفسه، لأنه كان أحد أخلص حلفاء النظام السوري. لقد جاءت، ليس دونما مفارقة في واقع الأمر، من مجلس المطارنة الموارنة، الذي أصدر بياناً لافتاً تماماً، في 20 أيلول (سبتمبر) من العام 2000، أي بعد أسابيع قليلة أعقبت توريث الأسد الابن. البيان ذاك أبدى الحرص على “توثيق أحسن علاقات الأخوّة بين لبنان وسوريا”، ولكنّ دلالته الأهمّ كانت التشديد على أنّ الصلة اللبنانية ـ السورية عمادها “علاقات الأخوّة”، ليس أكثر!

في المقابل، توفرت جبهة لبنانية مضادة،، تمثلت أساساً في بيان “اللقاء الإسلامي”، الذي ناهض بيان بكركي، ودافع عن شرعية وجود النظام السوري. والفارق بين البيانين لم يقتصر على انقسام حادّ بين “لا” و”نعم” لذلك الوجود، بل تجاوز اللونَين الأبيض والأسود إلى تدرّجات للرمادي، عديدة ومعقدة! صحيح أنّ الحال جبّت، في قليل أو كثير، فُرَص اشتعال الحرب الأهلية مجدداً؛ إلا أنها استولدت، على نحو نظير، سلسلة استقطابات سياسية واجتماعية ودينية ومذهبية، سوف تعيد إنتاج خطاب، وكوابيس، الحياة اليومية اللبنانية الراهنة.

سنوات تسع عجاف، إذاً، الآن إذْ يكتفي المرء برصد تحوّلات “حزب الله”، وكيف انتهى إلى حيث توجّب أن ينتهي: قوّة بطش عسكرية وأمنية ومذهبية ضاربة، فوق المجتمع والدولة، بإمرة إيران والوليّ الفقيه؛ لا تقتصر مهامها على لبنان، وحده، بل تشمل سورية أيضاً. في عبارة أخرى، خسرت “الحركة التصحيحية” نقلتها الكبرى في لبنان، وإيران تعهدت الخسارة فحوّلتها إلى ربح؛ يظلّ قصير الأجل، مع ذلك، لأنّ سقوط النظام السوري كفيل بقلب المعادلات رأساً على عقب، وهذا تطوّر محتوم، ومسألة وقت فقط.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى