صفحات الرأي

اغضبـــوا!

 

ستيفان هيسيل

ثلاثة وتسعون عاماً. أكاد أكون في المرحلة الأخيرة. النهاية باتت وشيكة. حظي كبير في أن أقدر على الاستفادة من هذه المرحلة، لاستعادة العناصر التي شكلت ركيزة التزامي السياسي: سنوات من النضال وبرنامج «المجلس الوطني للمقاومة» (الفرنسية) الذي أبصـر النور قبل ستة وستين عاماً، وندين في هذا المجلس لجان مولان، (قائد المقاومة الفرنسية) في توحيد كامل أطياف فرنسا، المحتلة آنذاك، من حركات ونقابات وأحزاب، لتعلن التزامها بفرنسا المقاومة، وولاءها للزعيم الأوحد التي اعترفت به حينها: الجنرال ديغول. وهناك من لندن حيث التحقت بركب من التحقوا بديغول في العام 1941، أدركت أن برنامج المجلس ، الذي جرى تبنيه في العام 1944، تضمن باقة من المبادئ والقيم التي ترتكز عليها ديموقراطية بلادنا الحديثة.

نحتاج اليوم إلى هذه القـيم والمبادئ أكثر من أيّ يومٍ آخر. يجب علينا وحدنا أن نسهر على أن يبقى مجتمعنا مجتمعا نفتــخر به: ليس مجتمع المهاجرين غير الشرعيين، والمنفيين، والمشككين في المهاجرين، ولا ذاك الذي نشكك فيه بجدوى التقاعد ومكتسبات الضمان الاجتماعي، أو ذلك الذي توجد فيه وسائل الإعلام بأيدي مرتهنين… وكل تلك الأشياء التي كنا لندينها بشدة لو كنا عن حق ورثة «المجلس الوطني للمقاومة».

بعد مأساة العام 1945 الرهيبة، تضافرت الجهود في إطار «المجلس الوطني للمقاومة» للانخراط في عملية طموحة للنهوض بالمجتمع. وجاء برنامج الضمان الاجتماعي، الذي تمّ إنشاؤه، موائماً لرغبة المقاومة و لما نص عليه برنامجها: «خطة شاملة للضمان الاجتماعي، تهدف لتأمين سبل العيش للمواطنين العاجزين عن تأمين احتياجاتهم من خلال العمل»، و«تقاعد يضمن للعاملين السابقين عيشا كريماً في نهاية حياتهم»، «تأميم مصادر الطاقة، والكهرباء، والغاز، والفحم، والمصارف الكبرى». كما دعا برنامجها إلى «عودة وسائل الإنتاج الكبرى المحتكرة إلى الأمة، ثمرة الجهد المشترك، من مصادر الطاقة والثروات الجوفية وشركات التأمين والمصارف الكبرى»، الى «تأسيس ديموقراطية اقتصادية واجتماعية حقّة تفصل النظام الإقطاعي والاقتصادي والمالي عن مسار الاقتصاد». على المصلحة العامة أن تطغى على المصلحة الفردية وعلى التوزيع العادل للثروات التي يخلقها العمل أن يتقدم على سلطة المال.

قدمت المقاومة «تنظيماً عقلانياً للاقتصاد تذوب فيه المصالح الشخصيّة في المصلحة العامة ويتحرر من الديكتاتورية المهنية التي تتشبه بالدول الفاشيّة».

الديموقراطية الحقة تحتاج إلى الصحافة المستقلة التي اعترفت بها المقاومة وفرضتها ودافعت عنها «كصحافة حرة، نزيهة، مستقلة عن سلطة الدولة، وعن سلطات المال والتأثيرات الخارجية»… هذا والصحافة اليوم هي الأكثر عرضةً للخطر.

دافع المقاومة: الغضب

يحاولون غالباً إيهامنا بأن الدولة غير قادرة على تأمين تكلفة هذه التدابير. لكن كيف يمكن أن تفتقر الدولة للمال الكافي للحفاظ على هذه المكتسبات وضمان استمرارها في حين أن الإنتاج استمر بالتضاعف منذ التحرير وتحديداً بعد الفترة التي كانت فيها أوروبا قد أفلست؟ ذلك أن سلطة المال، التي لطالما حاربتها المقاومة، لم تكن يوما بهذه القوة والوقاحة والأنانيّة، حتى في أعلى مستويات الدولة. فالمصارف التي تمت خصخصتها مثلاً، تخشى قبل كل شيء على الأسهم والرواتب العالية جداً، العائدة لمدرائها لا على المصلحة العامة. لم تكن الهوة الفاصلة بين الأغنياء والفقراء يوماً بهذا الحجم، ولا التسابق او التنافس على الثروة كان مشجعاً إلى هذا الحد.

كان الدافع الأساسي لانطلاق المقاومة هو الغضب. ونحن، قدامى محاربي حركات التحرر والمقاومة في فرنسا الحرة، ندعو الأجيال الشابة أن تعيد إلى الحياة وتنشر من جديد تراث المقاومة وأفكارها. نقول لهم: تابعوا المشوار، اغضبوا! لا يجدر بالمسؤولين السياسيين والاقتصاديين والفكريين ومجمل المجتمع أن يستقيلوا، ولا أن يسمحوا لأنفسهم بالانجرار وراء دكتاتورية الأسواق الماليّة العالمية الراهنة التي تهدّد السلام والديموقراطيّة. أتمنى عليكم جميعاً، على كل واحد منكم، أن يملك سبباً للغضب. إنه أمر قيّم. عندما نغضب لسبب معيّن، كما جعلتني النازية أغضب، نصبح مقاومين أقوياء وملتزمين. نلتحق بمسار التاريخ وهذا الأخير بدوره يستمر بفضل كل واحد منا. إنه مسار يتجه نحو عدالة أكبر، ومزيد من الحريّة، لكن ليست تلك الحريّة غير المنضبطة التي تلقي الثعلب في قن الدجاج. تلك الحقوق التي شرعها الإعلان العالمي في العام 1948 هي للجميع. إذا ما صادفتم شخصاً لا يتمتع بها، فأبدوا أسفا عليه، وساعدوه على انتزاعها.

رؤيتان للتاريخ

عندما أحاول أن أفهم السبب الذي أوصلنا إلى الفاشية، وما الذي جعلنا نتعرّض لغزوها وغزو فيشي، أقول لنفسي إن الأغنياء، بأنانيتهم المفرطة، شعروا بالخوف الشديد من الثورة البولشفية. لقد انساقوا وراء خوفهم. لكن، حتى لو قررت أقلية فاعلة اليوم، كما حينها، أن تنتفض، فهذا كاف، ستكون لدينا الخميرة الكافية حتى تختمر العجينة. من المؤكد أن خبرة رجل مسن مثلي، مولود في العام 1917، تختلف عن خبرة شباب اليوم. أطلب غالبا من أساتذة الثانوية أن يتيحوا لي فرصة التحدث مع طلابهم، وأقول لهم: أنتم لا تملكون الأسباب نفسها كي تشعروا بالالتزام. فبالنسبة لنا، المقاومة كانت أن نرفض الاحتلال الألماني، أي أن نرفض الهزيمة. وهذا أمر بسيط نسبياً. بسيط بمقدار ما تبعه، أي التحرر من الاحتلال. ثم أتت الحرب مع الجزائر. كان من البديهي أن تصبح الجزائر مستقلة. أما بالنسبة لستالين، فقد صفقنا جميعاً لانتصار الجيش الأحمر على النازية في العام 1943. لكن عندما علمنا بالمحاكمات الستالينية الكبرى في العام 1935، وحتى لو كان يتعيّن علينا أن نفتح ذراعينا للاشتراكية بغية مواجهة الرأسماليّة الأميركية، فرضت ضرورة مواجهة هذا النظام الشمولي الذي لم يعد يحتمل كموقف بديهي. لقد منحتني حياتي الطويلة سلسلة من الأسباب لأغضب.

ولدت هذه الأسباب من إرادة حية بالالتزام أكثر مما كانت بدافع العاطفة. لقد علمنا سارتر مقولة نرددها لأنفسنا: «أنتم مسؤولون كأفراد». هذه رسالة تحررية. مسؤولية الإنسان الذي لا يستطيع أن يسلم شؤونه لا لإله ولا لأي سلطة. على العكس، عليه أن يلتزم باسم مسؤوليّته ككيانٍ إنساني. عندما التحقت بالجامعة في العام 1939، كنت من الأتباع المتحمسين للفيلسوف هيغل، وتابعت الحلقة الدراسية لـموريس ميرلوبونتي. كان تعليمه ينصب على اكتشاف التجربة المجرّدة، تجربة الجسد والعلاقات الحسية التي يقيمها، المفرد الكبير بوجه جمع الحواس. غير أن تفاؤلي الطبيعي، الذي يرى كل ما يتمناه ممكناً، مال نحو هيغل. تنظر الهيغلية إلى التاريخ الطويل الذي عاشته البشرية كما لو كان له معنى: إنه حرية الإنسان الذي يتطور خطوة خطوة. قام التاريخ على صدمات متتالية، وعلى مواجهة التحديات. تاريخ المجتمعات يبقى في تطور دائم حتى يصل الإنسان إلى حريته المطلقة، وتقوم الدولة الديموقراطية بصورتها النموذجية.

لا شك في أن هناك مفهوماً آخر للتاريخ. التقدم الذي تحرزه الحرية والمنافسة والتسابق باتجاه «المزيد دوماً»، لكنه قد يصبح إعصارا مدمرا. هذا المفهوم لروح التاريخ يوضحه أكثر صديق لأبي هو الفيلسوف الألماني والتر بنجامين، الذي استخلص رسالة متشائمة من لوحة للفنان السويسري بول كلي تجسد صورة ملاك يفتح ذراعيه كما لو انه يريد احتواء وإبعاد العاصفة التي شبهها بالتقدم. بالنسبة لبنجامين الذي انتحر في العام 1940 للخلاص من النازية، تكمن روح التاريخ في ذلك المسار الذي لا يقاوم من كارثة إلى أخرى.

اللامبالاة: أسوأ المواقف

صحيح أن أسباب الغضب قد تبدو اليوم أقل وضوحاً في عالم يزداد تعقيداً. من يدير؟ من يقرّر؟ ليس سهلاً أن نميّز اليوم بين التيارات التي تحكمنا. لا نتعامل هنا مع نخبة صغيرة نستطيع أن نفهم أفعالها بوضوح. إنه عالم شاسع نشعر جيداً بمدى اعتماد أطرافه على بعضها البعض. نعيش في عالم مترابط لم نشهد له مثيلاً حتى اليوم. لكن هناك أموراً في هذا العالم تفوق الاحتمال. كي تراه عليك أن تنظر جيداً، وأن تبحث. أقول للشباب: ابحثوا قليلاً، وسوف تجدون. أسوأ المواقف تتجسد في اللامبالاة. أن نقول «ليس بيدي حيلة، أتعايش مع الأمر». بتصرفكم هكذا، أنتم تفقدون احد المكونات الأساسية التي تصنع الإنسان. احد المكونات الضرورية: القدرة على الغضب والالتزام الذي ينتج عنها.

يمكننا في هذا الصدد أن نميّز شكلين جديدين لا يستهان بهما من التحديات:

1 ـ الفرق الشاسع بين الفقراء جدا والأغنياء جدا الذي لا ينفك يتزايد. انه ابتكار القرنين العشرين والحادي والعشرين. ان من يعيشون في فقر مدقع في عالم اليوم بالكاد يجنون دولارين في اليوم. لا يمكن أن نسمح باتساع هذا الفرق أكثر. هذا السبب وحده كفيل بأن يدفع إلى الالتزام.

2 ـ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ووضع الكرة الأرضية اليوم. بعد التحرير، حظيتُ بفرصة أن أكون من بين من صاغوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المنبثق عن الأمم المتحدة في العاشر من كانون الأول في العام 1948 في باريس… يعود الفضل في اعتماد مصطلح الإعلان «العالمي» لا «الدولي» لحقوق الإنسان، كما كان يقترحه أصدقاؤنا الأنغلو ساكسونيون لروني كاسان. لأن في ذلك يكمن التحدي الأكبر ونحن نخرج لتونا من حرب عالمية ثانية: أن نتحرر من التهديدات التي أثقلت بها التوتاليتارية العالم. وكي نتحرر منها، كان علينا أن نضمن أن تتعهّد الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة باحترام هذه الحقوق العالميّة. كانت الوسيلة الممكنة للتغلب على حجج السيادة المطلقة التي قد تحظى بها الدول في حين أنها ترتكب جرائم ضدّ الإنسانية على أراضيها. كما حصل مع هتلر الذي كان يعتبر نفسه سيّداً على أرضه وله الحق في ارتكاب مجزرة. هذا الإعلان العالمي يدين بالكثير للانقلاب العالمي ضدّ النازية والفاشية والتوتاليتارية، ويدين أيضاً، عبر وجودنا، الى فكر مقاومتنا (الفرنسية). كنت أشعر حينها بأنّ علينا أن نسرع وأن لا ننخدع بالنفاق الذي كان يحمله إقرار المنتصرين موافقتهم العلنية على هذه الحقوق في حين لم يكونوا يعتزمون جميعهم نشرها بصدق، وفي حين كنّا نريد أن نفرضها عليهم.

لا أستطيع مقاومة الرغبة باقتباس المادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان :«لكل فرد حق التمتع بجنسية ما»، والمادة 22:« لكل شخص بصفته عضواً في المجتمع، الحق في الضمان الاجتماعي، وهي تقوم على قدرة الفرد على الحصول على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا غنى عنها لكرامته وللنمو الحر لشخصيته، وذلك بواسطة المجهود القومي والتعاون الدولي وبما يتفق ونظم كل دولة ومواردها». وإن كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ذا طابع إعلاني تعــريفي أكــثر من كونه قانونيا، الا أنّه تمكن من لعـب دورٍ حاسمٍ منذ العام 1948، حيث رأينا شـعوباً محتلة تتكئ عليه في نضالها للإستــقلال. فــهو قد غذّى أذهان الناس في نضـالهم من أجـل الحرية.

ألاحظ بفخر تنامي عدد المؤسسات غير الحكومية، والمؤسسـات الاجتمــاعية الفاعلة ذات الأداء العالي. لقد بات واضحاً اليوم أننا لنكون فعالين، علينا التحرك ضمن شبكات، والاستفادة من كافة وسائل التواصل الحديثة. للشباب أقول: انظروا من حولـكم، وستجدون حتماً الأسباب التي تبرّر غضبكم- المعاملة المعتمدة تجاه المهاجرين، وغير المسجلين رسمياً… سوف تجدون حالات ملموسة تدفعكم للقيام بتحرّك مدني قوي. ابحـثوا وسوف تجدون!

غضبي حيال فلسطين

غضبي الرئيسي اليوم ينصبّ إزاء ما يحصل في فلسطين، في الضفة الغربية وفي قطاع غزة. هذا الصراع هو مصدر غضب بحدّ ذاته. تتحتم قراءة تقرير القاضي ريتشارد غولدستون في العام 2009 حول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والذي اتهم فيه القاضي اليهودي من جنوب أفريقيا، وهو يعتبر نفسه صهيونيا، الجيش الإسرائيلي بـ «ارتكاب أعمال قد تعتبر جرائم حرب وربما أيضاً، في بعض الحالات، جرائم ضد الإنسانية» خلال العملية العسكرية المعروفة باسم «الرصاص المسكوب» والتي استمرت ثلاثة أسابيع. لقد ذهبت في العام 2009 برفقة زوجتي إلى غزة، وتمكنا من الدخول بفضل جوازي سفرنا الدبلوماسيين. أردت أن أعاين مباشرة ما ورد في التقرير. لم يسمح للأشخاص الذين كانوا برفقتنا بالعبور إلى قطاع غزة. هناك وفي الضفة الغربية أيضاً. زرنا كذلك مخيمات اللاجئين الفلسطينيين التي أقامتها منذ العام 1948 منظمة الأونروا، حيث يعيش أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني، طردتهم اسرائيل من أرضهم وينتظرون عودة تزداد اشكاليةً يوماً بعد يوم. أما بالنسبة لغزة، فهي أشبه بسجن غير مسقوف يعيش فيه أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني. سجن ينظمون أنفسهم فيه للبقاء على قيد الحياة. ما يستحوذ على ذاكرتنا اليوم، أكثر من الدمار الذي لحق بالمباني وأهمها مستشفى الصليب الأحمر الذي قصف في عملية «الرصاص المسكوب»، هو سلوك الغزاويين، وطنيتهم، حبهم للبحر والشواطئ، قلقهم المستمر على راحة أطفالهم الذين يضحكون دوماً. أثّرت فينا كثيراً طرائقهم العبقرية لتخطي الحرمان الذي كان مفروضاً عليهم. رأيناهم يعدّون قطع قرميد مزيفة نتيجة انقطاع الإسمنت حتى يتمكنوا من بناء آلاف المنازل التي دمرتها الدبابات. وتأكد لنا موت أكثر من ألف وأربعمئة شخص بين نساء وشيوخ وأطفال من الجانب الفلسطيني، جراء عملية «الرصاص المسكوب» في مقابل خمسين جريحاً فقط في الصفوف الاسرائيلية. أتشارك مع القاضي غولدستون في خلاصاته.

أن يتمكّن يهود بدورهم من ارتكاب جرائم حرب، فذلك أمر لا يحتمل. للأسف، لا يقدّم التاريخ أمثلة كافية عن شعوب تستقي العبر من تاريخها الخاص.

إنني على يقين بأن حركة حماس التي فازت في الانتخابات التشريعية في الدورة الأخــيرة لم تكن تستطيع ان تتفادى إطلاق الصواريخ على المدن الاسرائيلية وذلك كرد على الحصار الذي يعيشه الغزاويون. وأعلم في الوقت عينه أن الإرهاب مرفوض، لكن لا بد من الاعتراف بأنه عندما نكون تحت سيطرة احتلال يمتلك شتى الوسائل العسكرية التي تتخطى قدراتــنا بأشواط، فان رد الفعل الشعبي لا يمكنه ان يكون سلمياً.

هل تستفيد حماس من إطلاق الصواريخ على مدينة سديروت؟ الجواب هو لا. هذا لا يخدم قضيتها، لكن يمكنــنا تفــسير هذا التصرّف بأنه نتيجة حنق الغزاوي. وفي مفهوم الحنق، علينا أن نفهم أنّ العنف نتيجة مؤسفة لأوضاعٍ غير محتملة للذين يعانون منها. وبالتالي، يمكن أن نقول إن الإرهاب هو شكل من أشكال الحنق. انه الغضب بمعناه السلبي. ليس علينا أن نغضب بهذا الشكل إذاً، علينا أن نأمل. الغضب بشكله هذا إنكار للأمل. هو مبرّر، وحتى أنه طبيعي، ومع ذلك فهو غير مقبول. لأنه لا يتيح الحصول على النتائج التي يمكن أن يحققها الأمل.

اللاعنف هو الطريق الذي يتعيّن علينا أن نسلكه

إنني مؤمن بأن المستقبل ينتمي إلى اللاعنف، إلى المصالحة بين الثقافات المختلفة. هذا هو المسار الذي يجب أن تسلكه الإنسانيّة. وهنا، أعود إلى سارتر، لا يمكننا ان نعذر «الإرهابيين» الذين يلقون القنابل، ولكن يمكننا أن نفهمهم. كتب سارتر في العام 1947: «أعترف أن العنف بأي شكل تجسّد فيه هو فشل. لكنه فشل لا مفر منه لأننا نعيش في عالم من العنف. وإن كان صحيحا أن اللجوء إلى العنف يبقى هو العنف الذي قد يساهم في تكراره، فصحيح أيضاً أنه السبيل الوحيد إلى إيقافه». أضيف الى ذلك أن اللاعنف هو سبيل مضمون أكثر لإيقافه. لم يكن بإمكاننا أن نقدم الدعم «للإرهابيين»، كما فعل سارتر، باسم هذا المبدأ إبان حرب الجزائر أو خلال الاعتداء الذي حصل في الألعاب الأولمبية في العام 1972 على لاعبين إسرائيليين. ليس الأمر مجدياً، وسارتر نفسه تساءل في نهاية حياته عن معنى الإرهاب وشكّك في علة وجوده. أن نقول «العنف ليس مجدياً»، أهم بكثير من أن نعرف إن كان علينا أن ندين أو لا الذين يعتمدونه. في مفهوم الفعالية، علينا أن نعتمد على الأمل اللاعنفي. ان كان هناك من أمل يعتمد على العنف، فذلك في قصائد غويوم أبولينير فقط «كم أن الأمل عنيف»، لا في السياسة. أعلن سارتر، في العام 1980، قبل ثلاثة أسابيع من موته «علينا أن نحاول شرح لماذا عالم اليوم، بكل فظاعته، ليس سوى فترة زمنية في التطور التاريخي الطويل، وأنّ الأمل لطالما كان القوة المسيطرة على كل الثورات وحركات التمرّد، وكيف أنّني ما زلت أعتبر اليوم الأمل تصوّري للمستقبل». علينا أن نفهم أن العنف يسير عكس الأمل. علينا أن نفضل على هذا العنف الأمل. أمل اللاعنف. انها الطريق التي علينا أن نتعلم سلوكها. أكان ناحية الظالمين أو المظلومين. علينا أن نتوصّل الى مفاوضة نزيل بها الظلم. هذا وحده ما يمكننا من تجنب العنف الإرهابي. ولهذا لا يجدر بنا أن نسمح بتراكم المزيد من الكره.

رسالة مثل رسالة نلسون مانديلا، أو مارتن لوثر كينغ تجد قوّتها في عالمٍ يتخطّى صراع الإيديولوجيات والتوتاليتارية الاستعمارية. انّه رسالة أمل في قدرة المجتمعات الحديثة على تخطي الصراعات عبر تفهم متبادل وصبر متيقظ. حتى نصل الى ذلك، علينا أن نرتكز على الحقوق التي على أيّ انتهاك لها، مهما كان مصدره، أن يثير غضبنا. لا يمكن المساومة على هذه الحقوق…

ستيفان هيسيل (1917 – 2013) كاتب وسفير فرنسي سابق. ولد في برلين لأب يهودي وأم بروتستانتية. كان مقاوما ضد الاحتلال الألماني واعتقل في المعسكرات النازية ثم نجا لاحقا بأعجوبة. أصبح احد معاوني الجنرال شارل ديغول، وشارك، قبل دخوله في المعترك الدبلوماسي، في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

الكتيب ترجم إلى 15 لغة، وطبع في 35 بلداً. بيعت منه ملايين النسخ، وتحوّل إلى ملهم لحركات احتجاجية في العالم، كحركتي “المستنكرون” في أسبانيا و”احتلوا وول ستريت” في الولايات المتحدة.

السفير

ترجمة: هيفاء زعيتر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى