صفحات العالم

اغـتـيــال بـلـعـيــد وتصديـر العنـف السـوري

 

ربيع بركات

حين أطلقت الحركة الجهادية باكورة مراجعاتها الفكرية في السجون المصرية أواخر الثمانينيات، درج في أدبيات المراجعين تعبير «عسكرة السلوك الإسلامي». يروي كمال حبيب، القيادي السابق في تنظيم «الجهاد» والمتهم بالتنسيق بين المجموعات التي رتبت عملية اغتيال الرئيس المصري أنور السادات، أن بداية البحث في المراجعة تركزت على الخوض في جدوى العمل العنفي أكثر مما أثارت مسألة صحة هذا العمل من عدمها. حينها، كانت مواقف السادات حيال إسرائيل والتسوية معها كافية لخلق التباس في مبررات عملية الاغتيال. والالتباس هذا نتج عن قراءة «انحرافين» منفصلين للسادات. أولهما سياسي، تمثل في الانعطافة التي رسمها الأخير لتعاطي مصر الخارجي مع «قضايا الأمة»، وعلى رأسها قضية فلسطين، فيما الآخر تمثل بما يشبه «الردة» بالمعنى الثقافي-الديني. وقد تكثفت مبررات «الردة» هذه إثر عودة السادات عن انفتاحه السابق على الإسلاميين (بمعتدليهم ومتطرفيهم) وتسامحه مع أدبياتهم بقصد ضرب الناصريين واليساريين، ومن ثم انتقاصه من رموزهم وأخيراً انقضاضه عليهم (كما على سائر المعارضين) بذريعة الأحداث الطائفية في الزاوية الحمراء وامبابة قبيل اغتياله. هكذا، فاض المسار الانحداري في العلاقة بين السادات والجماعات الإسلامية منذ أواخر السبعينيات الكيل لدى هؤلاء بمثل ما أتم موجبات التكفير لدى بعضهم إثر «التثبت» من انتفاء صفات الحاكم الشرعية، وهو الذي بادر إلى التضييق عليهم وعلى دعوتهم بشكل ممنهج. وفي لحظة التقاطع بين المبررات السياسية وموازياتها العقائدية، وقعت عملية الاغتيال بعدما بهتت الفواصل بين هذه المبررات.

بعد عقد من الزمن، ظهرت فورة مختلفة من العمل العنفي في مصر، أفرزت وضوحاً أكبر في مدلولاتها وفكاً لتعقيدات الالتباس السابق. المستهدف هذه المرة لم يكن المغاير السياسي بل «العقائدي» حصراً. وقد أنتجت هذه الفورة اغتيالات كان من بين مستهدفيها المفكر الليبرالي المصري فرج فودة بعد طرحه مواضيع جدلية حساسة، شكلت لدى مجاميع إسلامية متطرفة «تابوهات» حاذر كثيرون الاقتراب منها. كما شملت تفجيرات أردت عشرات السياح الأجانب، ممن عُدوا مباحين لمغايرتهم العقائدية بالدرجة الأساس. «عسكرة السلوك الإسلامي» في ذاك المفصل التاريخي بدأت تتمظهر على شاكلة مختلفة عن سالفتها، وبصورة أكثر جذرية ومساً بثقافة الآخر وعقيدته وفهمه للمجتمع وللعلاقات بين أفراده. وقد عبر هذا المفصل عن تطور ما كان قد اكتمل في الثمانينيات، تمثل في إنجاز المجاهدين العرب مهمتهم في أفغانستان وتطلعهم إلى تعميم تجربتهم في بلاد المنشأ. وكان لظاهرة «الأفعان العرب»، التي بدأت ترسم تصوراتها المستقبلية قبيل دخول الحركات الجهادية كابول وتوازياً مع الانسحاب السوفياتي منها، أن أعادت رسم تعريفات جديدة للصراع مع «الغير»، كما لساحات هذا الصراع. إذ إن الضخ العقائدي المكثف مصحوباً بالتسهيلات التي قدمتها الإدارة الأميركية في عهد الرئيس ريغان بواسطة عربية وإسلامية، أفضيا إلى خلق فضاء يحوي من التجربة ومكوناتها ما يكفي لتأسيس حالة فكرية وتنظيمية مستقلة، ولإعادة تصدير هذه الحالة إلى المواطن التي رفدتها بالكوادر غير المنظمة مع بداية الجهاد. فكان لاستلهام التجربة وتلاقح الأفكار وعودة الكوادر أن أنتج آثاره في مصر، عنفاً عقائدياً أكثر منه سياسيا.

أحداث التسعينيات في مصر توازت مع استكمال المعتقلين «الجهاديين» مراجعاتهم، ومع وصول تجربة العمل العنفي في الجزائر إلى حائط مسدود وتشظيه عشوائياً من مواجهة السلطة إلى مواجهة المجتمع، وصولاً إلى انحساره تدريجياً، مع انفكاك جماعات العنف الجزائرية عن «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» تماماً. لكن مع بداية الألفية الجديدة، جاء ما يرفد موجة عنف «الحركات الجهادية» بزخم متجدد. فأحداث الحادي عشر من أيلول التي صدّقت مع الإدارة الأميركية بقيادة المحافظين الجدد على قسمة العالم إلى فسطاطين، أنجبت جيلاً من المقاتلين الذين أعادوا الاعتبار إلى التماهي بين المبررات السياسية والعقائدية، كما قبيل اغتيال السادات، وبقدر الالتباس ذاته تقريباً. فكان للصراع مع الغرب «الصليبي» مبرراته السياسية، لكن من دون أن تكون مستقلة عن موجباتها الثقافية. غير أن ارتدادات هذه الأحداث في الوسطين العربي والإسلامي، أعادت الاعتبار إلى الانزياح نحو فهم عقائدي للخصم، الداخلي منه كما الخارجي. في هذا السياق مثلاً أتى اغتيال الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي في اليمن جار الله عمر عام ألفين واثنين، تعبيراً عن هذا الانزياح. إذ إن عمر، كما غيره من الذين كانوا على لائحة الاغتيال ممن أظهرتهم التحقيقات، عدوا مهدوري الدم نتيجة مغايرتهم العقائدية (والثقافية) لا السياسية البرامجية. غير أن اللافت هنا أيضاً، أن هذا الفهم لهوية «العدو» تكثف مع عودة الجهاد العالمي إلى الواجهة بزاده العقائدي المكثف نفسه ورغبته بالامتداد مجدداً نحو دول المنبع، تماماً كما حصل سابقاً مع ختام الجهاد الأفغاني. اغتيال عمر، كما اغتيال فودة في مصر، كان علامة فارقة بهذا المعنى: جاء توازياً مع عودة الجهاديين إلى بلاد المنشأ من أجل ممارسة عنف عقائدي على حساب السياسة. وقد ظهر في العراق التباس مشابه بداية، حيث المواجهة مع قوات «صليبية» محتلة وأعوانها من «الروافض». فاختلط على المجاهد الهدف الأساس، إلى أن اختل ميزانه لصالح العنف العقائدي والثقافي الخالص مع إعلان زعيم القاعدة في بلاد الرافدين أبو مصعب الزرقاوي الحرب الشاملة على «الروافض»، مؤسساً بذلك مع الجماعات الشيعية الطائفية المقابلة مداميك حرب أهلية ما زالت تداعياتها ماثلة حتى اليوم.

غير أن بدايات «الربيع العربي» أنبأت بقرب تحلل ظواهر العنف العقائدي كما السياسي، مع إعادة الاعتبار للعمل السلمي طريقاً للتغيير وتداول السلطة. وأتى ذلك مع تراجع كبير في فعالية تنظيم القاعدة وترهل شبكاته واغتيال قياداته وعلى رأسهم أسامة بن لادن. واستمر الأمر على هذا المنوال إلى أن بدأت مظاهر العنف والعنف المضاد تعنون الأحداث على المسرح السوري. وفي حين كانت الترجيحات تصب في خانة سقوط سريع للنظام السوري، بدا أن شبكة التعقيدات السياسية والاجتماعية أقوى من أن تسمح بهذا السقوط المدوي، وهو ما زخم وتيرة العنف وسمح للجهاديين في العراق باستكمال ما بدأوه هناك في سوريا، حيث الحاضنة الديمغرافية الأوسع نظرياً والظروف الإقليمية والدولية المؤاتية. ومع تضخم دور جماعات العنف التكفيري بدأت بعض دول الغرب تعيد حساباتها، فيما تأخرت دول الخليج وتركيا عن اللحاق بالركب واستيعاب صدمة استمرار الصراع بما يتجاوز حساباتها الورقية. وتراكمت ظواهر العنف وتمأسست حتى بدا أنها إعادة إنتاج للحالة الأفغانية وسلالاتها في العراق والجزائر. ومع عنف النظام، عاد الالتباس الخاص بفهم الجماعات الإسلامية للواقع إلى الواجهة. فهي تواجه خصماً بادر إلى القمع، لكنها لم تستثن في مواجهتها إياه حواضنه الاجتماعية بداية، قبل أن توسع مدار استهدافاتها ليشمل كل من هو مغاير، من حيث الطائفة والمذهب أولاً، فالثقافة الاجتماعية داخل الطائفة ذاتها تالياً.

لقد كان لافتاً أن أحد أوائل المشددين على مخاطر هذه القضية وعلى ارتداداتها المحتملة هو المعارض اليساري التونسي شكري بلعيد. وفي الفيديو الذي تناقلته مواقع التواصل الاجتماعي بكثافة بعيد اغتياله، جملة من المداخلات التلفزيونية التي كان قد حذر فيها من ارتدادات العنف التكفيري على البلاد المصدرة «للجهاديين»، ومنها تونس. وهو حدد المقصود بقوله إن التجييش يأتي بقصد القتال في معركة يديرها الكبار الدوليون، لا شيوخ الشحن ولا المقاتلون المشحونون بخطاب العنف والكراهية. وهو ركز على أن هذا الشحن سيترجم نفسه في دواخل الدول المصدرة في أول فرصة سانحة، وهو على ما يبدو، ما حصل بالضبط.

اغتيال شكري بلعيد يبدو اليوم استنساخاً لاغتيال جار الله عمر في اليمن وفرج فودة في مصر قبل ذلك. هو نتاج إعادة إنتاج حالة «جهادية» عنفية لا تنفك أن تعلن طلاقها مع السياسة، حتى بوسائلها العنفية، لتطلق شحناتها على شاكلة عنف عقائدي وثقافي. وهو نتاج فك الالتباس الذي بدأ يتشكل، بين مبررات كل من العنفين. بالمعنى السياسي المباشر، اغتيال بلعيد يعني أنه، وبمعزل عن مدى اقتراب «التسوية» في سوريا، فإن الحالة «الجهادية» لا بد وأن تصل في يوم ما إلى لحظة البطالة، أي أنها ستصبح عاطلة عن عملها الأصلي المتعلق بقتال النظام السوري. وحتى لو طال أمد الوصول إلى هذه اللحظة، فإن الفائض في أعداد المهاجرين إلى «أرض الجهاد» والتضييق عليهم هناك سيدفع ببعضهم إلى العودة إلى ديارهم الأصلية. والعودة، دائمة كانت أم مؤقتة، من شأنها أن ترفد الحالات والظواهر المحلية المشابهة بذخر عقائدي يميل إلى العنف. المسألة قائمة على فعل دائري قوامه التصدير وإعادة التصدير، حيث الحالة التي ترحّل إلى الخارج يعاد إرسالها إلى بلد المنشأ، بإمكانات جديدة وطاقات مستحدثة. اغتيال شكري بلعيد هو أول معالم هذا الطريق.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى