صفحات سوريةلؤي حسين

افتقاد التقلبات الميدانية لأي ثمن سياسي/ لؤي حسين

يتباهى النظام السوري بإنجازاته العسكرية الميدانية التي تحققها قواته في محيط العاصمة دمشق وفي المناطق القريــبة من الحدود مع لبنان، ويظهرها على أنها درب الانتصارات المحتوم الذي يؤكد صوابية موقفه وتوجهه في مواجهة الأزمة التي تعصف بالبلاد. في الوقت الذي يقلل فيه من أهمية إنجازات المجموعات المسلحة المناوئة له، ويعتبرها مجرد اعتداءات تؤكد «المؤامرة الكونية على سورية». وكذلك نجد أن العواصم المعنية بالشأن السوري تنظر لهذا الجانب باهتمام بالغ. فبعضها يتبنى موقف النظام السوري ومباهاته، وأكثرها يعتبر ضرورة دعم المجموعات المسلحة المناوئة للنظام حتى يتحقق توازن ميداني يفرض على النظام القبول بتسوية سياسية ما هي بالحقيقة إلا استسلامه.

التعويل على النزاع المسلح ليس جديداً، لا من قبل النظام ولا من قبل الدول المخافة له ولا المؤيدة له ولا حتى من قبل المعارضة المعترف بها دولياً. ومع أن جميع هذه الأطراف يصرّحون بأن حل الأزمة السورية يجب أن يكون حلاً سياسياً، إلا أن أغلبهم لا يصرّح بعدمية النزاع المسلح أو عدم جدواه، ولا أحد منهم يتصرف وفق هذه الحقيقة التي باتت مثبتة طيلة سنتين من احتدام النزاع المسلح. بل على العكس من ذلك تماماً، فالجميع مشدود الانتباه لمجريات ميادين القتال، والجميع يسعى إلى تحقيق مكسب على الأرض، ولو إعلامياً، يمكنه أن يساهم بفرض شروطه على العملية السياسية وفق ما يراها.

غير أن العملية السياسية، أو بالأحرى نتائجها، لن تتأثر كثيراً بالميزان العسكري على الأرض. إذ لن تنجح أي عملية سياسية يمكن أن تكون مجرد قسمة حرب بين المتقاتلين، لكون الغالبية الساحقة من السوريين لا تدعم هذا القتال ولا تناصره إطلاقاً. فإن قبلت مضطرة أن تكون ضحية له، فإنها لن تقبل أن ترث نتائجه السياسية التي يمكن أن تنجم عن تسوية بين المتحاربين.

ويضاف إلى ذلك، أن المتغيرات الميدانية محض عسكرية ومحض إعلامية، فلا تثقيل كبيراً لها على ميزان الصراع السياسي. فالانجازات الميدانية، التي يحققها النظام عبر إعادة سيطرته العسكرية والأمنية على بعض المناطق والبلدات، لا يستطيع تحويلها إلى انتصارات سياسية أو إلى زيادة بعدد مؤيديه أو مواليه. فالقصير ويبرود، وهما المحطتان الأبرز في هذه الانتصارات، استعادهما النظام بعد أن خلتا تماماً من السكان. وبالتالي هي مجرد مساحات جغرافية ليس أكثر.

وكذلك حال المناطق التي تتمكن المجموعات المسلحة من السيطرة العسكرية عليها. إذ يهجرها سكانها، بغض النظر عما إذا كانوا موالين أو معارضين، فور دخول المسلحين إليها. مثل مدينة كسب أو قرى شمال اللاذقية وغيرها.

من اللافت للانتباه السهولة التي يستعيد فيها النظام السيطرة على بعض هذه المناطق، بعد ما يزيد على العام على سيطرة المجموعات المسلحة المناوئة له عليها. هذا وإن كان يعود في جلّه إلى مساندة مقاتلي «حزب الله» اللبناني لقوات «النخبة» السورية في معاركها في هذه المناطق، إلا أنه يثبت خفّة المعارضة السورية التي أوهمت السوريين وبعض الدول، منذ أكثر من سنتين، بحتمية الانتصار العسكري على النظام وقرب تحقق ذلك خلال أسابيع.

فالمناطق التي يعتدّ النظام باستعادتها هي جميعها في محيط دمشق وغرب مدينة حمص. وهي مناطق ضيقة جغرافياً وقريبة من العاصمة وملاصقة للحدود اللبنانية. وهذا ما هوّن على النظام استعادة سيطرته العسكرية عليها بالاعتماد على قوات «نخبته» ومساعدة مقاتلي «حزب الله». لكن الأمر على الأرجح سيكون مختلفاً كلياً في المناطق البعيدة، كالمناطق الشمالية والشمالية الشرقية للبلاد. فهذه المناطق ذات جغرافيا واسعة، ولن يكون عديد قوات «النخبة» ومقاتلو «حزب الله» كافٍ للانتشار فيها كلها. هذا إضافة إلى أن إرسال النظام لقوات «نخبته» بعيداً من العاصمة سيكون مخاطرة كبيرة، لأن هذه القوات مشكلّة أساساً لحمايته وليس لمقاتلة المسلحين وملاحقتهم في أطراف البلاد. إذ بات من الواضح أن النظام لا يخوض معاركه بالقطعات العامة للجيش السوري، خشية ألاّ يكون ولاؤها كافياً لمهمات قتالية من هذا النوع، بل يقتصر في ذلك على كتائب «النخبة» التي توالي الرئيس السوري ولاء مطلقاً. كذلك لن يكون بمقدور مقاتلي «حزب الله» الابتعاد كثيراً عن معاقلهم في لبنان والتواجد في بيئات اجتماعية لا تقبل بهم.

لهذا، فإن أغلب الظن أن يكتفي النظام باستعادة السيطرة على منطقة القلمون وغرب مدينة حمص، وربما بعض أحياء مدينة حلب. ويكتفي بعدها بإطلاق الوعود عن عزيمته في استكمال سيطرته على بقية مناطق البلاد.

ومن ناحيتها، فإن المجموعات المسلحة تختار مناطق سكنية بعيدة من العاصمة، ليس فيها تواجد عسكري قوي لقوات النظام، مثل مدينة كسب ومحيطها، من دون الاهتمام بأن تكون لديها القدرة على الاحتفاظ بها لفترة طويلة. وستستمر المعارضة، المعترف بها دولياً، وبعض قادة المجموعات المسلحة بإطلاق الوعود الواهية عن «معركة دمشق» وإسقاط النظام.

فبناء على هذه الأوضاع، ووفقاً للعوامل الحالية، المحلية والدولية، فإن الأزمة في سورية ستبقى على حال من الاستنقاع الذي يتزايد تعفناً يوماً بعد يوم، بحيث يزداد الدمار والفقر والنزوح واللجوء والتشرد والانقسام المجتمعي وانخفاض التعليم وانهيار الاقتصاد إلى وقت طويل جداً. وستبقى سورية رهن الحرب الباردة الجديدة بين المعسكرين العالميين اللذين بدآ يتشكلان مجدداً. وستجد أطراف النزاع (بالأحرى أطراف الدمار) دوائر خارجية عديدة تمولها وتدعمها. وذلك على رغم الدعاية الإعلامية، لكل الأطراف، التي تبشر السوريين بنصر قريب وخلاص نقي. وستجد هذه الدوامة من الدمار دوماً مسائل تعتاش عليها، كأمل بعض «المعارضين» بالمُنقذ الإسرائيلي، أو استثمار النظام لهذا المعطى المصطنع.

* رئيس تيار بناء الدولة السورية

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى