صبحي حديديصفحات الثقافة

افتقاد جاك دريدا/ صبحي حديدي

 

 

تمرّ، هذه الأيام، الذكرى العاشرة لرحيل الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930 ـ 2004)، ليس دون أن تفتقده، على نحو ماسّ ربما، الفلسفة الكونية عموماً، ومنهجية التفكيك خصوصاً، هذه التي رحل وهو الناطق الأبلغ بطرائقها الشائكة، والمركبة الفعالة، في تحليل الظاهر بغية التوغل عميقاً نحو الباطن.

ويطيب لي، بادىء ذي بدء، أن أثني بشدّة على عملين اثنين بارزين، ضمن ندرة من الباحثين العرب الذين عكفوا على ترجمة دريدا، والتفاعل الحيوي مع أفكاره، ومحاورته، مبتدئاً من الشاعر والأكاديمي العراقي الصديق كاظم جهاد، الذي ترجم كرّاسة دريدا الهامة «صيدلية أفلاطون»، حيث سعى الفيلسوف الفرنسي إلى قلب الهَرَمية التقليدية التي تقول بأسبقية الكلام على الكتابة. كذلك ترجم جهاد مختارات من دريدا بعنوان «الكتابة والاختلاف»، صدرت عام 1988، أي في وقت مبكر حتى بالقياس إلى ذيوع صيت دريدا، فكتب مقدّمة معمقة حول التفكيك، واقترح صيغة «الاخـ(تـ)ـلاف» كمرادف عربي لمفردة دريدا العويصة Différance التي تجمع بين «الاختلاف» و»الإخلاف». وفي رأي دريدا أنّ المعنى يولد عن طريق دخوله في حال اختلاف مع عدد لا حصر له من المعاني الأخرى البديلة، وأنّ مغزاه بالتالي يخضع لعمليات إرجاء واختلاف وانتثار.

كذلك ندين للشاعرة والمسرحية والسينمائية المصرية الصديقة صفاء فتحي، بفضل تعريف قرّاء العربية على تحليل دريدا لمحتوى وشكل ودلالات ما جرى في واشنطن ونيويورك، يوم 11/9/2001، في ترجمتها لكتاب «ما الذي حدث في حدث 11 أيلول»، وذلك قبل أن يصدر بأية لغة أوروبية، بما في ذلك الفرنسية، وفتحي، إلى هذا، ظلت على صلة وثيقة بشخص وأعمال دريدا، فقدّم لمسرحيتها «إرهاب»، كما أصدر معها كتاباً مشتركاً بعنوان «تصوير الكلمات»، وتمكنت من إقناعه بالوقوف أمام كاميرتها، فأنجزت عنه شريطاً تسجيلياً يعدّ بين أعمق وأذكى الموادّ التي تتناول فيلسوفاً شاقّ العريكة عسير المنال وصعب التناول.

ولكن… ما التفكيك، في نهاية المطاف؟ دريدا، في «رسالة إلى صديق ياباني»، 1983، اعتبر أنّ «مشكلة مصطلح التفكيك لا تكمن في صعوبته أو إشكاليات ترجمته إلى لغات أخرى فحسب، بل أساساً في أنّ جميع اشتقاقاته ومفرداته ومتعلقاته اللغوية والفلسفية قابلة بدورها للتفكيك، أو هي فُككت لتوها»! وتابع، في عبارة تضيف المزيد: «ما الذي ليس تفكيكياً؟ كل شيء، بالطبع! ما التفكيك؟ لا شيء بالطبع! ولا أعتقد، لهذه الأسباب، أن الكلمة جيدة. إنها بالتأكيد ليست جميلة. ولا ريب البتة في أنّ لها فائدة في موقف شديد التحديد. ولكي نعرف ما الذي تم إقحامه عليها في سلسلة إبدالات ممكنة، وذلك رغم نقائصها الجوهرية، فإنّ ذلك الموقف شديد التحديد يحتاج إلى تحليل وتفكيك. وهذه مهمة صعبة ولا أنوي القيام بها هنا»!

وأمّا في ميدان النقد الأدبي، فليس ثمة وضوح حول طرائق القراءة التفكيكية، رغم انتشار الفلسفة في أربع رياح الأرض، خصوصاً في الولايات المتحدة، لدى نقاد فاعلين من أمثال بول دي مان وجوفري هارتمان وهارولد بلوم وجوناثان كللر وغاياتري شاكرافورتي سبيفاك وج. هيلليس ميللر. وهذا الأخير يشرح منهجيته التفكيكية في نقد النصوص الأدبية، كما يلي: «التفكيك كطراز في التأويل يعمل عن طريق الدخول الحَذِر والمحترِس إلى كل متاهة نصية. والناقد التفكيكي يسعى، عن طريق سيرورة إعادة الاقتفاء هذه، إلى العثور في باطن النظام الخاضع للدراسة على العنصر المجافي للمنطق، وعلى خيط في النص المعنيّ كفيل بحلّ كلّ الخيوط، أو على الحجر الرخو الذي سيقوّض البناء بأسره».

في المقابل، لعلّ كتاب مايكل فيشر «هل يشكل التفكيك أي فارق؟» أبرز الأعمال التي ساجلت ضد المنهج في ميدان الدراسة الأدبية، إذْ يفترض أنّ التفكيكيين هم الذين يدمّرون موضوعاتهم بأنفسهم، وذلك بوسيلة التشكيك في الوضع المعرفي للأدب والنقد: السلاح الذي يحرر الأدب في رأي التفكيك (أي تعذر تحديد المعنى الأدبي)، ينتهي إلى إخضاع الأدب داخل المؤسسة الأكاديمية التي يحتج عليها التفكيكيون. لهذا يبدو التفكيك مرآة تعكس الشروط التي ينهال عليها التفكيكيون بالنقد، ومن هنا تواطؤهم مع الجيوب التأويلية التي لا يكفون عن إدانتها!

الأرجح، في كلّ حال، أنّ رحيل دريدا أفقد التفكيكيين سلطة كبرى، إذا لم تكن الوحيدة من عيارها، صعّبت عليهم، بعدها، ممارسة الفلسفة كما أرادها صاحبها: منهجاً في قراءة النصوص، وفي تفكيكها، وفي تفكيك التفكيك!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى