بكر صدقيصفحات مميزة

افعل ما تشاء على ألا تهتف للحرية.. أنت في حلب


بكر صدقي

يمتد أمام الجامع الكبير (جامع زكريا) في حلب شارعٌ عريض لا تدخله السيارات، يصل بين مدخل سوق المدينة الأثري والقلعة الشامخة في قلب المدينة القديم. منذ بداية ثورة الحرية في سوريا تحول هذا الشارع المرصوف بالحجارة إلى معرض بسطات الباعة الصغار الذين يبيعون كل ما يخطر في البال من سلع: ملبوسات بأسعار شعبية وأدوات كهربائية وأدوات مطبخ وألعاب أطفال وسلع صينية وقرطاسية وأحذية ومأكولات.. ولم يقتصر نشاط هؤلاء الباعة على هذه المنطقة، وإن كان احتلال أرض الشارع بكامله لافتاً هنا. ففي جميع شوارع المدينة وأسواقها ترى أعداداً مضاعفة من هؤلاء بالمقارنة مع ما قبل الخامس عشر من آذار. كما لا تقتصر مخالفاتهم للضوابط النافذة على عدم وجود ترخيص رسمي، بل تجاوزتها إلى المخالفة الصريحة للقانون ببيع بعضهم للسلع المهربة كالدخان والمخدرات. ليس كل هذا جديداً على حلب ولا على سوريا بعامة، لكن الجديد هو اتساع نطاق هذه الظواهر إلى درجة غير مسبوقة وغض نظر السلطات عنها. فالمعادلة الجديدة التي جاءت مع ثورة الحرية هي: افعل ما تشاء على ألا تطالب بالحرية.

غير أن بيع السلع الرخيصة أو الممنوعة قانوناً ليس هو الشاغل الوحيد لهؤلاء الباعة، فقد جاءتهم الثورة بشغل جديد كل الجدة هو المساهمة في قمع المظاهرات الشعبية مقابل أجر مدفوع إضافة إلى غض نظر السلطات عن التجارة الممنوعة وارتكابات أخرى. تفيد المعلومات المتوفرة أن الشبِّيح الواحد يحصل على ألفي ليرة لقاء مشاركته في قمع المتظاهرين وتسليمهم إلى أجهزة المخابرات. ويستجيب عمل التشبيح نوازع عدوانية متراكمة وشعوراً موهوماً بالقوة والامتياز لدى أفراد مهمشين لم ينالوا نصيبهم من التعليم والارتقاء الاجتماعي، ومارسوا طوال حياتهم أعمالاً متدنية وبعضها مخالف للقانون.

عرفت منطقة باب النيرب، جنوب شرق المدينة، باحتكارها أعمال تهريب المخدرات والدخان والسلاح، وسكانها ذوي بنية عشائرية محدَّثة يشكلون امتداداً نوعياً لعشائر منطقة الجزيرة. وإذا كانت بعض الصدامات المسلحة قد حدثت بين هؤلاء المهربين والأجهزة الأمنية من حين لآخر، فقد استقر بهم الأمر منذ السبعينات إلى هدنة مديدة أساسها الشراكة مع جهات نافذة أمنية أو مقربة من العائلة الحاكمة ومحيطها. واعتاد أبناء العشائر هؤلاء على الإفلات من العقاب والمساءلة فتصرفوا إزاء أهل المدينة بتنمر وعدوانية. وحين اندلعت المظاهرات الشعبية في أنحاء سوريا وامتدت وإن على نحو خجول إلى داخل مدينة حلب، لم يطرأ تغيير كبير على نمط تعاملهم مع السكان إلا من حيث زيادة منسوب العنف الذي يصل حدود القتل من غير أن يحاسب الشبيح على جريمته. فقد اغتال الشبيحة عدداً من الشبان المتظاهرين بالعصي أو الأسلحة البيضاء. وحدث أن محامياً تجرأ وبادر إلى رفع دعوى ضد أحد القتلة، فرفض القاضي الدعوى بذريعة أن الشبيح “عضو في اللجان الشعبية”. وهذه هي التسمية الرسمية لشبكات الشبيحة في المدن السورية وتم الإعلان عنها بعد الخطاب الأول لبشار الأسد أمام مجلس الشعب في نهاية آذار.

ونشطت في مدينة حلب عمليات البناء المخالف أو العشوائي منذ بداية الثورة، جرياً على المبدأ الاقتصادي المعروف “إذا سالت الدماء استثمر في البناء”. وباتت شبكات الشبيحة طبقة قائمة بذاتها ومدعومة من الأجهزة، استفاد كثيرون منها من الجو السائد لبناء مساكن لهم بلا ترخيص فوق أسطح بنايات سكنية قائمة. الشبيح الذي لا يخضع لأي عرف أو قانون أصبح صوته أعلى حتى من ضباط الأجهزة، وتروي شهادات كثيرة عدم انصياعه لأوامرهم وإفراطه في القمع الوحشي أثناء التظاهرات بدافع ذاتي.

الواقع أن الحدود امَّحَت أثناء الأشهر الماضية بين أجهزة القمع النظامية وشبكات المدنيين الذين يطلق عليهم اسم الشبيحة. فتارةً نسمع بارتداء عناصر أجهزة المخابرات البزات العسكرية المعتمدة في الجيش، وأخرى نرى في الفيديوهات شبيحة مسلحين بأسلحة عناصر المخابرات، وثالثة تتواتر الأخبار عن عناصر من بعض الفرق الخاصة في الجيش يرتدون الثياب المدنية. ينذر هذا الاختلاط بعواقب وخيمة من الفوضى وانتشار الإجرام الأعمى وزوال الدولة.

ومن جهة ثانية اتسع مفهوم التشبيح ليتحول إلى مقولة سوسيولوجية تضم كل فئات المؤيدين للنظام بما في ذلك مثقفين معروفين وأبواق إعلامية للمخابرات وناشطين فيسبوكيين يظهرون شراسة لفظية ضد الثورة تفوق الشراسة المادية للنظام. في ستاتوس نشره آدمن صفحة باسم “أبناء بشار الأسد” إبان دخول الجيش مدينة حماة عشية شهر رمضان، جاء ما معناه: (نطالب الجيش السوري، بعدما خرج الشرفاء من مدينة حماة، بإزالتها عن الخريطة السورية وليس قمع المجرمين فيها فقط. فلطالما شكلت هذه المدينة وجعاً للرأس في وطننا الحبيب)

وربما تميزت مدينة حلب بمستوى التشبيح فيها أن أصحاب المحال التجارية الصغيرة ساهموا بنشاط في قمع المتظاهرين في شارعهم من غير أن يكلفهم أحد بذلك، ومن غير أن ينالوا أجراً على مشاركتهم في القمع. كما أن عدداً من كبار الصناعيين والتجار من الموالين للنظام هم الذين يمولون أجور التشبيح ومصاريف فعاليات التأييد كالمسيرات الشعبية المؤيدة وحملات الأعلام العملاقة.

يثير هذا التجييش مخاوف جدية من تراكم للأحقاد قد تنفجر بعد سقوط النظام. فإضافة إلى عدم  امتلاكهم لأي قضية إيجابية يمكن الدفاع عنها على المستويين الأخلاقي أو السياسي، تجاوز المؤيدون كل الحدود والأعراف البشرية في الحقد والعنف المادي أو الرمزي الذي مارسوه ضد الثائرين على النظام. فنحن لسنا أمام اختلاف في وجهات النظر يمكن حله بالحوار، أو بتضارب مصالح قابلة للتسويات، بقدر ما يتعلق الأمر بحرب مصيرية بين السوريين. ولا يحل المشكلة هذه رجحان الكفة العددية لهذا الطرف أو ذاك، وهو ميزان متغير بسرعة أي كل يوم. على أن الثائرين على النظام القائم حققوا تفوقاً أخلاقياً أجمع عليه المراقبون المحايدون من دول ومثقفين أفراد من خارج سوريا. من المأمول أن يزداد رجحان الكفة للمعارضين على الموالين في ميزان القوى السيال، فتندمل الجراح قبل فوات الأوان. وهذا ما يساهم فيه لحسن الحظ التعامل الدموي الأرعن للنظام الذي فاق كل الحدود، فبات الدفاع عنه محرجاً حتى لكثير من الموالين. الخط البياني نفسه من انحسار التأييد نلاحظه لدى القوى الخارجية من أصدقاء النظام التقليديين، وتركيا هي المثال الأبرز، وهناك إشارات على تحول روسي مماثل.

لعب نشطاء ومثقفون علمانيون دوراً مهماً جداً في إزاحة خط الشرخ الوطني بين الموالاة والمعارضة عن خط الانقسامات الأهلية العمودية، فساهموا بتنوع انتماءاتهم الأصلية وأصالة وقوفهم الصريح في صف الشعب، في إبعاد شبح الفتنة الأهلية التي حاول النظام افتعالها وفشل في ذلك. فكان دخول نشطاء مسيحيين مثلاً إلى الجوامع للانطلاق منها في المظاهرات الشعبية أيام الجمعة، يساهم في إبعاد الهواجس المفتعلة، كما شكلت مساهمة مثقفين معروفين من الجنسين في التظاهرات السلمية نقضاً لكل أكاذيب النظام عن السلفية والعصابات المسلحة والمؤامرات الخارجية وغيرها من الترهات. وقبل هذا وبعده، لم  تحد لافتات المتظاهرين وهتافاتهم وممارستهم السلمية أبداً عن الخط الوطني الجامع.

مجلة كلمن اللبنانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى