صفحات العالم

اقتربت ساعة الحسم في سورية… أم ابتعدت؟

 

جميل مطر *

المتشائمون والمتفائلون بمستقبل سورية يتفقون الآن على أن ساعة الحسم اقتربت. يستندون، ربما، الى تصريحات لأمين عام الجامعة العربية تلمح إلى زيادة مفاجئة في احتمالات سقوط نظام الحكم في دمشق فى وقت قريب، وتصريحات للأخضر الإبراهيمي، المبعوث الأممي، تنقل إلى المجتمع الدولي صورة لسورية كدولة يهددها الانهيار والفشل بأوضاع متدهورة لحقوق الإنسان وعنف متنام ووحشي على كلا ناحيتي الصراع.

كثيرون يأملون في نهاية قريبة جداً للحرب الدائرة في سورية، وكثيرون آخرون عاد ينتابهم الشك في أن الحسم، اقترب أو ابتعد، سيحمل لهم البشائر ويحقق لهم بعض أحلام الثورة. آخرون كانوا يحلمون بأن الحسم المرتقب سيعيد للبلاد الاستقرار وإن في ظل استبداد وفساد، الآن يشكّكون. أجد العذر لكل هؤلاء في شكوكهم وأشعر تماماً بخيبة آمالهم، بخاصة بعد أن شاهدوا بأعينهم على شاشات التلفزيون وسمعوا بآذانهم عبر وسائط الاتصال الالكتروني مرات ومرات علامات أو مقدمات ساعة حسم في ثورة مصر وساعة حسم في ثورة تونس وساعة حسم في ثورة اليمن، ولم تحل الساعة حتى صارت مثل ساعة حسم في ليبيا ترفض أن تحل.

في كل هذه الحالات، أو الساعات، اكتشف أهل تلك البلاد أن الحسم الذي ينتظره الكثيرون لن يقع وإن وقع فلن يحسم. هناك من يظن أن قوى وتيارات خارجية وداخلية تسعى لجعل ساعة الحسم زمناً مفتوحاً يتيح لمتغيرات أن تنضج ونخب جديدة لتظهر وتيارات لترسخ وتتعلم قياداتها أصول الحكم وقواعده.

ليس بعيداً من هذا النوع من التفكير ما يردده المنظرون وخبراء الأمم المتحدة وقياداتها تحت عنوان «مرحلة انتقالية» تمر بها، أو يجب أن تمر بها، كل الدول التي تعرضت لانتفاضات قوية أو ثورات وخرجت منها معبأة بنوايا التغيير والإصلاح. السؤال الحيوي الذي لا شك طُرح في غرف اجتماعات في مقر الأمم المتحدة ودوائر صنع السياسة في عواصم غربية وبخاصة واشنطن هو بكل بساطة «هل نترك هذه الثورات تصل إلى ساعة الحسم لتحسم بنفسها أم نتدخل ليأتي الحسم مناسباً لنا»؟ هذا السؤال فات روسيا الانتباه إليه في الوقت المناسب ودفعت ثمناً باهظاً قبل أن تقرر أن تتبناه هي الأخرى وتمنع دول الغرب من الاستفراد بوضع إجابته. هكذا قرأت كلمات واضحة جاءت في تصريحات فلاديمير بوتين في اسطنبول.

بعض الناس في بلاد الثورات يعترف الآن أن ما يحدث فى أي بلد من تلك البلاد، سواء كانت تونس أو مصر أو ليبيا أو اليمن، لا تنطبق عليه الشروط والقواعد المرتبطة بمفهوم المرحلة الانتقالية. مصر وتونس لا تعيشان مرحلة انتقالية إنما تعيشان سباقات بين أطراف متعددة يسعى أحدها أو عدد منها لحسم مبكر لمصلحته من دون انتظار التغيير الضروري الذي كان يجب أن يسبق الحسم وسباقاته.

أعرف عن مصر ربما أكثر مما أعرف عن بلاد أخرى. أعرف أن الحسم فيها بعيد ويزداد مع الأيام ابتعاداً. أعرف أن أعداداً متزايدة من المواطنين، وبينهم ثوار من الجيل الأول وثوار من الجيل الثاني كشفوا عن وجودهم في أحداث الثلثاء الماضي، يدركون أن الطريق التي يمشون عليها الآن تبدو أطول بكثير من الطريق التي تخيلوها ومشى عليها بعضهم قبل عامين. يدركون أيضا أنها أصعب بسبب منحنياتها العديدة ومناورات القوى والدول الأجنبية والعصابات المحلية وضغوط أصحاب المصالح الخاصة واستحقاقات ممولين وتجار فوضى وسلاح ومقاولي إرهاب.

الآن فقط، يكتشف ثوار مصريون وتونسيون ويمنيون أنهم ربما نجحوا كمنظمات وجماعات ونخب ليبرالية في إسقاط رموز أنظمة حكم استبدادية، ولكنهم فشلوا في إقامة أنظمة حكم عصرية وديموقراطية وليبرالية. آخرون اكتشفوا أنهم كقوى وتيارات وجماعات إسلامية ربما فشلوا مرات ومرات في إسقاط نظام حكم مستبد في دولة عربية، ولم يكن دورهم مشهوداً فيما حققته ثورات الربيع في الأيام الأولى، ولكنهم عرفوا كيف ينصبون فوق نجاحات الثوار الليبراليين هياكل لأنظمة حكم إسلامية، مستخدمين بكفاءة فكرة الصندوق الانتخابي، درة تاج الليبرالية الغربية.

هؤلاء وأولئك، لا يدركون أنهم في كل مرة اعتقدوا أنهم اقتربوا من الحسم كانوا في الواقع يبتعدون عنه مكتشفين حقيقة كانت خافية عنهم او كانوا منكرين وجودها. خرج الليبراليون من مرحلة الثورة الأولى غير مصدقين هول خسارتهم وفداحة فشلهم، وخرج الإسلاميون منبهرين بحجم ما حصلوا عليه بأقل مجهود ولكن مصدومين باكتشاف أنهم غير مؤهلين لتحويل النصر الذي حققه لهم الصندوق الانتخابي إلى سلطة حاكمة قادرة وفاعلة ومهابة. بمعنى آخر لم يقدر الطرفان تقديراً سليماً حجمهما الحقيقي أو درجة كفاءتهما واستعدادهما لتحمل مسؤولية مرحلة كان المفترض أن تكون انتقالية، وبعدها مسؤوليات دولة معقدة ومركبة. لذلك تعقدت مسيرة الحسم ودخل الثوار ومن التحق بهم متاهة غابت فيها الرؤى وزاغت الأبصار وانتعشت الأنانيات والمصالح الضيقة، فضاعت معالم الطريق. المدهش أنه يوجد بينهم الآن من يتمنى لكل الأطراف العودة إلى المربع رقم واحد، وهو الهزل بعينه، أو على الأقل، هو الجهل وسوء التقدير.

سورية بطبيعة الحال، ليست مصر وليست تونس، وهي بالتأكيد ليست ليبيا وان كان فلاديمير بوتين يتوقع لها مصيراً مشابهاً لو سمحت روسيا لنمط التدخل الخارجي فى الثورة الليبية أن يتكرر في سورية. إلا أن اختلاف سورية عن غيرها من ثورات المنطقة لا يعني أنها محصنة ضد ما آلت إليه الأمور في الثورات الأخرى. صحيح جداً القول إن الاختلاف الأهم بين الحالات الأربع كان في صمود قيادات النظام الحاكم في سورية لمدة طويلة، ولكنه صحيح أيضاً أن هذا الصمود تحديداً سيكون السبب الرئيس في أنه مع التصعيد الجاري حالياً في سباقات الحسم لن يختلف الوضع في سورية كثيراً عن الوضع في مصر وتونس. كان الظن، وظني أنا شخصياً، أن ظروف سورية الاجتماعية والعرقية والطائفية، ستجعل مهمة الليبراليين السوريين الذين دشنوا الثورة وقادوها منفردين لبعض الوقت، أسهل كثيراً من مهمة أقرانهم في مصر وتونس. يخيب الظن وأنا أرى المعارضة السورية تنقسم لتكرر النموذجين المصري والتونسي أي لمصلحة التيارات غير المدنية المناهضة للتحول الديموقراطي على النمط الغربي.

كان يمكن، لو لم تتعنت السلطة وتتوحش، أن يحسم أمر الثورة في سورية بأن تقود النخبة الليبرالية وبقية النخب المدنية وبمشاركة تيارات إسلامية عملية أقامة نظام ديموقراطي مدني جديد. كان يمكن تفادي الانقسام الخطير الذي ضرب الثورتين المصرية والتونسية وإن في غير مقتل لولا أن النظام تمسك بالسلطة واستخدم العنف في التعامل مع الثورة ما شجع قوى خارجية بمصالح متضاربة على حقن الثورة بعناصر إسلامية متطرفة، دفعت بدورها التيار الإسلامي فى سورية إلى إعادة تنظيم صفوفه والتأهل للحصول على النصيب الأكبر من عائدات الثورة عندما تحل ساعة الحسم.

هكذا تنضم سورية إلى مصر وتونس في صف الثورات المؤجل فيها لمدد طويلة حلول ساعات الحسم. لم يحسم الصندوق الانتخابي وضع ومصير الثورتين التونسية والمصرية ولن يحسمهما، ولن تحسم الاشتباكات المسلحة أو توقّفها ورحيل عائلة الأسد والتدخل العسكري الأجنبي وزيادة أو انحسار الغزو الإرهابي، لن يحسم أي منها منفرداً وضع ومصير الثورة السورية في الأجل المنظور. سباق الحسم بالكاد بدأ.

تأجلت ساعة الحسم في سورية، كما سبق أن تأجلت في تونس ومصر وليبيا واليمن، إلى أجل غير مسمى.

* كاتب مصري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى