صفحات الثقافةممدوح عزام

الآباء المغدورون/ ممدوح عزام

 

 

في العقود الماضية، أُولع عدد من الكتاب العرب بترداد لازمة غنائية تقول بصوت جهير وحاسم: نحن جيل بلا آباء!

لم تكن العبارة تشكو اليُتم، بقدر ما تعلن عن “العصامية”. أظن أنهم كانوا يريدون التأكيد على نفي التأثير المحلّي، أو الأبوة، لأي كاتب عربي في أدبهم. وبهذا المعنى، يمكن الحديث عن احتمال توفّر عقدة أوديبية، ومن ثم حضور مشاعر الرغبة في قتل الأب.

الملاحظ أن أكثر من ردّد هذه العبارة هم الروائيون، وكتّاب القصة. وهذا جائز، إذ تنهض الرواية والقصة العربيتان على فكرة الانقطاع بين الأجيال الأدبية، أو القطيعة مع السلف، أو إلى إنكار التبادل المعرفي والإبداعي مع الأب. وقد لا يجد القارئ، أو الباحث المدقّق، عروقاً صريحة وقوية لنجيب محفوظ مثلاً، تمتدّ في أدب الأجيال اللاحقة له، أو لا يستطيع أن يكتشف حضوراً لحنا مينة في صفحات أية رواية سورية، أو عربية.

ولا نعرف حتى اليوم أشكال استمرار هذين الكاتبين في الأجيال اللاحقة، وهو ما يسمح بالقول إن إنكار الأبوة العربية ليس عقوقاً، ولا ادّعاءً نرجسياً، ولا رغبة أوديبية في قتل أب لا وجود له.

والحقيقة هي أن بإمكان الدارس أن يقرأ الرواية العربية من دون الرجوع إلى مصادرها في الأدب العربي القديم، بخلاف الشعر الذي يستمد جذوره من الإرث العربي. ولكن هل بوسعنا أن نقرأ الرواية العربية بعيداً عن أية “أبوة” أو مرجعية؟

ذات يوم شبّه بابلو نيرودا العلاقات الأدبية بالمختبر الوراثي، وأميل إلى تصديق هذه الصورة التي تلخّص سلالات الأدب والفن، وعلى الرغم من أنها تبدو مثقلة بروائح الكيمياء، أو أبخرة التفاعلات، فإنها تستطيع أن تشهد بقوة على الروابط العائلية التي ينتمي إليها جميع الكتّاب في العالم بسلسلة من المورثات أو الجينات التي تنتقل إليهم بالعدوى، أو الاكتساب، أو المحاكاة، أو تشابه القيم والأهداف، أو أية وسيلة احتكاك ممكنة تنسبهم إلى هذه الأسرة الأممية.

وإذا كان من السهل على الروائي العربي التهرب من الاستحقاق المحلّي، فإنني أظن أنه ليس بوسع أحد التنكُّر لموضوع الأبوة الروحية والفنية بمطلق القول من الأدب والفن العالميين، أو التملّص مما يمكن أن نسميه “المصير الوراثي” حيث تمتد جينات التأثر في فنه.

وبعيداً عن الأسباب التي تحضّ أي كاتب على إنكار الأبوة الأدبية، فإن الرواية العربية لن تستطيع أن تحقق أي منجز من دون أن تكون قد أقامت علاقة تفاعلية مع غيرها من النصوص الأدبية الهامة في الأدبين العربي والعالمي، وهي مزية قبل أن تكون عيباً، إلا إذا كان التمثُّل يقترب من التقليد والنسخ، وعندئذ فإن التناسل يمكن أن يشكو من التشوّهات الخلقية والولادية، ومن الصعب أن يكون بوسع الإنكار، أو التنصل، أو عمليات التجميل، تحسين الملامح، أو تبديلها. والمرجع هو قوة الخبرات المتراكمة، ومتانة الموهبة المحلية القادرة على هضم وتمثل الثقافات وتحويلها إلى منتج وطني. فمن ينكر أنه بلا أب، قد يصعب عليه أن يجد أُمّاً تفخر به.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى