صفحات الثقافة

الأبيض والأسود/ محمد ملص

 

 

يتحول الصباح إلى حجر يرتمي في النفس ويترك دوائر من العذابات. يسترجع ملص ذكرياته مع الراحل عمر اميرالاي، هما مختلفان، أميرالاي يبتعد عن الروائي الذي له فيه لحظات نادرة. أميرالاي يخلق كرب لا يلبث أن يؤيقن مخلوقاته، إنها أمثلة يخالفها ملص الذي يؤثر علاقات الناس على الخلق الرباني الذي لا يعبأ إلا بالقيم. عمر يؤثر الأفكار والتجريد فيما ملص يؤثر المعيش والملموس. حوار داخل النفس بين مخرجين على أبواب الحرب التي انفجرت بعده

تتشقـق القطرة الأولى لضوء هذا الفجر؛ وتنبثق من براثن الأفق الأسود؛ وتكبر رطبة، باردة؛ ثم تتسع وتنتشر؛ فينتـشر النهار. أخطو في الممر الطويل؛ مجاوراً الكتب المتكدسة في المكتبة؛ وألمح غبارها متعشباً على أطرافها؛ فأتساءل عن سماكتها في داخلي!. ترى هل لزمننا معنى؟ أم أن المعنى في تلك المياه التي تنقط فيّ؛ وترشح سخاماً أسودَ ندياً على جدران النفس؟!. أشعر أن هذا الانتظار للخروج من المأزق؛ يشبه اليأس الذي ينتاب مصاباً بالسرطان؛ ينتظر مزيداً من التورم كي يطبق على حياته. فالأوهام حين تتكشف؛ تصبح «الذات» أشبه بهذا الممر الموصل بين الشارع والسرير. هكذا تتحول اللحظة الصباحية الأولى للعام الجديد؛ إلى حجر صغير يرتمي على صفحة النفس لتنداح دوائر العذابات والمخاوف والإحباطات. تتجمع في حلقي مذاقات أشبه بالصديد. فأبدو كمن يبحث عن الزمن صفر وراء قضبان زنزانة الأعوام. قطرة صبح الثمانين تتفطر وتلوك وحشة اختلاط الأبيض والأسود. فالمدينة تتفتت وأشواك المجازر تعلو. قوى تصعد، مخاوف تكبر، والأفكار لم تعد إلا رماداً للرماد. في المساء بدأت بترجمة محاورات «كوزنتسيف» مع نفسه في كتابه «فضاء التراجيديا». أترجم لأني أنتظر…! لكن ما يتناقله وما يتهامس به الشارع عن أحداث الأمس؛ يسترقني كلياً؛ فـلا أجد كيف لي أن أترّجم فضاء تراجيدياتنا. بالأمس أغلقت منطقة «الحريقة» في دمشق محالها بسرعة عجيبة؛ حين مرت سيارة وأطلقت النار في الهواء. فسرى الخبر كالهشيم في المدينة كلها!. نسيت أن أذكر أني في الظهيرة اشتريت «البطاطا» من صناديق مخبأة تحت الطاولات بسعر استثنائي. وأن المئة ليرة ما قبل الأخيرة من الراتب الشهري قد طارت.. *** يبدو لي أن أي فهم مختلف للسينما عما أعتقده؛ وأؤمن به؛ يحتاج إلى زمن ليكرّس نفسه. وأن الوعي الراهن مكبل؛ والبديل سيتأخر كثيراً في ولادته. ترى ما هو الحل؟. لم يكن التعبير عن النفس؛ بالنسبة لي؛ إلا «اللحظة» التي تخص صاحبها؛ فيبدعها ويمضي. ولم تكن السينما بالنسبة لي؛ إلا وسيلة للتعبير الذاتي عن رؤية خاصة؛ وشهادة شخصية. أما قدرة هذه الرؤية؛ وزمن فاعلية هذه الشهادة؛ فهذا رهن بمن يتلقاها. ولن يتاح لنا إلا أن نرمي بشهادتنا هذه ونرحل. في المرحلة الحالية لاحظنا أن ثمة أناساً كثيرين يخبئون شهاداتهم في داخلهم، ربما علينا أن نمزج هذه الشهادات برؤيتنا ونصنع وثائقنا الذاتية. علّنا نستطيع عبر ذلك أن ننقذ المهمة المستحيلة في بلدنا؛ فنحولها إلى المهمة الصعبة.

إن أي واحد منا يعاني من أن له رأسين متصلين؛ يعملان في الوقت ذاته؛ وبالقوة ذاتها؛ وأحياناً يغذي أحدهما الآخر. فكل منهما يتضمن الآخر. نحن في «المصيدة»؛ وعلينا أن نخرج منها قبل أن تتكسر أجنحتنا داخل هذا الخفقان العبثي المأزوم.

أقول لنفسي عليك أن تمتلك موهبة المحافظة على توازن بين الممكن والمراد. وحين تخيلت هذا التوازن، أخذت مشاعري تكتسب مذاقاً لا يختلف أبداً عن ذلك الدفق من العواطف التي يصبها زعيم على شعبه كل لحظة عبر مذياعه الرسمي.

ها أنا أمتحن موهبة التوازن؛ فأغز السير بين صفوف السيارات المستقرة بعنف على الأرصفة. وحين يصادفني في الطريق حاجز الحراسات الأمنية، أخفض رأسي وبصري بميكانيكية، وأحاول الإيحاء بـ «البله»؛ وأمرّ من أمامهم وأنا أبربر أو أترنم بلحن ما؛ فليتأهبوا كما يحلو لهم، وليتوجسوا كما يشاؤون، وليخمنوا ما يريدون…

لأرفع صوتي مترنماً مردداً: «…أعيدي لي كرامتي! يا سوريا يا حبيبتي!».

قبلات مسروقة

في التلفزيون حيث أعمل نظرياً، شعرت بالاشمئزاز من هذا الرقيب الثقافي الذي ما انفكّ يحاصرنا؛ ويشهر في وجوهنا سهام المسؤولية أمام الجماهير. إنه كذاب. وحصاره ليس إلا جزءاً من مخططه للصعود. أظن أننا لم نُصب بالانفصام بعد! ولم تتفكك بعد تلك اللمسة من «الكونترول» التي لا تسمح للجنون بالحدوث. فنحن نعيش في الصمت هيجاناً من العواطف والوجد، وفي الكلام وداعة وهدوء… وبين موجة الصمت وموجة الكلام نهرّب موجة قصيرة جداً أشبه بـ «قبلات مسروقة» (كما في فيلم فرانسوا ترفو).

في المنام شاهدت نفسي وأناساً آخرين وكأننا قطع من القماش المسقسق بالماء منشورةً على سلالم ملتفة من الخشب. كانت تبدو كأنها سلالم مئذنة. وكنا نطل بأنظارنا إلى الأعلى لنصل لنهايتها ونتأمل دمشق بفرح؛ لكن حينها تناهى إلينا نداء من الأسفل، فالتفتنا إلى القاع؛ فرأينا ذاك العجوز الذي نحبه؛ قد خرج الآن من السجن الذي أمضى فيه زمناً طويلاً. كان نحيلاً وشاحباً وشعيرات ذقنه قد طالت… كأنه آتٍ من الموت أو ذاهب إليه.

فتحت عيني فتناهى لأذني صوت ضربات قلبي، فلم يكن أمامي إلا أن أعدها متسائلاً بقلق وخوف ترى هل وصلت إلى «الأربعمئة ضربة» ؟ ـ (فيلم ترفو أيضاً).

***

يعرض التلفزيون في أماسي هذه الأيام مسرحيات دريد لحام. في هذه الليلة تتصادى مسرحية «غربة» من شرفات المدينة كلها. دريد لحام طاقة عظيمة وموهبة كبيرة. لديه البصيرة والمهارة في التقاط تفاصيل هذا الواقع بحساسية عالية؛ لكن لا تدرك لماذا تتبعثر التفاصيل وتتبدد الأسئلة الرئيسية لديه!. أمّا نحن إذا كنا عاجزين عن قول الحقيقة الآن فهل نؤجل القول؟ أم نهتدي بـ«بريخت» لمواجهة الصعوبات في قول الحقيقة؟!. أم أن هذا الواقع في بلدنا؛ أفرز صعوبات لم تكن لتخطر في بال بريخت؟.

في الملتقى اليومي مع صديقي عمر آميرالاي؛ بعد أن ننفك من كل الأوهام التي نحاولها؛ نتصفى مع أنفسنا؛ كان يبدأ الحوار والبوح المتبادل ولا ينتهي. نتهاجس؛ نروي، نحكي في كل شيء؛ في السياسة أو الحب أو النساء؛ لكن الخيال لم يكن يغيب أبداً!. نتحدث ساعات يفضي فيها كل منا بنفسه للآخر. وهلوساتنا تبدأ من البحث عن الإنتاج؛ وعن المشاريع السينمائية المختلفة؛ وتنتهي في ذاك النزوع الصوفي إلى التجديد والبحث عن اللغة الخاصة في التعبير؛ والطموح الذي لا يتزعزع إلى التميّز في الشكل والأسلوب واللغة السينمائية. لكن العطالة تجثم على صدرنا كقدر؛ فنعض على ألسنتنا؛ ونحاول من جديد.

خلال الفترة الماضية اقترحنا العديد من المشاريع المختلفة؛ منها الوثائقي؛ ومنها الروائي؛ وكذلك (التيليه فيلم). وانقضت الشهور ونحن نكتب، نسجل، نتخيل، نضع تصورات، نخطط لـ«ديكوباجات». لكن ذلك كله وبعد الانتظار والمتابعة والملاحقة؛ لم يلق إلا التجاهل.

وبين عشية وضحاها تبدأ «الكرة» بالتدحرج من جديد. ننفك عن كاتب؛ ونعيد الصلة بـكاتب آخر؛ ثم نعود وننفك من جديد. نقرر أن نفتح نافذة للإنتاج من خلال نقابة الفنانين؛ فنداوم في النقابة بدلا من التلفزيون؛ ثم في مؤسسة السينما بدلاً من النقابة. وبعد أيام نلجأ للدوام في مكتب المنتج عبد الرزاق غانم؛ ثم في مكتب المنتج نادر الأتاسي؛ ثم في مكتب المنتج تحسين قوادري … والرب لا يعلم أين سنداوم غداً أو بعد غد.

الكاميرا المفقودة

أما أبو خليل خالد الغزي ـ هذا التقني السينمائي الذي أبيّض شعره من الأشياء ذاتها وغيرها ـ فقد أخذ يهطل علينا كل مساء في النادي السينمائي مع نهاية العرض؛ ليكسر وحدته المطلقة. فوجدنا فيه كسراً لوحدتنا نحن. فصار أحد معالم يومنا؛ نقضي أمسياتنا معه وهو يسترجع أمامنا تجربته؛ إلى الحد الذي كان يغالبه النعاس ويغلبه؛ فيمضي إلى وحشته من جديد؛ حيث يتناول قطعة من الجبن وحبات من العنب ثم ينام.

نمضي بعد مغادرته لنا؛ إما لبيت عمر لحوار لنستكمله، أو إلى مقهى «اللا تيرنا» لننخرط في واحدة من مشاريع برهان بخاري الثقافية التي لا تكتمل أبداً. أو إلى «الأركيلة» في مقهى (أبو شفيق) في الربوة؛ فلا نترك أحداً ممن نعرفه إلا ونتناوله بالنقد والتشريح والتكهن؛ وتصور ما سيؤول إليه. والكثير من تناولنا هذا مشبع بالسخرية و «التقـريق».

إننا سينمائيو «العين البصيرة والكاميرا المفقودة».

***

ربما كان لانفرادنا بالصداقة كسينمائيين؛ في تلك الظروف الصعبة والأجواء المخيفة، ألا يترك أمامنا خياراً آخر إلا أن نلتقي. لقد لعبت تلك اللقاءات اليومية؛ دوراً أساسياً في تكثيف الأفكار التي تدور في داخلنا. لقد صاغتنا وصاغت تجربتنا. وربما هي التي تحمينا من الكثير من الأمراض التي يمكن أن تصيب أياً من المهتمين في التعبير عن الشأن العام في مثل هذه الظروف. فالواقع غدا بالخوف ضد نفسه، وربما يمضي ليكون عدواً لنفسه!. لا فكاك من هذا أبداً. في اللقاء هذه الأمسية؛ كنت أشعر بالحنين لماض ما؛ فاستدرجتني الذاكرة إلى الستينيات وإلى الصبا وإلى حي «الميدان»… وحين حاولت استدراج عمر لحنينه الخاص وحكاياته؛ أخذ يواجه الحنين بالرفض؛ وبدا أنه يعتبر الحنين مرضاً يجب مقاومته. فاختلفنا حتى في تشريح الحنين أو وصفه أو تفسيره. بل حتى بأسباب الشعور به.

كنت أحس أن الاقتضاب وعدم العفوية لدى عمر؛ ما هي إلا متاريس يحتمي وراءها؛ كي يغرق بـ«الأمثلة» والتجريد وتعميم صور الواقع. فيستعيض عن الصور بأفكار لمّاحة ومتسقة وجميلة.

على الرغم من توافـقنا على الغايات؛ فقد كنت أدرك كم نختلف في آليات التفكير؛ في النظر للفن والتعبير. فأنا أعتقد أن العمل الفني لا يمكن أن يستمد مرجعيته من المفاهيم المجردة فقط؛ فهي تجتثه من الحياة؛ و «تـؤمثله». وأن العمل الفني كالحياة ذاتها؛ يحتاج بالإضافة لمعايير الكمال والدقة؛ إلى الروح والرائحة وإلى الهواء. كنت أحاوره في تأملاته مع نفسه؛ وأستدرجه للبوح الوجداني للتجربة الشخصية والمعيشة؛ بعيداً عن المرجعيات الفكرية؛ فكنت أحس أن عناده واعتداده بنفسه أحياناً؛ لا يخلو من نكهة الإحساس والإعجاب بالبقاء كـ «أقلية».

لقد حاولت دائماً خلال حوارات متعددة؛ وأزمنة مختلفة؛ أن أبدد المخاوف التي لديه من «الروائية» في السينما؛ باعتبارها فسحة أكثر اتساعاً للتعبير وللخيال والحرية. كنت أدرك أن رفضه «للروائية» عقليٌ أكثر مما هو وجداني. ربما نجحت أحيانا في تبديد ذلك الخوف. يتجلى ذلك في اللحظات التي تألق فيها «روائياً»؛ في المشاريع المشتركة التي تلاقينا بها معاً؛ وفي مشروعيه الروائيين: «القرامطة» و«أسمهان» اللذين لم يتحققا إلا كنصوص. لا يمكنني أن أنسى تلك اللحظات الروائية الجميلة؛ والصور التي كانت تنبثق منه ونحن نكتب سيناريو «القرامطة». بينما كنت أعف عن الاستنتاجات المجردة التي يتوصل لها في أماسينا هذه. وفي مرات كثيرة لم أكن أرغب في التقاط الأفكار المتناثرة؛ التي كانت تهرُّ أمامي كقطع من البلور المتكسر. فالإبداع لديه يتخلق وكـأنه «رب» يخلق؛ فيتأمل مخلوقاته المرمية في هشيم الغريزة. ويسعى بعدها أن يبدع منها إيقونات مقدسة!. لست ميالاً في الفن لعلاقة الرب بمخلوقاته؛ وأفضّل عنها علاقة المخلوقات بنفسها وبربها، فالخلق الـرباني ذو مذاق نفعي (برغماتي) ولا يعنى في علاقاته بمخلوقاته إلا بالقيم. أما المخلوقات فلديها في علاقاتها ببعضها البعض القيم والمشاعر والذاكرة والوجدان.

اخترت لنفسي أن أتكئ على الذاكرة؛ وعلى التجربة العملية المعيشة؛ لأستمد الصور المغمسة بمشاعر الحنان والحب والألم؛ كما الحامل لجنينها.

خيانة دمشق

في حوارنا حول مشروعه الجديد عن دمشق؛ الذي اقترحه على التلفزيون كفيلم وثائقي. قلتُ له: إن ما آلت إليه دمشق؛ يجعلني أخاف عليها بين يديك. فما يحزنني في دمشق يا عمر! ليس اجتياحها فقط، بل أهلها الذين يتلذذون بانتهاكها. لقد خانوها ومارسوا الخيانة أمام عينيها. فهل تريد أنت أن تتشفى منها؟. حين كنا نتأمل دمشق من أعالي قاسيون؛ كنت أرى كيف يطل؛ على دمشق من فوقها بعينيه الحادتين اللتين لم تكونا تفصحا إلا عن الشعور بإثمها في ما جنته على نفسها. فقلت له: آه كم أخاف أن تصبح «دمشقك» ذبيحةً معلّقة وسط حشد هؤلاء المتفرجين.

تحت وطأة الفراغ والحر الشديد؛ شعرنا للحظات بضيق التنفس وكأننا على وشك الاختناق؛ فكان لا بد لنا أن نتذكر مشهد «ضيق التنفس» الذي عاشه (الحسن الأعصم) في سيناريو «القرامطة» ونتماهى معه. تولدت لدينا لحظتها الرغبة التي لن تتحقق؛ بأن نخمر ونغني ونرقص حتى الثمالة. لكن صوت المآذن بدأ بالتناقص والابتعاد واحداً وراء الآخر؛ وبدأ صوتنا بالاختفاء التدريجي.

مع تسرب ضوء الفجر وراء النافذة؛ لم تعد في الشارع إلا سيارات الأمن التي تتجول وهي تبحث عن ضالٍ جديد. لم يبق لي حينها إلا العودة إلى البيت. الشوارع مقفرة؛ عمال النظافة يحرقون القمامة؛ بينما يقبع رجال الأمن في الزوايا بتنبه وحذر. أسير كمن يسير في سجنه مقيداً بالأصفاد. الأحاسيس التي كانت تتفلت من داخلي بدت لي كفأر متكدم ومذعور.

***

في صالون بيت عمر هذا المساء؛ كان الضوء الأصفر المضغوط؛ يهبط إلى مسافة قريبة من سطح الطاولة؛ وينعكس ليضيء صديقي القابع في الزاوية المقابلة لي؛ فتصبح تفاصيل كل منا للآخر؛ نتفاً متهالكة؛ بينما كل شيء آخر في عتمة. أخذنا اليوم نحكي لمامات متفرقة؛ ثم نتكئ مفككي الإرادة؛ فتتناثر نتف كلماتنا بلا ترابط؛ ثم تحوم في فضاء مفرغ الهواء. تذكرت لحظتها الأمير (ميشكين) في (أبـله) دستويفسكي؛ الذي أراد أن يقول كل شيء ثم يموت في لحظة من اختياره هو. نبدو في هذه اللحظة؛ كأننا شخصيات «ميشكينية» ترغب في الانخراط في المسرحية التي نتخيلها للعرض على منصة النادي السينمائي؛ حيث الشاشة البيضاء لا يرتسم على صفحتها إلا خيال حبل المشنقة!. كان صوتي خلال الكلام هذا المساء؛ يخرج من داخلي على هواه، فأحس أنه يخرج من محجري عينيّ تارةً؛ ومن أسفل قدميّ تارةً أخرى؛ وأني أرنو لمساره ولصداه؛ فيفلت من أي علاقة بي. فكنت أبلل حلقي بما تبقى من لعاب؛ فتذوقني مرارته. تسترقنا الصور والانفعالات إلى الشباب؛ فترتسم الأيام التي عاشها كل منا مع تلك الحرب التي حدثت حينها؛ وكأن كل شيء جاهز للوقوف أمام الكاميرا للحديث عن هزيمة بلا ندب وبلا نفاق؛ وأنه لا يحتاج إلا للتصوير. شعرت لحظتها بضرورة أن نفر من هذه الصور؛ فنهضت عازماً على المغادرة. بعد أن تأكد عمر من تصميمي على الخروج؛ حمل كيس القمامة الأسود ورافقني إلى الأسفل. وحين رمى الكيس الأسود في الحاوية رفعت يدي مودعاً!. في اليوم التالي غدا صمتنا أطول؛ حين علمنا أن (أبا خليل) خالد الغزي مُبدد وحدتنا في النادي السينمائي قد مات!. تذكرنا كيف تمنى مرات عدة أن يضع مسجلة بيننا نحن الثلاثة كلما التقينا. كانت أمنيته تلك هي الشيء الوحيد الذي سخرنا منه في كل أماسينا معه.

اليوم يخرج هذان المخرجان السينمائيان من مبنى التلفزيون في الظهيرة؛ ويسيران على ضفاف النهر الدمشقي؛ ويحمل كل منهما أفكاره؛ لا يدري أين يضعها ولا أين يضع نفسه. لكن ما إن بدأنا نناقش «مورفولوجيا» السينما الوطنية في سوريا، حتى غرقنا في الحديث عن فيلم «صبي في الزحام» لجيرار بلان، الذي عرضناه في النادي السينمائي قبل أيام. لقد ترك هذا الفيلم أعمق المشاعر في داخلنا؛ واستولد الطموح من جديد؛ لتعميم تجربة السينما المتقشفة بدلا من مأساة انتظار المنتظر. لذلك كنا نعبر الشارع ونحن نتلذذ بالنكات بكبرياء تشبه كبرياء هذا النهر الصغير الذي تخترقه «تراكسات» شركة جبل قاسيون؛ وتـدمي قلبه «أعمدة» شركة الإنشاءات؛ فيغدو كقلب لم يبق له إلا أن يجف.

(مخرج سينمائي سوري)

السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى