صفحات الرأي

الأحزاب والنخب وثورات الشارع العربي

 


علي بدوان

كشفت الأحداث الأخيرة والهبات والانتفاضات الشعبية النوعية التي عمت ولا تزال تعم العديد من الأقطار والبلدان العربية في تونس ومصر وانتقالاً إلى ليبيا واليمن, عن هشاشة حضور وفعل وتأثير مختلف الأحزاب التقليدية في الخريطة السياسية العربية وفي مجتمعاتها المحلية.

 

كما كشفت عن غياب كبير -أو تواضع حضور- لدور النخب الفكرية والسياسية في اللحظات التي سبقت اندلاع الحراكات الشعبية.

فما هي حقيقة الحال، وهل كان الزلزالان التونسي والمصري يتسمان بالعفوية التامة دون أي تأثير من أحزاب المعارضة وقواها السياسية والاجتماعية ومختلف النخب ذات الشأن العام، وهل ركبت الأحزاب التقليدية -المعارضة وغير المعارضة- موجات السخط الشعبي وانتفاضات الشارع، أم إن في الأمر تبسيطا للواقع، وسذاجة في قراءة التحولات إياها؟.

تخلف عن حركة الناس

في البداية، يمكن للمراقب الحيادي، ولمتتبع أحوال البلدان العربية أن يسجل الكم الهائل من الملاحظات على دور وفاعلية وتأثير الأحزاب التقليدية وغير التقليدية العربية المحسوبة على صفوف المعارضة، أو على صفوف الائتلافات الحزبية مع الحزب الحاكم (كما كان الحال في تونس على سبيل المثال)، وتخلفها عن حركة الناس والشارع الشعبي العربي، واندغامها في إطار بنى الأنظمة حتى كادت تفقد هويتها السياسية والفكرية.

وهو ما بان واضحاً في اللحظات الأولى من اندلاع شرارات الانتفاضات المتتالية في بعض البلدان العربية، حيث كشفت تلك الانتفاضات عن ضعف المعارضات التقليدية وعدم قدرتها على تحريك الشارع وقيادته نحو التغيير والإصلاح، وعجزها عن المبادرة والنزول بالناس إلى الميدان بشكل كبير وبزخم مؤثر يتجاوز نزول بضع مئات من أعضاء تلك الأحزاب أو أنصارها كما جرت العادة.

كما يمكن للمراقب والمتابع، أن يسجل الكم الكبير من الملاحظات على مسار تلك الأحزاب وعلى أوضاعها الداخلية، والأمراض التي ابتليت بها، وترهل قياداتها وتشابهها بشكل كبير مع الأحزاب الحاكمة، وعدم تبنيها لبرامج واضحة للإصلاح، والابتعاد عن جيل الشباب الحامل الأساسي والمحرك لأي تغيير محتمل، فضلاً عن صراعاتها الداخلية التي أوجعتها على الدوام، وقزمت أداءها، ودفعتها نحو التكلس والتقوقع في معظم الأحيان، لتصبح بناها ومؤسساتها التنظيمية بعيدة عن الديمقراطية الحقيقية في تبادل المواقع القيادية والهيئات التنظيمية.

فهناك في المنطقة العربية أحزاب معارضة -أو في إطار تحالف مع السلطات المحلية- كالفصائل الفلسطينية مثلاً ومنها اليسارية على وجه الخصوص، ما زال أمينها العام جاثماً في موقعه القيادي منذ أربعة عقود ونيف، وهناك أحزاب عربية يسارية، انتقلت زعامتها التاريخية التي امتدت لعقود طويلة من الأب إلى الزوجة ثم إلى الابن، بالرغم من أدبياتها التي تضج بالحديث عن الديمقراطية الداخلية في بنيتها، وعن الديمقراطية مع شعبها، وعن مساعيها من أجل دمقرطة حياة بلدانها.

وقد دفعت تلك الأزمات العديد من الأحزاب العربية -المعارضة وغير المعارضة- إلى الانشقاقات والتناسل الهندسي (كالفطريات) مع سيادة الاستبداد الداخلي في بناها وفي شرايين حياتها وسيرتها، وفي مسار وآليات اتخاذ القرار فيها، على يد قيادة جعلت من الحزب إمارة محكمة الإغلاق، يجتمع فيها الناس حول شخص واحد، يأمرهم وينهاهم بما يشاء وبما يجب، وليس لهم إلا أن يسمعوا ويطيعوا ويلتزموا بأمره، عبر سنوات من التسيير الفردي، والهيمنة الشخصية على يده ومعه مجموعة ضيقة لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، وهو ما أضعف من حضورها وتأثيرها في نهاية المطاف في الشارع وبين الناس، وحولها إلى أحزاب متواضعة، أو إلى أحزاب “الديكور الديمقراطي” في حضرة النظام السياسي الرسمي في بلدانها بأحسن الأحوال.

دور لا يمكن إنكاره.. ولكن

لكن في المقابل لا يمكن إلا لجاحد ومتحامل، اتخاذ طريق الإنكار الكامل والتام، بالرغم من كل الملاحظات الجوهرية والأساسية، لدور وفعل وتأثير القوى والأحزاب المختلفة والنخب السياسية والفكرية -خصوصاً المعارضة منها- في مصر وتونس واليمن والبحرين والمغرب… التي هيأت وعملت على شحذ الهمم، ومراكمة عملية تعبئة الشارع والناس خلال سنوات طويلة من عملها ووجودها على الأرض، وعلى رفع منسوب الاحتقان في وجه الأنظمة الطاغية التي ارتكبت كل الآثام والمفاسد داخل بلادها، وانحازت في خطها السياسي الخارجي (اللاوطني) نحو التواؤم مع ما يريده الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة بالنسبة لعموم قضايا المنطقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ومسائل التسوية في الشرق الأوسط.

ومن هنا، فإن الحديث عن عفوية الزلزال الشعبي العربي المتواصل في العديد من بلدان العالم العربي، وخروج “المارد الشعبي” من قمقمه في تونس والقاهرة وبنغازي وصنعاء والمنامة, أمر صحيح جداً من حيث المعنى العام، لكنه لا يعني البتة تغييب أدوار جميع تلك الأحزاب والقوى والنخب المقصودة بجرة قلم تغييباً كلياً.

فهي وإن كانت بأغلبها تغط في سبات عميق بفعل القمع من جهة وبفعل الترهل من جهة ثانية، لكن قسماً منها كان يعيش حالة من الحراك المتواصل في التأسيس لنهوض الشارع العربي، ولا ننسى في الوقت نفسه أن معظم أحزاب المعارضة العربية بكافة تلاوينها الفكرية والأيديولوجية، تعرضت بشكل عام لقمع شديد، ولحملات تنكيل متواصلة في مختلف بلدانها، ووصلت الأمور إلى حدود حظر نشاط وعمل غالبيتها، ومنعها من العمل العلني، بل وملاحقتها وزج قادتها وكوادرها في المعتقلات وتحت شروط قاسية من العسف والتنكيل، وهو ما أدى بها إلى النزول تحت الأرض والعمل بشكل سري.

هذا ما حدث تاريخياً خلال العقود الثلاث الماضية مع حركة الإخوان المسلمين في مصر على سبيل المثال، ومع حركة النهضة في تونس، ومع العشرات من الأحزاب القومية واليسارية المحسوبة على التيارات الماركسية في هذين البلدين العربيين وفي عموم بلداننا العربية.

ركوب الموجة وتجاوز التخلف

وبالطبع، يفترض في المتابع الجيد، والرصين في قراءته للوقائع، أن يلحظ الفوارق والتخوم، وأن يميز في القراءة والمتابعة بين أحزاب عربية معارضة اشتقت خيارات العمل الوطني الديمقراطي في بلدانها وفق برامج تغيير إصلاحية على أساس السعي نحو المشاركة، وخوض معارك الانتخابات الديمقراطية في النقابات والجمعيات والمؤسسات وحتى الانتخابات البرلمانية، تحت عنوانها المباشر أو تحت أي عنوان آخر، وبين أحزاب عربية معارضة -وهي قليلة العدد على كل حال- اشتقت طريق المواجهة والصدام المسلح المباشر مع أنظمة بلدانها واختارت خطاباَ سياسياً وحتى فكرياً متطرفاً، أوصلها إلى حدود المواجهات المسلحة مع أجهزة الأمن والقوات المسلحة في بلدانها، فضاعت مطالبها الديمقراطية المحقة في مجرى سياسات التطرف وخطاب التصادم الهدام في بيئة عربية رسمية متخمة بأنظمة القمع وأجهزة الأمن المستنفرة على الدوام، وانتهى بها المطاف لتصبح أحزابا محظورة بشدة في مناخ أنظمة لا تقبل المساومة معها، ولا تقبل الحوار مع قوى تتبنى أشكالاً عنفية من العمل في سعيها للتغيير.

وعلى كل حال، فإن العفوية في اندلاع ثورتيْ مصر وتونس، وامتداد شرارات اللهيب باتجاه أكثر من قطر عربي، لا يعني البتة أن الشارع هب ونهض من دون مقدمات، أو من دون عملية “نفخ” مستمرة لـ”سعارات” الصراخ الداخلي الذي يلخص تناقضات الوضع الداخلي في كل بلد من البلدان المقصودة وعلى كل مستوياته الاجتماعية والمطلبية والسياسية.

فالنفخ الداخلي اليومي، وفي اختزانه التراكمي لسعار التناقضات، جاء بكل الأحوال على أيدي النخب السياسية والفكرية وعلى أيدي رجالات وشخصيات القوى السياسية، وبفعل موجات الإعلام الجديد وتقنياته التي كسرت كل الحواجز والسدود، والتي أبدع الشبان في استثمارها في سياق تحشيد الناس وتحرضهم للانتفاضة على واقعهم القائم، وعلى المظالم السائدة.

فالانتفاضة الفلسطينية الكبرى الأولى على سبيل المثال، انطلقت نهاية عام 1987 بعد حادثة الدهس الشهيرة للعمال الفلسطينيين في منطقة جباليا بقطاع غزة، التي قامت بها سيارة عسكرية للاحتلال، فهل كانت انطلاقتها نتيجة الحادث فقط…؟.

الجواب بالطبع لا

فهي انتفاضة عفوية في انطلاقتها، حيث لم يكن لأحد أن يحدد زمان ومكان شراراتها الأولى، إلا أن الاحتقان كان قد أخذ مداه الواسع، وعموم القوى الفلسطينية -بتفاوت بين أدوار وفعل وتأثير فصائلها- كانت قد ساعدت على مراكمة وتخليق مناخات الانتفاضة، بفعل نشاط كوادرها ومؤسساتها وحتى عملها الفدائي المقاوم داخل فلسطين.

وفي مثال آخر، فإن حركة الإخوان المسلمين في مصر، وبالرغم من الحظر الرسمي لها، ومعها بعض الأحزاب الناصرية القومية، كانت تعمل على الدوام على تحريك مناخات الشارع المصري، وتثير حراكات هامة لم تهدأ لحظة واحدة خلال العقود الثلاثة الماضية، وهو ما جعل من قادتها والعشرات من كوادرها، زواراً دائمين لغرف التحقيق وزنازين الاستخبارات والجهات الأمنية المصرية، وقد ساهمت تلك الحراكات في مراكمة التعبئة العامة في الشارع المصري، وفي نفخ “سعارات” الاحتقان بين الناس جراء المظالم والمفاسد الواقعة.

من هنا، فإن نظرية “ركوب الموجة” عبارة عامة نسبية تمس معظم القوى والنخب، ومع ذلك فإن حركة الشارع تفترض بالضرورة تجاوز حالة التخلف عنها من قبل بعض القوى والأحزاب، وتفترض عليها أن توائم دورها وبرنامجها وفعلها مع برنامج الشعب المطروح على الملأ.

تخلف الأحزاب يفرض البدائل

إن تخلف الأحزاب العربية المعارضة عن حركة الشارع العربي بشكل عام، نتيجة البطش والقمع والتنكيل الذي هشمها وهشم دورها في مختلف بلداننا العربية، ونتيجة حياتها الداخلية التي عاشتها في أجواء غير صحية تفتقر للحد الأدنى من الديمقراطية الداخلية، دفع نحو صعود التيارات الشابة، التي بدأت الآن تبلور نفسها بنفسها ضمن إطارات وتجمعات مختلفة في مصر وتونس وليبيا وغيرها، في مجموعات كبيرة من الشباب وصغار السن، وخصوصاً خلايا الجامعات والمعاهد العليا إضافة إلى حديثي التخريج، ولتسبق أحزاب المعارضة، التي وجدت نفسها تلحق بالانتفاضة وحركة الناس (وهو أمر جيد على كل حال).

ومن هنا، فإن انتفاضتيْ مصر وتونس، وليبيا الآن, واليمن وغيرها غداً، والتي أشعل لهيبها مئات الآلاف من الشباب الفتي، في سن الحلم والتوهج، وشارك فيها الملايين من أبناء الشعب بمختلف طبقاته وفئاته، دشّنت عهد الثورات الشعبية في القرن الحادي والعشرين، عهد الثورات التي لا تنتظر الأحزاب التقليدية المعارضة وغير المعارضة على حد سواء، فهي جاءت محمولة على حامل اجتماعي غير تقليدي، حيث لم يكن هذا الحامل الطبقة العاملة أو طبقة الفلاحين، مثلما حدث في بعض نماذج الثورات الشيوعية، ولا القوات المسلحة مثلما يحدث عادة في الانقلابات العسكرية.

أخيراً، إن على الأحزاب العربية التي تدعي وتقدم نفسها باعتبارها رافعة لحركة الناس، ولأهداف الشعب، أن تعيد الاعتبار لذاتها، وأن تغادر أسباب تخلفها الذاتية وغير الذاتية.

كما عليها أن تدرك أن من يريد التواؤم مع حركة الشارع عليه أن يكون في قلبها، وألا يعيش حياة نائية في جزيرة روبنسون كروزو، ولا أن تكون نجما طارقاً يعبر عباب السماء، بل يفترض فيها أن تعيد الاعتبار لذاتها حتى تكون وليدة التاريخ والجغرافيا، تعيش أطوار مجتمعاتها، وتعيش على أرض الواقع الذي تتوالد فيه كل يوم بنى سياسية وفكرية يتقدمها جيل الشباب.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى