صفحات الثقافة

الأدب باعتباره معلّماً للأمل والحرية

عقل العويط

سألني صديقٌ كبير، هو كاتبٌ سوري ناشط في الثورة السورية، ما يأتي: هل من الممكن فلسفياً أن تكون للأدب حياةٌ أو مسؤوليةٌ خارج كينونته الأدبية، وقارئه الأدبي؟ كان هذا الصديق يسأل: هل من عيبٍ في أن يحافظ الأدب على خصوصيته الإبداعية الخلاّقة، ويؤثّر في الحين نفسه، في الشأنَين المجتمعي والسياسي العام؟ كأنْ يأخذ على عاتقه المشاركة المعنوية في الثورات والانتفاضات الداعية إلى تقويض الاستبداد وتغيير الأنظمة الديكتاتورية، والبحث عن السبل اللائقة لإرساء مفاهيم العدل والأنسنة والحرية والديموقراطية؟

إذا قال الأدب “نعم” لمثل هذه الحياة – المسؤولية، فهل من خطأ معنوي ومادي يُرتَكَب في حقّ كينونته الأدبية، أو هل من “انزياح” عن جوهره الأدبي البحت، ومعناه المتمثل في خلق اللقيا عبر اللغة؟

قد لا يكون المقام مناسباً، للانغماس في التنظير النقدي حول فلسفة الأدب، وعلاقته بكل ما هو مقيم في “الخارج الموضوعي”. لكن أسئلة، كالتي سبقت، من المعروف أن أجوبتها حضرت، بإشراقاتها الإيجابية البهية، على مدى التاريخ الأدبي في العالم، غرباً وشرقاً، وكانت تمليها أمزجة الأدباء وتفاعلاتهم، واستدعاءات الواقع على السواء. هذه الأسئلة تعود اليوم، لتحضر، بقوة، في بعض تجاربنا العربية الراهنة، من خلال ما نشهده في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق ومصر وليبيا وتونس واليمن والبحرين.

جوابي المتواضع للصديق هو الآتي: لا يتحمّل الأدب شروطاً تأتيه من خارج ذاته. لا شيء “يجب” أن يفعله الأدب، على المستوى “الأخلاقي”، من مثل أن يكون في صلب “أخلاقيات” هذا الأدب أن “يمتشق” قلمه تأييداً لثورة. لا شيء “يُلزمه” ذلك، على المستوى الإبداعي، مهما يكن هذا الشيء عظيماً. فللأدب أن يفعل ما يريد، وأن يستنكف عن الفعل. يستطيع أن “يناضل” إذا كان “نضاله” لا يستنزفه من داخل، ويستطيع أن “يصمت”، وأن يكون “مجانياً” و”مترفاً”، أو، بالعكس، “محبطاً” و”عدمياً”، إذا كان “الصمت” و”المجانية” و”الترف” و”الإحباط” و”العدمية”، لا تجعله جثةً مرمية على القارعة الأدبية.

لا أعرف ما إذا كان يحقّ لي أن أستخدم فعل “يجب”، عندما أجد نفسي مدعوّاً إلى المشاركة في الإجابة عن مسائل كهذه، تتعلق بالشعر أولاً، وبالرواية ثانياً، وبالتهجينات الأدبية المتوالدة من تلاقح الشعر والسرد، ثالثاً. الشيء الوحيد الذي أعرفه، ويجب أن أصونه، في جوابي، يتمثل في أن لا تضطرّ الأديبَ ظروفٌ موضوعية كظروف الثورة، إلى حمل التجربة الأدبية على التنازل عن شرطها الخلاّق، لتصير لساناً ناطقاً باسم الثورة، أو بوقاً نضالياً ترويجياً، أو نوعاً من بوق. الشرط الوحيد لكلّ كتابة إبداعية، أن تحافظ على كرامتها هذه، بأن تظلّ مجانية، وقادرة على أن تحيا بذاتها الأدبية، من دون حصانة “موضوعها الخارجي”.

قد يعنيني، كما في الراهن العربي، السوري الفلسطيني المصري العراقي اللبناني…، أن أرى الأدب “يتورّط” تورّطاً موضوعياً، غير متنازل، وغير مبتذل، في ما هو خارج حياته الذاتية، وهجسه التجريبي والاختباري، بحيث يجد نفسه متفاعلاً مع هذا “الخارج” الثوري والنضالي، معبِّراً عنه، وآخذاً على عاتقه، حيناً، النطق ابداعياً، باسمه. أي: رمزياً ودلالياً.

يعنيني، بالقوة نفسها، بل أكثر، أن أظلّ أرى هذا الأدب متشبثاً بحصانته الذاتية، مستوياً على عرشه، إذ “يتورّط” في التجربة الوطنية والثورية والسياسية. قد يتحفظ البعض عن كلمة “عرش”، لكني لا أجد أيّ حرج في استخدامها لجلوس الأدب، وخصوصاً أني لا أقصد بهذه الكلمة أن يكون الأدب متعالياً أو متشاوفاً أو ساكناً برجه العاجي، بل فقط أن لا يتنازل، البتة، عن خصوصية كينونته الجوهرية في الكتابة الأدبية.

أواصل الجواب: رأيي المبدئي أن الأدب يحيا بذاته، وبقارئه، وليس عنده من مسؤولية خارج هذه الذات اللغوية

المتفاعلة مع متلقّيها. لكنه، من حيث يدري أو لا يدري، قد يتطلّع في الكثير من الأحيان إلى ما هو مقيم عند حدود جوهره الأدبي الملتهب، وخارجه، فيجد نفسه معنياً بما يعتبره بعض فلاسفة الأدب خارج هجسه الوحيد.

في هذه الحال، سألني الصديق، هل نخطّئ الأدب ونرذله ونتعالى عليه؟ هل نُعرِض عنه لأنه “يتورّط” في الثورة والنضال والتمرد للمساهمة في تغيير الوقائع الوطنية، المجتمعية والسياسية، أو على الأقل، للشهادة المعنوية فيها؟

مبدئياً، لا. لكن شرطي الوحيد في هذه الحال، أن يظلّ الأدب خلاّقاً، وقادراً على المجانية والتوليد والإذهال والإدهاش والصدمة والمفاجأة، مثيراً، بجسده الأدبي، حالات لا حصر لها من الالتباس والتوالد والاحتمال.

على الهامش، أثار الصديق السوري، الكاتب الناشط نفسه، سؤالاً هو الآتي: كيف أستطيع أنا المواطن القتيل أن أتحمّل أن يكون الأدب متفرّجاً، أو عاجزاً حقاً عن خلق “معجزة” خارج كينونته الأدبية، كما هي الحال في المأساة السورية؟

جوابي المتواضع هو هذا: التاريخ الأدبي يثبت أن الأدب كان إعجازياً، أعجوبياً، من حيث القدرة على الجمع بين الخلق الإبداعي والتأثير والفاعلية، في الكثير من الثورات والتجارب والمحطات، شرقاً وغرباً، لكنه كان، أيضاً، بوقاً خائباً ومهزوماً وفاشلاً في الكثير غيرها.

ليس صحيحاً في المطلق، الآن، أن الأدب، ومعه الفنون الأخرى (السينما، الموسيقى، المسرح، التشكيل، الرقص، الغناء…)، لا تستطيع أن تُحدث فارقاً عميقاً في الوجدان العام لشعبٍ ما، في لحظةٍ تاريخيةٍ ما. كما هي الحال الآن، في الوجدان السوري، أو المصري، أو العراقي، أو الفلسطيني، أو اللبناني.

ما هو هذا الفارق؟ الجواب أمامنا، في الأدب نفسه. وفي الفنون نفسها.

قد لا يكون الأدب (معه الفنون) مدعوّاً إلى المساهمة المباشرة في زلزلة أركان الاستبداد، والوقائع الجائرة، وإلى إرساء الأسس الكريمة لثقافةٍ وطنية سياسية تأخذ بمعايير كريمة في ممارسة الشأن السوري العام (المصري، العراقي، الفلسطيني، اللبناني…)، واستحداث معايير وسلالم نبيلة للقيم. وقد لا يستطيع هذا الأدب أن يساهم في صناعة طبقة سياسية جديدة، ونظيفة، تقلب المفاهيم السائدة، لكنه يستطيع أن يفعل الشيء الكثير في الوجدانَين، الفردي والجمعي العام.

هل تريد براهين وأمثلة أيها الصديق الكبير؟ التاريخ الأدبي، هنا في دنيا العرب، وهناك في العالم، شاهدٌ مطلق، لا يكذب، ولا يزوّر.

أخاف على الأدب، مطلقاً، من مثل هذا “التورّط”، بقدر ما أتهيّب سطوته الروحية والابداعية، عندما يجمع بين معجزتَين، معجزته الذاتية في استمرار كونها أدباً خلاّقاً، ومعجزته الموضوعية في “التورّط” للمساهمة التاريخية في كسر شوكة الاستبداد.

لا أتحدث عن الصحافة الأدبية والثقافية فحسب. بل أيضاً عن التجربة الأدبية في ذاتها. ثمة أمثلة في تاريخنا الأدبي العربي المعاصر، قادرة على أن تعطينا دروساً “أدبية” في هذا النوع من الأمل. فليبحث الأدباء والفنانون عن هذه الأمثلة. وليأتوا بمثلها. بل بأحسن منها.

من جهتنا، سنظلّ نتعامل مع الأدب باعتباره معلّماً. معلّماً خلاّقاً للأمل والحرية!

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى