صفحات الثقافةعزيز تبسي

الأرض تهتز/ عزيز تبسي *

 

 

لا تُدخَل المدن إلا من بوابتها. وحدهم الغزاة من يتسللون من خلفها ومن أطرافها، بعد سبرها وكشف المواقع الأقل حماية فيها، بتحرٍ حثيث عن قنوات مياه الشرب ليدلقوا فوقها عصائر السموم، وبتواطؤ عادة مع نفوس مجبولة بالخيانة والشر.

لم تكن في يوم مقلعاً صخرياً أو منجماً أو أرض براح يستوجب تفجيرها لإخراج معادنها وصخورها وتذرير ترابها، بعد شق بطنها، وحشوه بأطنان من الديناميت، وإرسال شحنة كهربائية تلهبها، لتأتي على ما فوقها وتحتها.

يتحدد موقع العدو في الجبهات الحربية، ويعمل على تحاشي رصاصه وقذائفه بحفر خنادق، وتشييد ملاجئ من أسمنت يقوّى بأسياخ الحديد…لكن هنا تتساقط القذائف من كل الجهات، وتتفجر الأرض تحت أقدام السابلة.

لم تتوقف التفجيرات التي تحصل تحت الأرض، وربما لن تتوقف حتى تعود المدينة إلى الحالة التي آلت إليها بعد زلزال 1822.. والغاية التي يصرح من يقومون بها مخادِعة، كأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون ولا النتائج المترتبة على فعلهم الجنوني، من تدمير منهجي لكل المدينة القديمة بأسواقها وخاناتها ومساجدها وجوامعها وقيسارياتها وحماماتها.. وبنيتها التحتية من شبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء والهاتف.

ما الأهمية والمعنى المتبقي للصراع السياسي في شكله العسكري – الحربي، وهو يستهدف وفق ما يصرح به علناً ويومياً، الاستيلاء على السلطة السياسية، في تفجيرات يستخدم فيها عشرات الأطنان من الديناميت لـ “دار العلم – السفاحية، ومشفى الغرباء الحميدي – فندق الكارلتون حالياً، والقصر العدلي، وجامع الخسرفية، وجامع السلطانية، وجامع أبشير باشا، وحمام بهرام، وخان قورت بك في حي الفرافرة، والسرايا القديمة…” وبعد كل تفجير يعقد محاربو ومناصرو وقادة الكتائب المقاتلة حلقات الدبكة والزغاريد، ابتهاجاً بالإنجاز الحربي المحقق.

قدمت حيلة “حصان طروادة” في الحروب الإغريقية معنى مزدوج لاقتحام المدن المحمية بالأسوار العالية والبوابات المصفحة والأبراج الدفاعية. معنى العجز الحربي عن تجاوز الإنشاءات المعمارية الدفاعية، ومعنى التقدير لتلك الصروح وعدم الرغبة في تدميرها… وجسدت شكلاً أولياً من عقلانية الفصل البين بين الكروم وحراسها، بتطويق الآثار المروعة للحروب والصراعات المسلحة، قبل أن تؤول إلى إفناء أسباب الحياة، إيذانا بسقوط المدَنية قبل سقوط المدينة، وسقوط الدولة والمجتمع قبل سقوط السلطة.. إن لم تكن فرصة لبقائها وتجددها.

***

لا يملك الراكضون حقائب جلدية تتعالى بمحتوياتها إلى منتصف جذوعهم. وضعوا ألبستهم في أكياس نايلون سوداء، يستخدمها غيرهم لوضع الزبالة. حشوها بعجالة بثيابهم، وهي ثروتهم التي أضحت تنتقل معهم من بيت لآخر ومن مأوى إلى مأوى. أكياس رقيقة، تظهر من ثقوبها ألوان ألبستهم وألبسة أولادهم، التي أذلّتها الأنواع الرديئة من المنظفات.

نسي هؤلاء الحرية، الأمل الذي عَبَر كنيزك في لياليهم، كما نسوا انبجاس المياه من صنابيرها النحاس، وتوهج الكهرباء في مصابيحها الزجاجية. يرفعون رؤوسهم للأعلى متوسلين أن لا ينقطع الهواء.

استعاضوا عن العملات الصعبة بالمعاملات السهلة، كأن يقايضوا عرقهم اليومي بالخبز والسردين.. وما انفكوا يعتبرون الفليفلة الحمراء الخارجة من أتون النار وليمة ملوكية، تكتمل بأكواب الشاي. ويتساءلون، ترى ما هي الظروف التي تدفعنا لعقد جدائل الأمل على كلام من سرقوه وبددوا أهله في الأرض؟

تتدفق النصائح، في وقت هم يحتاجون للمياه والخبز العفيف وعبوّة الغاز المنزلي.. يتوجب الحفاظ على الأعصاب باردة. وهناك من لا يزال يحتفظ بمزاجه الرائق ليذكرهم بعبارة ستندال “فيما يصوبون عليك، انظر إلى شجرة، وثابر على عد أوراقها”. لكنهم يجهلون من يصوب عليهم، وهل هو أمامهم أم خلفهم أم على يمينهم، يسارهم، فوقهم، تحتهم.. وتغيب عنهم الأشجار، التي فقدت أوراقها في محنة الشيخوخة ونقص المياه، ولا يبقى إلا أن ينظروا لبعضهم ويحصوا أنفاسهم المتقطعة.

– ما جدوى الوقوف على الأطلال؟

– هذه المدينة التي تتفجر بالحيوية والحياة، لم تكن في يوم من أيام تاريخها أطلالاً، كأنها متساكنة مع التاريخ بمتواليات الجماعات التي قطنتها، بالتنوع الأقوامي واللغوي، بعمارتها وترفها، ببهجتها الموسيقية وأحزانها الصامتة، بنجاحاتها وإخفاقاتها، كأنها ملامِسة حنونة لحجارة صقلها الحجارون ورفعها البناؤون بأوامر رومانية وبيزنطية وعربية وأيوبية ومملوكية وعثمانية، وهي الأكثر حضوراً ومهابة في هذه المدونة التاريخية التي تتفتت حجارتها، وتنهب مكتباتها ويغادرها أهلها.

***

تحتاج المدن إلى “ملاك حارس” يسهر على نومها ويقظتها.. يتدخل ليتشفع بها حين اقترابها من الامتحانات الكبيرة، لكن ما هم إقحام كائنات منحدرة من الخيال البشري المرتجف، المسكون بالهلع الدائم، حين يعجز عن تبين الوقائع وإجلاء غموضها.. المدن تحتاج لملاك حارس، يؤمن الحماية الذاتية بحزمة من القوانين التي تكفل الحياة وتضبط الصراعات.. بغير أهلها الأحرار لن تحرس المدن نفسها.

وتبقى هذه البيوت التي يبدلونها بعد نهاية عقد الإيجار، مكاناً للنوم.. لا فسحة بهيجة للعيش والحياة. كل ما هو ضعيف الأسس يهتز ويترنح ويقع أرضاً. كاف تشغيل مولدة كهربائية لتهتز العمارة. لا يحتاج جس متانة هذه المدن لقنابل فراغية وصواريخ حرارية وبراميل متفجرة، ومدافع جهنم وأنفاق تملأ بأطنان من الديناميت.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى