صفحات العالم

الأزمة الخليجية.. المهزلة الخليجية/ عبد الهادي خلف

 

 

 

أكدت الأحداث التي تلت لقاء أمير الكويت بالرئيس الأميركي في البيت الأبيض في السابع من ايلول/ سبتمبر الجاري، أن الخليج العربي هو شأن أميركي بالدرجة الأولى. ولا غرابة في ذلك، فمن يعرف شيئاً عن تاريخ المنطقة يدرك أن حكام الخليج يكرّرون في العام 2017 ما كان يفعله أسلافهم منذ بداية القرن التاسع عشر، حين كان الخليج العربي بحيرة بريطانية. وقتها، كانت بريطانيا تشرف على الأمن في المنطقة وتفصل في النزاعات بين شيوخ القبائل، حتى ولو تطلّب ذلك إزاحة شيخ وتعيين آخر مكانه، أو فرض غرامات مالية على قبائل متنازعة، أو تهجير قبيلة من منطقة إلى أخرى.

لم يختلف المشهد حين وقف أمير الكويت أمام الرئيس الأميركي ليعلن أن جهود الوساطة التي قام بها نجحت في منع اللجوء إلى الحل العسكري في الأزمة الأخيرة. ولم يختلف حين أبدى الرئيس الأميركي استعداده للتوسّط بين قطر والإمارات والسعودية، وأعلن إقتناعه بأن التوصّل إلى تسوية “سيتم على نحو سريع للغاية”. (وكان لافتاً عدم إشارة الرئيس الأميركي لكلٍ من البحرين ومصر المشاركتين في الحلف الرباعي ضد قطر).

عرقلة التسوية

تسارعت الأحداث بعد ذلك المؤتمر الصحافي، وبدت متّسقة مع ما أعلنه الرئيس ترامب. فبعد اتصالات تمهيدية قام بها الراعي الأميركي، نشرت وكالة الأنباء السعودية خبراً عن تلقي ولي العهد السعودي

اتصالاً هاتفياً من أمير قطر “أبدى خلاله رغبته بالجلوس حول طاولة الحوار، ومناقشة مطالب الدول الأربع بما يضمن مصالح الجميع”. وأضافت الوكالة أن ولي العهد السعودي رحب بذلك. وقامت وكالة الأنباء القطرية بنشر نصٍ مماثل حول المكالمة الهاتفية وغرضها.

كانت الأمور تسير في طريق التسوية. إلا أن “شيئاً ما” جعل وكالة الأنباء السعودية تسارع إلى نشر بيان جديد يعلن عن “تعطيل أيّ حوار أو تواصل مع السلطة في قطر، حتى يصدر منها تصريح توضح فيه موقفها بشكل علني”. أضاف البيان أن السلطات القطرية لم تستوعب بعد “أن المملكة العربية السعودية ليس لديها أي استعداد للتسامح مع تحوير السلطة القطرية للاتفاقات والحقائق”.

لم يكن واضحاً في البداية ما المقصود بالتحوير المشار إليه، ولم يتضح ما الأمر الذي قامت وكالة الأنباء القطرية بتحويره. لكن سرعان ما تبيّن أن الغضب الواضح في البيان السعودي وإعلان تراجع محمد بن سلمان عن ترحيبه بالعرض القطري يعود إلى ذكر وكالة الأنباء القطرية أن الإتصال بين الأميريَن جاء “إثر تنسيق أميركي ومبادرة من قبَل الرئيس الأميركي دونالد ترامب” (الوطن البحرينية 9/9/2017).

حفظ ماء وجه ابن سلمان

هي مهزلة حقاً إذا كان سبب تأخير الدخول في التسوية هو الرغبة في حفظ ماء وجه ولي العهد السعودي، الذي لا يرضى أن يُقال عنه إنه يتلقى التوجيهات من أحد، حتى ولو كان رئيس الولايات المتحدة الأميركية.  فمنذ تولى محمد بن سلمان منصب ولي ولي العهد، بذل الإعلام الرسمي السعودي والتابع له جهوداً حثيثة لإبرازه كقائدٍ يملك قراره. وليس ثمة ما يشوّه تلك الهالة أكثر من أن يعرف الناس أن قائد مملكة الحزم قد تلقّى توجيهات من الرئيس الأميركي بالدخول في تسوية مثل تلك التي تلّقاها حاكم قطر. وأسوأ من ذلك، أن يُقال إنه امتثل لتلك التوجيهات.

من المحتمل أيضاً أن يكون السبب الأهم لتأخير الدخول في تسوية يكمن في فشل محمد بن سلمان في إقناع حلفائه في مصر والبحرين والإمارات بجديّة العرض القطري. يضاف إلى ذلك ــ ربما ــ عنجهية الرئيس الأميركي واستخفافه بقادة الأمارات والبحرين ومصر، إلى درجة عدم إشراكهم في الاتصالات التي مهدت للمكالمة الهاتفية بين أمير قطر وولي عهد السعودية.

ومهما يكن السبب، أو الأسباب الحقيقية، فمن المؤكد أن مفتاح تسوية الأزمة الخليجية الراهنة باقٍ في يد الرئيس ترامب. وهو لا يجد الآن ما يجعله يستعجل التوصّل إلى تسوية أزمة توفّر له شخصياً مكاسب سياسية، كما توفّر لبلاده مكاسب إقتصادية وسياسية إضافية.

الأزمة المهزلة

بعد أكثر من مئة يوم على اندلاع الأزمة، لا يبدو أن أحداً من أطرافها قادرٌ على تسويتها أو الخروج منها. فبعد أن نجحت الوساطة الكويتية، حسبما أعلن أمير الكويت في مؤتمره الصحافي في البيت الأبيض، في منع خيار التدخل العسكري، لم يعد ممكناً بعد إعادة التموضع الإقليمي أن تغامر قوات “درع الجزيرة” بغزو قطر لإستبدال حاكمها. ولهذا كله توقف الحديث عن إنشاء قاعدة عسكرية مصرية في البحرين، كما توقف التهديد بـ”تدخل إقليمي” كما لوَّح وزير الخارجية البحريني في إحدى تغريداته المتسرعة (25/6/2017).

إقرأ أيضاً: القاعدة والاستثناء في الخلافات الخليجية

بعد اندلاع الأزمة الخليجية الأخيرة كتب كثيرون من صنَاع الرأي في منطقة الخليج معبّرين عن مخاوفهم من تداعيات الأزمة على مستقبل المنطقة وعلى العلاقات بين شعوبها. وعلى الرغم من ذلك، ظلّ الأمل يراود كثيرين بأن تتغلب الحكمة، وأن تقود – كما كتب الأكاديمي الكويتي محمد الرميحي في مدونته – إلى “إصلاحات في الدولة الخليجية أزف زمانها، وتطوير منظومة تعاونية تحلّ فيها الثقة والاطمئنان محل الشك، والشفافية محل التعتيم، والمؤسسية بدلاً من الفردية، مع وضع آلية واضحة لحلّ الخلافات قبل أن تستفحل”. إلا إن فرص التعبير عن تلك الآمال وعن تلك المخاوف تقلصت كثيراً، بعد أن أعلنت السلطات المختصة في الإمارات والبحرين والسعودية عن “تجريم التعاطف مع قطر”، بما في ذلك مناقشة ما تسببه قرارات المقاطعة الشاملة من معاناة. فصار جرماً يستحق الملاحقة أن يحذّر أهل الرأي من عواقب سيادة عقليّة المعاداة بالجملة، أو أن يطالبوا بالتفريق بين معاداة حاكم من الحكام وبين معاداة شعبه.

الفجور في الخصومة

بجانب عجز أطراف الأزمة عن إنهائها بهذا الاتجاه أو ذاك من دون توجيه أميركي، نراهم عاجزين أيضاً حتى على إبقائها في حدودها الراهنة.  فهي تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى عبثِ صبية يملك كلّ واحدٍ منهم جيشاً وأموالاً يجنّد بها أنصاراً وحلفاء وأجهزة إعلام في الداخل والخارج. ويمكن توثيق أشكال العبث والإسفاف فيما نشرته في الأسابيع الأخيرة أجهزة الإعلام في قطر والسعودية والإمارات والبحرين. ففي غياب خيارات التسوية لدى الأطراف الخليجية من دون تدخل أميركي مباشر، يتجه إعلامها وكبار مسؤوليها إلى تبادل السباب والبذاءات.

أحد آخر أمثلة الإنحدار المتسارع في الإسفاف ظهر في عطلة عيد الأضحى، حين نشرت شركة “روتانا” المملوكة للأمير السعودي الوليد بن طلال أغنية بعنوان “علّم قطر” على حسابها في موقع يوتيوب. وضع كلمات الأغنية مستشار في ديوان ولي العهد السعودي. قام بأدائها سبعة من أشهر المطربين في السعودية، أرادوا تعليم قطر ومن خلفها “ان البلد هذه طويلٌ بالها، بس المسايل لين وصلت للخطر لا والله ان تشوف فعل رجالها”.

حتى وقت كتابة هذا النص، شاهد تلك الأغنية التي تبلغ مدتها خمس دقائق أكثر من خمسة ملايين شخص! (مع ملاحظة وجود بصيص أمل في كمّ التعليقات في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي التي استهجنت هذا الإسفاف الإعلامي والفجور في الخصومة). من جهتها، بادرت وسائل الإعلام القطرية والتابعة لها بنشر بذاءات مضادة، كما قامت بإعادة إذاعة أغانٍ في حب قطر ومدح أميرها كان أدّاها عددٌ من المطربين المشاركين في شريط “علّم قطر”…

كشف التقاذف بالأغاني أن إسفاف الإعلام الرسمي السعودي وبذاءاته لا يختلف عن مثيله القطري. كما كشف أيضاً أن المطربين، كغيرهم من العاملين في المجال الثقافي الرسمي، مجنّدون في خدمة ولي الأمر. بل أنهم قادرون على استخدام أدوات القرن الواحد والعشرين وتقدّمه التكنولوجي للقيام بدور أسلافهم في عصور ما قبل النفط، حين يستدعيهم شيخ القبيلة وحين تنطلق صرخة الفزعة. وهم بذلك لا يختلفون عن حكّامهم الذين يتصارعون بأدوات القرن الواحد والعشرين لإدامة علاقات وأنظمة تنتمي إلى القرون الوسطى.

* أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة لوند ـ السويد، من البحرين

السفير العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى