صفحات العالم

الأزمة السورية وحتمية التدويل


منذر عيد الزملكاني

لقد كان للضغط العربي أثره المبين على النظام في سوريا، وأحدث فيه هزة سياسية كبيرة أفقدته توازنه، ودفع به نحو مزيد من التخبط السياسي والدبلوماسي والقمع الأمني والانتقام حتى من الانتماء العربي، لا.. بل التنكر للقومية العربية التي صبغت هويته وأسبغت عليه الشرعية منذ نشأته الأولى.

لم نكن نعهد سياسة رد الفعل في الدبلوماسية السورية من قبل، ولطالما اشتهر عنها سياسة التروي والنفس الطويل والتربص لا المواجهة، وذلك لعقود مضت. لكن الخروج عن المألوف المصطنع قد أبان وهن النظام وأظهر ضعفه الشديد وكشف الستار عن أجهزته غير المؤهلة، بل المفككة أيضا، وأعطى تصورا حقيقيا لدى الجميع عن تحوله إلى عصابات تخريبية تعيث في الأرض فسادا.

إن فشل النظام السوري في التعامل مع المبادرة العربية بإيجابية أثبت أن البوصلة السياسية للنظام السوري التي طالما أنقذته من محنه وتورطاته طيلة أربعة عقود قد تم عطبها وتخريبها بفعل ثورة الحرية والكرامة للشعب السوري، وأدخلت النظام السوري في غياهب تيه سياسي لن يخرج منه هذه المرة إلا بسقوطه.

عربيا، سوف تتسارع الجامعة العربية لعقد اجتماعات في الأيام المقبلة لدراسة ما يمكن اتخاذه من إجراءات لمواجهة الحملة القمعية التي سوف تزداد وحشية في الأيام المقبلة، لكن الجامعة العربية تفتقر للآليات المتأصلة قانونيا لتنفيذ القرارات، إضافة إلى عدم إلزاميتها من قبل جميع الدول الأعضاء، فمثلا قررت الجزائر عدم الاستجابة لقرار الجامعة العربية الداعي إلى سحب سفراء الدول الأعضاء من سوريا وأبقت على سفيرها في دمشق، إضافة إلى دور سوريا المحوري في الشرق الأوسط وارتباط النظام السوري بقوى دولية وإقليمية، حكومية وغير حكومية ذات تأثير سياسي كبير في هذه المنطقة. كل ذلك سيضع الجامعة العربية في مأزق حقيقي ويجعل الملف السوري يتسلل إلى ما وراء حدود الدول العربية، أي التدويل.

لقد أعرب الشعب السوري لشهور خلت عن معارضته الشديدة للتدخل الأجنبي من خلال إيمانه العميق بأن سلمية الثورة هي الطريق الأوحد لإسقاط النظام، لكن هذا الإيمان العميق تحول إلى كفر بواح بالتظاهر السلمي كطريق وحيد لإسقاط النظام، فأصبح الشعب ينادي بالحماية الدولية والحظر الجوي، وما هي في الحقيقة إلا ضرب من آليات التدخل الدولي الذي أضحى بالنسبة لهم أبغض الحلال للوصول إلى إسقاط النظام، لكن النظام في سوريا سيجند موضوع التدويل لصالحه وسيكون أقوى سياسيا وإعلاميا على مواجهته، فنظريات المؤامرة على سوريا واستهدافها كدولة ممانعة ودولة مواجهة وحيدة لإسرائيل زاخرة به أدبيات النظام ومن سار في ركبه في الشرق والغرب.

لكن ما هي آليات التدخل الأجنبي؟ وتحت أي مظلة دولية سيكون التدخل؟ هل سيتكرر السيناريو الليبي أم يتم إحياء المشهد الصربي؟ وبمعنى آخر هل التدخل سيكون بإشراف الأمم المتحدة أم أنه سيكون بتحرك منفرد من قبل الناتو، أم سيكون بتحالف عدة دول عربية وإقليمية ودولية ذات صلة مباشرة بالوضع في سوريا؟ الولايات المتحدة الأميركية عندما تتخذ قرار التدخل في سوريا فإن آخر ما تفكر به هو المظلة السياسية والشرعية، حتى إنها في بعض الأحيان لا تأبه بها أبدا، وهذا ما حدث عند احتلال العراق عام 2003. الولايات المتحدة احتلت العراق بمعية دول كبرى وصغرى من دون مرجعية سياسية أو مظلة قانونية وتحت ذرائع زائفة تم نسجها في أوكار المحافظين الجدد. إذن مفاتيح الحل هناك في البيت الأبيض تحت وسادة الرئيس الأميركي أوباما، وسيستخدمها في وقتها حتى وإن عارضت روسيا أو الصين أو أي دولة أخرى، فما دامت هناك مصالح متبادلة وبيع وشراء فكل شيء ممكن.. هذه هي شبكة العلاقات الدولية بكل بساطة.

كلنا نذكر كم عارضت روسيا تدخل الناتو في يوغوسلافيا سابقا ذلك الحليف الأقوى دائما بامتدادها الديني، فالناتو لم يتدخل للإطاحة بميلوفيتش وحسب، بل قام بتجزئة يوغوسلافيا إلى دويلات متناحرة، وماذا فعلت روسيا؟؟ لا شيء. لا أعتقد أن الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تعد العدة الآن للتدخل في سوريا، لأننا نعلم أن أي تدخل غربي مهما كان شأنه لا بد أن يسبقه دائما تجييش إعلامي رهيب يمهد له الطريق، وهذا ما لم نره حتى الآن. بل على العكس التغطية الإعلامية الغربية للأحداث في سوريا فقيرة جدا على الرغم مما ارتكبته أجهزة القمع الأسدية من وحشية وطعن للقيم الإنسانية، فأحيانا تمر أيام بل أسابيع ولا نجد مادة إعلامية واحدة تتطرق للأحداث في سوريا لا تصريحا ولا تلميحا.

لكن لماذا يعرض الغرب عن معالجة الأزمة في سوريا بشكل جذري وينشغل بحلول لن تؤتي أكلها إلا بعد فناء الشعب السوري على أيدي أجهزة النظام وزبانيته؟ والجواب هو أن العالم بأجمعه يراهن حتى الآن على تجاوز النظام السوري لهذه الأزمة، فمصلحة الجميع عربيا وإقليميا ودوليا مع بقاء هذا النظام ما دام فيه نفس يتنفس، وهذا ما يفسر لنا إعطاءه المهلة تلو الأخرى من قبل بعض وكلاء القوى الكبرى في منطقتنا، وتزداد وحشية النظام مع كل مهلة جديدة أملا منه في قمع الثورة والثوار، لكن فشل النظام في تحقيق ذلك يحرج الشرق والغرب والعرب والعجم ويضعهم أمام مسؤولية أخلاقية تلزمهم التدخل المباشر أو غير المباشر وخصوصا مما بات يعرف بالعالم الحر حامي حمى حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية، أو كما يزعمون.

وأخيرا فإن الخروج الحقيقي من الأزمة السورية لن يكون إلا بإسقاط النظام بكل أركانه، وذلك من خلال سيناريوهات عدة مطروحة، منها هروب بشار الأسد فجأة، أو الانشقاقات الكبيرة المتوقعة في قواعد وهرم المؤسسة العسكرية، ويبقى الأرجح هو التدخل الخارجي، وبالنسبة لبشار الأسد فإن أحلى هذه السبل سيكون مرا.

*باحث في مركز الدراسات السورية، جامعة سانت أندروز، المملكة المتحدة

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى