صفحات مميزة

الأزمة في الخليج وتداعياتها على الشأن السوري –مقالات مختارة-

 

 

 

 

الحملة على قطر آخر حلقات هجمة النظام القديم الإقليمية/ جلبير الأشقر

كي نفهم مغزى الحملة العنيفة التي شنّتها حكومات السعودية والإمارات والبحرين ومصر على قطر، بعيداً عن متاهات الفدية العراقية وغيرها من تهم دعم الإرهاب التي لا مصداقية لها بتاتاً عندما تصدر عن أطراف خاضت في هذا الدعم طوال العقود، لا بدّ لنا من العودة إلى المشهد الذي سبق «الربيع العربي» وكيف تأثر بالانتفاضة الكبرى.

لقد سلكت إمارة قطر إزاء الأوضاع الإقليمية في عهد الأمير حمد بن خليفة آل ثاني نهجاً لا يخلو من الشبه بينه وسلوك إمارة الكويت منذ إعلان استقلالها عن بريطانيا سنة 1961. وكان ذلك الإعلان قد أثار سخط الجمهورية العراقية التي كانت تطالب باسترجاع الإمارة باعتبارها جزءًا من أراضيها. فاستفادت الكويت من التوتّر القائم بين العراق بقيادة عبد الكريم قاسم ومصر بقيادة جمال عبد الناصر لتدعيم القبول باستقلالها عربياً فضلاً عن الحماية البريطانية. وبغية ردع جارها العراقي عن الطمع بضمّها، انتهجت منذ ذلك الحين سياسة حياد عربية حافظت من خلالها على علاقات طيبة مع قطبي ما أسمي «الحرب الباردة العربية»، أي مصر والسعودية.

والتشابه هو في أن قطر، كما هو معلوم، على علاقات متشنّجة تاريخياً مع جارتها السعودية، لا سيما منذ إعلان استقلالها عن بريطانيا في عام 1971. فبعد أن تولّى السلطة في عام 1995، انتهج الأمير حمد سياسة تسعى للتعويض عن صغر حجم الإمارة بسياسة ترتكز على توطيد العلاقة بالقطبين الرئيسيين للصراع الإقليمي كما انجلى منذ انتشار القوات الأمريكية بكثافة في منطقة الخليج، ألا وهما الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الإيرانية. وهذا ما بان على أوضح وجه في توفيق قطر بين استقبالها لأهم قاعدة عسكرية أمريكية إقليمية على أراضيها (وعلى حسابها) وبين نسجها علاقات ودّية مع إيران و«حزب الله» في آن واحد. كما تجلّت سياسة حُسن العلاقات مع الأضداد بتوفيق قطر بين إقامتها علاقة دبلوماسية مع دولة إسرائيل ودعمها لحماس.

بيد أن دور قطر في عهد الأمير حمد لم يقتصر على نسج العلاقات الحسنة مع شتى الأطراف على الطريقة الكويتية وهو موقف حيادي سلبي، بل تعدّى ذلك إلى استخدام ثروتها العظيمة في لعب دور فعّال في السياسة الإقليمية من خلال رعاية جماعة الإخوان المسلمين. والحال أن السعودية كانت قد نبذت الجماعة بعد أن رعتها منذ نشأتها في عام 1928، وذلك بسبب موقفها الرافض للتدخل الأمريكي في أزمة الكويت سنة 1990. وقد زاد من وطأة دور قطر السياسي إلى حد كبير إنشاء قناة «الجزيرة» وما أحرزته من صدىً على نطاق المنطقة العربية بأسرها من خلال استقبالها لأصوات عربية معارضة، ولا سيما من أوساط الجماعة.

هكذا، عندما انفجر بركان الانتفاضة العربية الكبرى سنة 2011، تمكّنت قطر من لعب دور عظيم الشأن من خلال وصايتها على الإخوان المسلمين وقناة «الجزيرة» معاً. وكانت النتيجة أن قطبي الصراع الذي طغى على الساحة العربية مذّاك، وهما النظام القديم والمعارضة الأصولية بقيادة الإخوان المسلمين، وجدا دعماً في مجلس التعاون الخليجي: فبينما دعمت السعودية النظام القديم في عموم المنطقة، باستثناء ليبيا حيث التزمت الحياد وسوريا حيث أدّى العامل الطائفي إلى تحالف النظام مع إيران، دعمت قطر كافة الانتفاضات وبصورة خاصة الإخوان المسلمين المشاركين فيها، باستثناء البحرين لأسباب بديهية. وقد تجلّى التعارض بين الإمارة والمملكة منذ بدء «الربيع العربي» في دعم قطر للانتفاضة التونسية مقابل منح السعودية اللجوء للرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي.

هذا وقد رأت إدارة باراك أوباما في دور قطر سبيلاً لدرء خطر تجذّر الانتفاضة العربية بما يهدد المصالح الأمريكية، فلعبت على الحبلين: دعمت النظام القديم مع السعودية تارةً (كما في البحرين)، وحاولت احتواء الانتفاضة مع قطر من خلال الإخوان المسلمين وأشباههم تارةً أخرى (كما في تونس ومصر). غير أن دور قطر في حثّ واشنطن على تبنّي سياسة مسايرة الانتفاضة أثار سخط السعودية، وبوجه خاص سخط الإمارات المتحدة التي عيّنت الإخوان المسلمين عدوّاً رقم واحد لها. وقد تصاعد ضغط الدولتين الخليجيتين على قطر بعد الهزيمة الكبرى التي مٌنيت بها المراهنة القطرية على الإخوان بنتيجة إطاحة الجيش المصري برئاسة محمد مرسي وقمعه الدموي للجماعة، وقد تبع ذلك قرار الأمير حمد التخلّي عن الحكم وتولية ابنه، الأمير الحالي تميم. ثم بلغ الضغط الخليجي ذروةً أولى في سنة 2014 لإجبار الأمير الجديد على تغيير المسلك القطري.

إثر الذروة المذكورة، بدا لوهلة وكأن هذا النزاع الخليجي أشرف على نهايته. فمن خلال إجماع الدول الخليجية الثلاث سابقة الذكر على دعم المعارضة السورية ضد نظام آل الأسد، بما أدّى إلى انحطاط العلاقة بين قطر (ومعها الإخوان المسلمين) وإيران، ومن ثم مشاركة قطر في الحملة العسكرية ضد الحلف بين علي عبد الله صالح والحوثيين في اليمن، كل هذا على خلفية صعود ملك جديد على العرش السعودي، بدا وكأن الوئام بات ممكناً بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي. وقد دعّم هذا الاتجاه سعيُ المملكة لفترة وراء تحقيق إجماع سنّي ضد إيران يشمل جماعة الإخوان، الأمر الذي تزامن مع التوتّر بين الرياض والقاهرة. وقد انسجم هذا الاتجاه انسجاماً تاماً مع سياسة إدارة أوباما.

غير أن وصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة قد غيّر المعادلة. فالرئيس الجديد مؤيد لسياسة صدامية في مناهضة التغيير والثورة في المنطقة العربية، كما أنه يتميّز بالعداء الشديد لإيران (وبالصداقة الحميمة مع دولة إسرائيل)، بينما يصنّف بعض أبرز مستشاريه جماعة الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية ويلتقون بذلك مع دولة الإمارات (كما تبيّن من خلال مراسلات سفيرها في واشنطن التي جرى الكشف عنها مؤخراً). وقد أدّى هذا التغيّر الأساسي في المعادلة إلى تصالح السعودية مع مصر السيسي وشنّهما برفقة الإمارات والبحرين الحملة المسعورة الراهنة على قطر من أجل فرض تبدّل جذري في سياستها.

وبذلك تكاد تكتمل آخر حلقات انتكاسة الانتفاضة العربية الكبرى والهجمة المضادة التي شنّها النظام القديم في عموم المنطقة، بدعم من المحور الخليجي في معظم الساحات وبدعم من إيران في سوريا واليمن. أما الموجة الثورية الجديدة القادمة لا محال عاجلاً أو آجلاً، والتي تظهر إرهاصاتها حالياً في المغرب وتونس، فلن يكون هناك من يقدر على احتوائها وقد تندم الرياض وأبو ظبي على قضائهما على الدور القطري في هذا المجال.

٭ كاتب وأكاديمي من لبنان

القدس العربي

 

 

 

 

انعكاسات سورية للزلزال الخليجي/ وليد شقير

تراجع الاهتمام بالتطورات الميدانية السورية في الأيام الماضية، على رغم أنها تشهد ذروة جديدة في التصعيد، وفي الصراع على بلاد الشام، وتنافساً مفصلياً على تموضع قوى خارجية فيها.

من الطبيعي أن تغطي أنباء الزلزال الديبلوماسي السياسي الناجم عن الأزمة غير المسبوقة بين دول الخليج ومصر ودول عربية وإسلامية أخرى، وبين قطر نتيجة تغريدها خارج السرب الخليجي في أزمات الإقليم، ومنها سورية، بل إن الخلاف العربي مع قطر يشمل سلوكها في ساحات تلك الأزمات. والسعودية في سردها وقائع الخلاف مع القيادة القطرية، تناولت «احتضان جماعات إرهابية وطائفية متعددة تستهدف ضرب الاستقرار في المنطقة، ومنها جماعة الإخوان المسلمين و «داعش» و «القاعدة» والترويج لأدبياتها… ودعم نشاطات الجماعات الإرهابية المدعومة من إيران في محافظة القطيف ومملكة البحرين…».

ما لم يذكره المصدر المسؤول في الرياض، في لائحة «نكث السلطات في الدوحة بتعهداتها» منذ عام 1995، هو امتداد الخلاف إلى الميدان السوري، فقطر اختطت لنفسها سلوكاً منفصلاً عن الرياض ودولة الإمارات في أحيان كثيرة في الميدان السوري، على رغم أن الجامع المشترك هو دعم المعارضة منذ اندلاع الأزمة السورية. وحين أخذت الأزمة منحاها العسكري بفعل جموح نظام بشار الأسد نحو قمع الاحتجاجات السلمية بالتنكيل والقتل والتدمير، ترجمت الدوحة طريقتها بالتمدد، عبر خيوطها مع قوى مصنفة إرهابية، منها «جبهة النصرة» التي تحولت «فتح الشام» (وقيل في حينها إن الدوحة كانت وراء تغيير الاسم لتجنيب الفرع السوري لـ «القاعدة» العقوبات) وباتت ميليشيات سورية أخرى قريبة من «النصرة»، والخيط الرابط تمويلها القطري.

لكن هذه التشكيلات العسكرية خاضت جولات من التقاتل في ما بينها، وسقط من مقاتليها بمقدار ما سقط لها ضد القوات الأسدية والميليشيات الحليفة، من إيرانية وعراقية وأفغانية… في سياق التنافس على الإمساك بالمناطق الخارجة عن النظام، ما ساهم في إضعافها.

مرّ الانخراط القطري في الأزمة السورية بفترات شهدت تنسيقاً مع الدول الخليجية الداعمة للمعارضة، لكنه مرّ أيضاً بفترات شهدت تباعداً وتناقضاً مع الحلفاء الخليجيين المفترضين، فبدا أحياناً أن التقاتل بين القوى العسكرية المعارضة للنظام هو انعكاس للخلاف بين «الحلفاء». والنتيجة الموضوعية كانت إضعاف قوى المعارضة، وتعميق إخضاع الدعم الذي تتلقاه للأجندات الخارجية التي أدخلتها في متاهات سهلت بعض هزائمها، فبات تشتتها حجة لدول غربية كي تحجب عنها الدعم، ما سهل صعود «داعش» والمتطرفين.

بصرف النظر عن تفاصيل انعكاسات ذلك، فإن آخر فصول التفرد القطري في سورية كان صفقة الإفراج عن الـ 26 قطرياً الذين اختطفوا في العراق على يد «حزب الله» العراقي، وبعضهم من الأسرة الحاكمة، مقابل الإفراج عن مقاتلين لـ «حزب الله» وعراقيين وإيرانيين، وإخلاء بلدتي كفريا والفوعة الشيعيتين المحاصرتين مقابل إجلاء بلدتي الزبداني ومضايا اللتين حاصرهما «حزب الله» والنظام. التفاوض الأساس في الصفقة كان مع «حزب الله» اللبناني ثم تشعب، فانتهت الصفقة بدفع مئات ملايين الدولارات مولت الأخير وميليشيات عراقية وأخرى مدعومة إيرانياً، و «النصرة» و «أحرار الشام» على السواء.

للدور القطري انعكاس آخر في سورية: أنتج اتصالات بين «حزب الله» وبعض التشكيلات الإسلامية السنّية، لبعضها أصول «إخوانية» متصلة بالدوحة، بحجة صوغ اتفاقات جديدة لإخلاء قرى في منطقة القلمون، بهدف تحييد مناطق عن القتال، لأن هم الحزب التفرغ لانتزاع السيطرة على معابر من العراق إلى سورية (التنف والبوكمال)، حيث يدعم الأميركيون سيطرة قوات قاموا بتدريبها. والهدف مواجهة السياسة الأميركية الجديدة بقطع طريق التواصل بين طهران وسورية عبر العراق، تطبيقاً لمطلب دونالد ترامب انسحاب إيران والحزب من سورية. وهو ما يطرحه قادة الخليج. وهدف إيران والحزب أيضاً مواجهة المعارضة في درعا، للحؤول دون تمددها بدعم أميركي وأردني.

رفعَ ذلك احتمالات الاحتكاك بين واشنطن وموسكو التي تدعم محاولات النظام و «حزب الله» طرد المعارضة من درعا، بقصف مدمر وكثيف من الطيران الروسي. ويتلمس بعض السوريين المتابعين للتواصل بين «حزب الله» وإيران وتنظيمات سورية على صلة بقطر، مشروعاً لقيام تعاون إيراني- قطري- تنضم إليه تركيا، بحكم خلافها مع الإدارة الأميركية على إعطاء الأكراد دوراً رئيساً في معركة الرقة، وبفعل تقاربها مع الدوحة وتوافقها مع طهران في وجه الدور الكردي. فهل يتعزز هذا الاحتمال بموازاة تعاون الدول الثلاث لمساعدة الدوحة على مواجهة أزمة الحصار الخليجي؟ وهل تستفيد موسكو من هذا التلاقي لمواصلة الحرب بالواسطة مع واشنطن، في الجنوب السوري؟

كل هذا قد يطرح على بعض المعارضة السورية تحدي الاختيار.

الحياة

 

 

 

 

انعكاسات خطيرة ستترتب على عناد الدوحة/ راغدة درغام

لا مناص من تطويق تدهور الأزمة مع قطر لأن تفاقمها سيؤدي إلى استنزاف قطر بكلفة غالية، أولاً لقطر وأهلها وكذلك لمنطقة الخليج وللعمال العرب والآسيويين فيها. ستترتب على عناد الدوحة انعكاسات خطيرة على النزاعات في المنطقة العربية بإفرازات على أهلها وعلى أوروبا وآسيا بتدفق اللاجئين– وربما الإرهابيين أيضاً– عبر البوابة الليبية والسورية بصورة خاصة.

تؤكد تطورات هذا الأسبوع أن تطويق الأزمة ليس كافياً وأن تغيير سلوك قطر بات مطلباً ثابتاً لكل من السعودية والإمارات ودول عربية أخرى. العلاقات مع إيران وتشعباتها تتربع في صدارة أولويات التغيير المطلوب في سلوك قطر، وكذلك تبني الدوحة لمشروع «الإخوان المسلمين». هذا يضع الدوحة أمام قرارات مصيرية عليها اتخاذها بوضوح وبضمانات وبلا مساحة للتأويل أو للالتباس، لأن مصلحة قطر تقتضي ترطيب البيانات وإثبات مواقف أكثر إصراراً على الاستقرار في الخليج والمنطقة العربية. تتطلب دحض الانطباع الذي ساد طويلاً بأن قطر تلعب أدواراً خفيّة في الشرق الأوسط وتخريبية في أكثر من مكان لأن هذه سمعة ليست في مصلحة الدوحة.

تجنباً للوقوع في فخ اصطياد العلاقات الخليجية– الخليجية، من الضروري للجميع التأني والتنبّه لعواقب السماح لهذه الأزمة بأن تتطوّر إلى قطيعة دائمة لأن تداعيات ذلك مؤذية جداً للأولويات الخليجية الاقتصادية والتنموية والسياسية والأمنية إلى جانب ضررها البالغ على شعوب ودول النزاعات. ثم أن الولايات المتحدة تقع في خضم التطورات بمصالحها الحيوية، لذلك تحض الإدارة على رأب الصدع ولمّ الشمل على المدى البعيد فيما يقوم الرئيس ترامب بتغريدات هدفها إبلاغ الرسالة الأولية إلى جميع المعنيين وعنوانها أن الأولوية هي لمواجهة الإرهاب ومصادر تمويله وأن القواعد الأميركية في منطقة الخليج بالغة الأهمية لكن مواقعها متوافرة في أكثر من مكان، إذا برزت الحاجة.

وساطة أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح تشكل مدخلاً مهماً إلى الحكمة على أيدي أمير مخضرم في العلاقات الخليجية والعربية كلفته القمة الخليجية في المنامة بالحوار مع إيران تحت شرط عدم تدخلها في الشؤون الداخلية للدول العربية واحترام قواعد الجيرة. هدف تحرك الشيخ صباح إلى الرياض ثم إلى دبي للقاء القيادة الإماراتية ثم إلى الدوحة هو خلق جو يحول دون ازدياد الأمور تعقيداً وتدهوراً. لعل استئناف اللقاءات مستبعد في هذه الفترة، إنما السعي هو وراء ضبط الانفلات في العلاقات الخليجية.

عُمان تعمل، كعادتها، وراء الكواليس وليس واضحاً ماذا كانت رسالة وزير الخارجية يوسف بن علوي إلى الدوحة أثناء الزيارة، قال إنها خاصة، أتت في اليوم التالي لإعلان السعودية والإمارات والبحرين إلى جانب مصر وليبيا واليمن قطع العلاقات مع قطر. فائدة دخول عُمان على خط الأزمة تكمن حصرياً في اتخاذها قرار تهدئة الأجواء في الدوحة وحض القيادة القطرية على التفكير استراتيجياً بعيداً عن الاعتباطية العاطفية لأن العواقب ستنال من مصالح قطر قبل غيرها. فالإجراءات التي تم اتخاذها نحو قطر مكلفة جداً لها بسبب الحصار الاقتصادي والمقاطعة والعزل السياسي، مكلفة على الصعيد الآني وعلى المدى البعيد بما يؤثر في مشاريع قطر التنموية منها والرياضية مثل استضافة المونديال.

الأمم المتحدة ابتعدت عن الأزمة في انتظار وضوح معالمها، إنما القلق على ليبيا بالذات اتخذ صفة ملحة نظراً للصراع بين قطر والإمارات في بلد هش يقع على حافة الانهيار إلى حرب أهلية. مثل هذه الحرب تدب الرعب في قلوب الأوروبيين خشية تدفق الهجرة إلى دولهم وقلقاً من تنامي الإرهابيين في وقت تواجه أوروبا اختراقاً إرهابياً لأمنها.

السفراء الغربيون تحدثوا عن دور شخصي للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في ملف ليبيا تطوّع بالقيام به حرصاً على دفع العملية السلمية إلى الأمام بتعديلات ضرورية على اتفاق الصخيرات. تحدثوا عن ارتياح إلى تعاون مصري- جزائري- تونسي وعن مخاوف حدة الخلافات الإماراتية– القطرية في ليبيا وانعكاساتها الخطيرة. لذلك، قد يرتأي غوتيريش القيام بدور المهدّئ للأعصاب الإماراتية والقطرية للجم أي اندفاع نحو التصعيد المكلف لليبيا نفسها ولجيرتها العربية والأوروبية.

كثيرون في إدارة ترامب، بالذات من العسكريين في المناصب المدنية، معجبون بسياسة الـ Surge القائمة على عقلية الاندفاع بزخم القوة والحزم للتأثير الجذري في قطر لجهة إما تغيير نهجها أو احتوائها بفوقية إذا قاومت التغيير. مثل هذه العقلية تبدو وراء السياسة الأميركية نحو إيران، مثلاً، في هذه المرحلة من العلاقات وملامحها واضحة في الإجراءات الخليجية نحو قطر. وبحسب المصادر الأميركية الرفيعة، تهدف الإجراءات الخليجية إلى الضغط على قطر جدياً بهدف كبح أو لجم الدعم للإرهاب مع التشديد على أن المسألة ليست «أبيض وأسود لأن علاقاتنا مع قطر راشدة، ولنا قاعدة عسكرية مهمة هناك، ونحن في حاجة إليهم، إنما مواجهة الإرهاب فائقة الأهمية». وتضيف المصادر: «نحن لا نسيطر على إجراءاتهم ضد قطر. كل ما أوحينا به هو أننا نريد أقوى دعم ضد الإرهاب».

مصر أرادت أن تكون في المقدمة ليس فقط بسبب الخلاف الجذري مع قطر بسبب «الإخوان المسلمين» وإنما أيضاً لإبراز العلاقة المميزة مع الرئيس ترامب وتلبية دعوته لمكافحة الإرهاب. توجد الآن احتمالات توسيع نطاق المواجهة مع قطر– وإن لم يكن عبر إجراءات عسكرية– لدرجة تحوّل المسألة إلى عقدة بضخامة عقدة اليمن، انعكاساتها مؤذية للشعب الخليجي برمته وللعمّال فيه.

صحيفة «نيويورك تايمز» كتبت عن تعيين مايكل داندريا في منصب قيادة مبادرة جديدة ضد إيران في وكالة الاستخبارات المركزية CIA واعتبرت تعيين «أمير الظلام»، كما يسمى مؤشراً على جدية الموقف المتشدد لإدارة ترامب نحو إيران. والمؤسسة العسكرية لا تنوي الانخراط برجالها في صفوف التشدد، ميدانياً، مع إيران على رغم مواقف إدارة ترامب التصعيدية ضد طهران بالذات أثناء قمة الرياض، وعلى رغم قول ترامب إن إيران هي «دولة الإرهاب الأولى»، وعلى رغم قلقها من قدرات إيران في مجال القرصنة الإلكترونية. القيادات العسكرية الأميركية تريد أن يكون الصف الأمامي للدول الخليجية التي تقرر المواجهة مع إيران، أو تقرر لجم إيران في سورية والعراق واليمن. تريد هذه القيادات من الدول العربية والخليجية بالذات اتخاذ القرار إذا شاءت، وتقديم القوات والأموال لتنفيذه بنفسها لأن الولايات المتحدة لن تفعل وستكتفي بتقديم النصيحة والدعم عند الضرورة.

المؤسسة العسكرية الأميركية لا تريد الالتهاء بالشرق الأوسط وتفاصيله لأن مصدر التهديد الوجودي الوحيد للولايات المتحدة هو روسيا. لذلك، يريد كبار القيادات العسكرية الانتهاء من الانصباب على روسيا كمتورط في الانتخابات الرئاسية. يريدون معالجة التداعيات تمهيداً أو تحريراً لضرورة إحياء قنوات الحوار مع روسيا على صعيد المؤسسات العسكرية إما كصديق، أو كعدو، أو كشريك في المصالح المشتركة في مختلف بقع العالم. المؤسسة العسكرية تريد الوضوح في قنوات التواصل تجنباً للمواجهة وحرصاً على احتواء التهديدات الوجودية.

إيران مهمة لها في رسم المشهد في الشرق الأوسط، وكذلك تركيا إلى جانب الأولوية الإسرائيلية وإحياء العلاقات التقليدية مع الدول الخليجية. هناك الآن أزمة خطيرة ومصيرية ووجودية من وجهة النظر الخليجية مصدرها قطر بسبب نهج الفكر والرؤية الوجودية لقطر المتمثل في العلاقات مع الحكومة في طهران ومع «الحرس الثوري» في إيران، مع «الإخوان المسلمين» في مصر وامتداداتهم في الإمارات وغيرها، مع تنظيمات في سورية والعراق عليها علامات استفهام ذات علاقة بالإرهاب. كل هذا خارج السرب العربي والخليجي بالذات.

في وسع قطر، إذا قررت، تفنيد كل هذه الاتهامات وإعلان خريطة طريق واضحة لرؤيتها وسياساتها تبدد غيوم العلاقات مع الدول الخليجية ومع الولايات المتحدة الأميركية. فإذا كان ما حدث بمثابة إنذار، إنه ليس جرساً فارغاً بصوت دوي. إنه إبلاغ جدي، عربي وأميركي، بأن محاصرة قطر وتطويقها ليس فورة عاطفية عابرة بل نقطة تحوّل مهمة وخطيرة ما لم تستدرك الدوحة، وتستدير.

وفي وسع إدارة ترامب أن تلعب دوراً بنّاءً بعيداً عن الغمز لهذا والتحريض لذاك والتشجيع على مواجهات ليس من السهل ضبطها. هذه ليست لعبة إلكترونية، روسية أو أميركية، لأن مصير المنطقة العربية برمتها في المعادلة. فليت مغرّد واشنطن ينسق مع إدارته الراشدة خطوات تطويق التدهور بإظهار حزم الولايات المتحدة في حماية مصالحها الاستراتيجية وليس بالتلاعب على تقلباتها لغايات تكتيكية.

الحياة

 

 

مسلسل رمضان المسلّي/ نهلة الشهال

فيم يختصم القوم؟ رسمياً في أن قطر “تدعم الإرهاب” (أي بعض التنظيمات المسلحة التي تعيث فساداً في الارض.. وهو ما تفعله السعودية والإمارات أيضاً، بحيث تتنقل أحياناً تلك التنظيمات بينها بيسر “يشرعنه” التنافس المالي)، وأنها تأوي قيادات من الإخوان المسلمين من كل المنطقة. وأقل رسمية ولكن بدرجة صغيرة، في أن قطر تقيم علاقات وديّة مع إيران، بل (ويا للهول!) هنأت روحاني بإعادة انتخابه، وهنأته بقدوم رمضان.. ثم، وبشكل لا يمكن التصريح به، في أن “رأسها كبرت” كثيراً في السنوات الماضية، حتى تخيلت أنها عظمى، في السياسة كما في الاستعراض وكما في المشاريع، فلم يبق فريق كرة قدم عالمي إلا واشترته ولم يبق متجر كبير ذائع الصيت في باريس أو لندن إلا وصار ملكها، وهلم جرا..

ويقول الخبثاء إنه حكم الشبان من أبناء الملوك والأمراء، هؤلاء الذين ولدوا وترعروا في محيط هانئ مترف ومتسلط، فلم يفقهوا من السياسة شيئاً، حتى ولو أرسلوا للدراسة في أحسن الجامعات الأمريكية (بل ربما يجب القول “لاسيما إذا ارسلوا” الخ الخ.. حيث يعتقدون أنهم متفوقون على آبائهم وعلى اقرانهم). ويستذكِّر هؤلاء الخبثاء نظرية إبن خلدون عن الدولة وفيها وصف للجيل الثالث وما يتسبب به من مصير بائس، مبدِّد، بعد جيلي التأسيس ثم التمكين..

حسناً: قُطِعت العلاقات الدبلوماسية ومُنع أي

تبادل مع قطر من قبل مجموعة دول تقودها السعودية ومعها الإمارات.. المصابة بلوثة قطر نفسها ولو بتأخر يبلغ عقدين من الزمن (بدليل ما تفعله في الجزء الجنوبي من اليمن، وسيطرتها العلنية على ميناء عدن وعلى جزيرة سقطرى، بل وإنشائها لقاعدة عسكرية ــ ! ــ في الصومال). وبالنسبة لمصر، فالخشية كل الخشية أن يقرر الرئيس السيسي منح السعودية هدية أكبر من جزيرتي تيران وصنافير حتى يُقبَل في الحلف الجديد، من قبيل إرسال قوات مصرية لتقاتل في أماكن قد يحتاج القوم للقتال فيها. فالتوازن الديمغرافي مختل هنا، والرئيس المصري يقود بلداً تعداده 90 مليوناً، أكثر من نصفهم يعيشون تحت خط الفقر.. فهل يدفع “الغلابة” الثمن كالعادة؟ وأما “جمهورية القمر المتحدة” (جزر القمر) التي انضمت للتحالف فهي تستدعي الشفقة وليس السخرية. وبين الشقين تقع ليبيا.. وهلم جرا هنا أيضاً. وهناك ما يبدو وكأنه اصطفاف مطلوب من الجميع، فالمسلسل لم ينته بعد.

ولكن “الأطرف” هو تصريحات تصدر عن مسؤولين إماراتيين، من قبيل “غرامة باهظة والسجن 15 عاماً لأي اماراتي يبدي تعاطفاً مع قطر أو ميلاً أو محاباة” (في أي قانون دستوري درس الشاب ذلك، وهو النائب العام في بلاده ودكتور في القانون؟)، فيما دكتور آخر (درس في جامعة جورج واشنطن!) اقل شباباً وأكثر تمرساً ويتولى منصب وزير الدولة للخارجية، يقول بصراحة مصدرها ثقة تامة بمشروعية قوله “الأمر لا يتعلق بتغيير النظام. إنه مسعى لتغيير سياسة ولتغيير مقاربة. ما نقوله لقطر هو الآتي: أنت جارة وعليك أن تلتزمي بقواعد أمن الخليج واستقراره”.. بـ”العافية” كما يقول المصريون. وأحد الدكتورين قال إن في قطر تموين كاف ولا يوجد خطر مجاعة.. فحمدنا الله على نعمه.

بالمقابل قطر تتعامل مع الكبار: تركيا وإيران، البلدان اللذان يتذكران كل يوم أنهما وريثا أمبرطوريتان، وهما محيطان بنا، ونحن حالنا يمكن أن تُبكي العدو وفق المثل الشائع. ولكن  عدونا كما هو مجسد في الواقع ــ أي إسرائيل  لمن ضاعت عليه التعريفات ــ هو من “اللؤم” بحيث أنه في غاية الحبور ويستسقي المزيد.

وهناك في الطرف الآخر من العالم السيد ترامب الذي تفاخر (عبر تغريداته على عادته) بأنه كان وراء الحدث الجاري هنا، دافعاً السعودية للاطمئنان إلى أنها من انتقاها الامبرطور، متناسياً أن في قطر قاعدة “العديد”، وهي ربما كانت كبرى القواعد الأمريكية في الخارج، ومقر للقيادة المركزية الأمريكية لمنطقة شاسعة، ومخزن هائل للاسلحة، وثمرة لـ”اتفاقية التعاون الدفاعي” بين أمريكا وقطر الموقعة إثر الحرب على العراق 1991. رجل الأعمال ترامب يحسبها جيداً: كل هؤلاء سيتنافسون على شراء الاسلحة منا وسيدفعون عوائد نفطهم وغازهم لشراء رضانا. برافو مستحَّقة.

كيف سينتهي هذا الهذر؟

السفير العربي

 

 

 

 

«أزمة الخليج»: أمورٌ خفيّة/ عامر محسن

حين تراوح التحليلات التي تبحث عن «السبب الحقيقي» خلف الخلاف الخليجي، وما جعله ينفجر فجأةً بهذا الشكل العنيف، بين من يقول إنها بسبب الموقف من ايران و«الاخوان»، ومن يقول إن المسألة تتعلّق بالغاز، وبين نظرية الفدية التي يُقال إنها دُفعت لأطراف عراقيّة، فهذا يعني ببساطة أنّ لا أحد يعرف ما هو «السبب الحقيقي» للخلاف، وما هي الخطّة التي تسير عليها الحملة ضدّ قطر.

 

يضيف الى تعقيد المسألة أنّ أطراف الحملة ليسوا «صادقين» بالكامل في تعداد حججهم ومطالبهم، فيقولون ما يعتبرون إنّه سيلقى رواجاً في الغرب وصدىً لدى حكوماته ولوبياته (من قبيل دعم «الارهاب» وتنظيم «القاعدة»)، ولا يعبّرون عن مشكلتهم الحقيقية مع الدّوحة. على سبيل المثال، «قائمة الارهاب» الخليجيّة التي تمّ نشرها مؤخراً تستنسخ فعلياً اللوائح التي تروّج لها، منذ سنوات، مؤسسات مثل «معهد الدفاع عن الديمقراطيات» في واشنطن، وتحاول عبرها اقناع السياسيين الأميركيين بعلاقاتٍ بين الدّوحة و«القاعدة» وتوثّق تاريخها (مضافاً اليها أسماء لمعارضين من مصر والبحرين، مقيمين في قطر وقد صدرت ضدّهم أحكام قضائية في بلادهم). ولكنّ الكلّ يعرف أنّ هذه اللوائح هي لـ«إحراج» الدّوحة أمام الغرب، وأنّ «الثورة» الخليجية ضدّها لا علاقة لها بدعم الزرقاوي في العراق أيام الاحتلال الأميركي أو باسترداد وجدي غنيم.

في الوقت ذاته، فإنّ كلّ التحليلات تظلّ ناقصةً ومحدودة القيمة حتّى نفهم الموقف والدّور الأميركي، وهل يوجد أصلاً دورٌ أميركي في القضية؟ هنا الميدان الأساسي للتنافس الخليجي، وهنا الموقف المحوريّ الذي يقرّر كلّ شيء. فلنكن واقعيين، على عكس ما تروّج له وسائل الإعلام السعودية التي تزعم بأنّ قطر تستجدي حماية تركيا وايران، فإنّ واشنطن هي الوحيدة التي تحمي قطر ونظامها اليوم، ولو تغيّر الموقف الأميركي من النّظام فلن تحميه ايران ولا تركيا، ولا حتّى الصّين. لأجل هذا سبّبت «تغريدة» لدونالد ترامب على «تويتر» نقاشاً واهتماماًَ وهلعاً في الخليج أكثر من كلّ ما قيل وفُعل خلال الحملة. (ولهذا ايضاً، لا يهمّ الموقف الذي تأخذه ــــ ايّها العربي ــــ من الأزمة، وكلّ ما نراه حولنا من اصطفاف اعلاميين ونشطاء ما هو الّا عملية إثبات ولاء، لن يقدّم ولن يؤخّر). البعض يقول إنّ هذه الأزمة تقسم الصفّ الخليجي ومنظومة «مجلس التعاون»، ولكنّ لا شيء جديداً هنا، فالمجلس ــــ لو تفحّصت تاريخه ــــ لم يكن يوماً منظومةً موحّدة، والعلاقات بين حكومات الخليج لم تكن يوماً صافية. ولولا الدّور الأميركي الذي يجمع هذه الحكومات في مواقف أساسيّة، ويضع سقفاً للسياسة الاقليمية، لكانت هذه السّلالات لا تزال تتحارب وتتبادل الغزو، كما كان الحال قبل قرنٍ من الزمن، وأبناء العمومة يقتلون بعضهم البعض في صراعات الخلافة.

 

نظريات مؤامرة

 

بغضّ النّظر عن التأويلات، فإنّ مقاطعة عدّة دولٍ خليجيّة لقطر تُظهر احتمالاتٍ لمكاسب معيّنة قد تكون في ذهن خصوم الدّوحة، وتعكس عناصر التنافس الخليجي، وإن لم تظهر في واجهة الأحداث. شروط المقاطعة كانت استثنائية في قسوتها وغير متوقّعة، كمثال حظر المجال الجوّي لعدّة دولٍ على الطيران التجاري القطري. هذا لا يحصل حتّى في حالات العداء المفتوح؛ والدّول تسمح لطائرات خصومها المدنية بالعبور في أجوائها حتّى حين تُقطع العلاقات ويُمنع التبادل بين البلدين ــــ وهذا عرفٌ عقلانيّ لأنّه يخدم مصلحة الجميع ويبقي هذه الحاجات الأساسية للناس والتجارة خارج حلبة السياسة. في عزّ أيّام الحرب الباردة، كانت شركات الطيران الغربية تستخدم أجواء الاتّحاد السوفياتي للعبور الى آسيا واليابان (وكانت تدفع رسوماً للحكومة ولـ«ايرفلوت»). حتّى في عزّ الحرب السورية والحملة الخليجية ضدّ دمشق، ظلّت أجواء هذه الدول مفتوحة لعبور الطيران السوري، بل وقامت شركات سوريّة برحلاتٍ الى الامارات ومطار الشارقة.

هناك نظريّة هنا، لا يمكن استبعادها، عن أنّ الحظر يمثّل ــــ من بين أهدافه السياسية ــــ ضربةً للخطوط الجوية القطرية، وخدمةً لخطوط «الامارات» تحديداً. لا يجب التقليل من حدّة المنافسة بين الشركات الخليجية «العالمية» للطيران، وهي ثلاث: واحدة في قطر واثنتان في الامارات، وأنّ التناطح الأساسي هو بين «الامارات» و«القطرية» اللتين تعتمدان نموذجاً مشابهاً وتتنافسان على الخطوط الدولية نفسها تقريباً. من أسباب انخفاض أرباح «الامارات» في السنوات الماضية، على الرغم من انخفاض أسعار النفط وانتعاش صناعة الطيران عالمياً، كان منافسة «القطرية» ــــ وإخراجها من السّوق أو اضعاف نموّها سيمثّل خدمةً حقيقيّة لـ«الامارات». «القطرية» هي الخاسر الاكبر: تضطرّ رحلاتها الآن الى الالتفاف فوق ايران وأخذ طرقٍ طويلةٍ مكلفة، رحلاتها الى افريقيا تحديداً ستواجه مشاكل كبيرة وقد تصبح غير اقتصاديّة، وهذا يعني تأثيراً مضاعفاً لأنّ «القطرية» (كأ«الامارات») تعتمد على «قنوات التغذية» كشبكتها الكبيرة في افريقيا، لملء باقي رحلاتها الدولية. بنفس المعنى، خسرت «القطرية» كامل السّوق السعودي المهمّ وورثته غريمتها، فأكثر السعوديين في السنوات الأخيرة لا يستخدمون شركتهم الوطنية للرحلات البعيدة، بل يختارون بين «القطرية» و«الامارات». بل إنّ خطّ دبي ــــ الدّوحة، الذي أُقفل، كان يُعتبر من الخطوط الكثيفة في العالم رغم مداه القصير، و«القطرية» كانت تجري أكثر من 19 رحلة يوميّة عليه وحده، وهذه كلّها طائراتٌ أضحت فائضة وعليك أن تجد لها مكاناً بديلاً. الوضع المالي لـ«القطرية» أصلاً لم يكن في أفضل أحواله. هذه العوائق الجديدة قد لا تؤدّي الى إفلاسها ولكنّها، على الأقلّ، ستحدّ من وتيرة نموّها وتقلّص سوقها وربحيتها.

بالمعنى نفسه، من الجانب السعودي، هناك «نظريّة مؤامرة» أخرى عن طمع الرياض بغاز قطر لا يجب، ايضاً، صرف النظر عنها. السّعودية تواجه مصاعب مالية ومستقبلاً شائكاً، وطموحات محمد بن سلمان أكبر من موارده، وقد بدأ يفهم بأنه ليس وسعك أن تنفّذ تقشّفاً اقتصادياً، وتبني جيشاً عرمرماً، وامبراطورية اقليمية في وقتٍ واحد. السّعوديّة، الى ذلك، تحتاج الى الغاز الطبيعي بصورةٍ ماسّة ولأسباب متعددة: لزيادة انتاج النفط في حقولها عبر حقن الغاز فيها، لانتاج الكهرباء (والتوقّف عن حرق السوائل عالية الثمن لتغطية الطلب المحلي الهائل)، ولصناعة البتروكيمياويات والمعادن ــــ والبلد لا ينتج غازاً يكفي لتغطية كلّ هذه الحاجات، بينما قطر تملك ثالث أكبر احتياطٍ في العالم. الاستفادة من ثروة الغاز القطري (سواء عبر ضمّ البلد أو عبر تنصيب نظامٍ «صديق») ستعطي دفعةً قوية للاقتصاد السعودي وتُنعش طموحات بن سلمان. غزا صدّام حسين الكويت عام 1990 لأنّه اعتبر أنّ الاستحواذ عليها سيقدّم، دفعةً واحدة، حلّاً لكلّ مشاكله وأزماته. وأكثر زعماء الخليج، وإن لم يقدروا ــــ لأسباب موضوعية ــــ على استنساخ حروب صدّام وجيشه و«ملاحمه»، الّا أن عقليتهم لا تختلف عنه بشكلٍ جذري.

 

عن الخطاب والنفاق

 

هناك صنفٌ من النخب العربية لم يعد للنقاش معه جدوى، فهو يملك قناعاً لكلّ موقفٍ محتمل، ينظّر يوماً للواقعية والبراغماتية، ويوماً آخر للحقد الطائفي، ويوماً ثالثاً للديمقراطية وحقوق الشعوب، فهذه كلها لا تمثّل قناعاتٍ أو منهجاً، بل مجرّد أدوات خطابيّة. ولكنّ هؤلاء، على ما يبدو، يحتاجون الى شرحٍ عن الفارق بين «الاصطفاف» و«التبعية». حين تهاجم، مثلاً، الحكم السعودي أو الاماراتي لأنّه تابعٌ لأميركا، ويتآمر ضدّ فلسطين، ويصدّر الخراب والرجعيّة، فهذا موقفٌ واصطفاف. ولكن أن تصمت على كلّ هذا فيما التآمر على فلسطين يجري، وسوريا والعراق واليمن تدمّر، والشعوب تشرّد، ثم تكتشف شرّ السّعوديّة وعمالتها حين تفتح الحرب مع قطر، فهذه تبعيّة، وليست خياراً مبدئياً ولا «واقعية».

بالمعنى نفسه، أن تسمّي مقاطعة قطر «حصاراً»، وتبدي التضامن مع القاطنين فيها فيما شعب اليمن يُحاصر منذ سنوات، ويجوّع وتعمّ فيه الأوبئة، فهذا نفاق (وقطر ليست في حصار، ولن تجوع، ولو اقترب هذا الاحتمال سنقف ضدّه جميعاً). ربّما أنّ حكّام الخليج يثمّنون حيوات العرب بشكلٍ مختلف، ويعتبرون أنّ حياة اليمني أو السوري أقلّ قيمةً من حياتهم، ولكن أن ينساق العربي في هذا المنطق، ويتوقّع من الفلسطيني أو من اليمني أن يتعاطف مع قطر لأنّ الخضار الطازجة قد تنقطع من السّوق عندهم، فهذا مخجل. في هكذا موقفٍ، تحديداً، يجب أن تذكّرهم باليمن وبما فعلت ايديهم، وبأنّ من أصيب بالكوليرا من ابناء اليمن وأطفاله ــــ بسببهم ــــ قد يفوق قريباً كامل عدد مواطني دولة قطر.

الإعلام القطري قد يغيّر لهجته، وقد نشهد مبادرات دبلوماسية في اتّجاهات مختلفة، ولكنّ من يتكلّم عن «عودة قطر الى محور المقاومة» يمزح بلا شكّ. قطر، أوّلاً، لم تكن هناك حتّى ترجع، وإن كان هناك من درسٍ استخلصناه من تاريخنا القريب فهو أنّ الأنظمة التابعة ــــ على اختلاف تلاوينها ــــ ستقف صفّاً واحداً ضدّك في اللحظة الحاسمة، وستستثمر كلّ اختراقات السنوات الماضية في هذا المسعى؛ وأنّ كل من «أتى الى المقاومة» بفضل المال القطري أو تحت إغرائه قد تبعه الى جبهاته حين جدّ الجدّ، من أرفع سياسي الى أصغر إعلامي.

 

خاتمة

 

يوجد تفاوضٌ بين قطر وأميركا على شراء 72 طائرة اف ــــ 15، بقيمة 21 مليار دولار؛ ابتدأ الكلام عنه في أواخر أيام باراك اوباما وقد عرض دونالد ترامب على الدّوحة، مؤخّراً، تحويله الى عقدٍ مبرم. تشبه هذه القصّة الصفقات السعودية، بمعنى أنّ السعر مبالغٌ به بشكلٍ كبير (حين يُقارن بصفقات عالمية أو بالثمن الذي تباع به هذه الطائرات لسلاح الجو الأميركي)، ولا أحد يفهم كيف ستتمكّن دولة بحجم قطر من استيعاب كلّ هذه المعدّات واستخدامها، أو حتّى الهدف من اقتنائها (بلدٌ مثل العراق، أكبر بكثير من قطر، يحتاج الى سنوات طويلة لتدريب وتنشئة كوادر تقدر على استيعاب ثلاثة أسرابٍ حديثة).

عدد الطائرات في هذه الصفقة يفوق أضعافاً عدد الطائرات المقاتلة التي تعمل حالياً في سلاح الجوّ القطري، وهي ربّما كانت ما أشار اليه دونالد ترامب خلال قمّة الرياض، حين تكلّم عن أنه سيبيع قطر «الكثير من الألعاب اللامعة». شركة «بوينغ» تقول إن الصفقة ضرورية لاستمرار خطّ انتاجها في ساينت لويس، بعد أن توقّف الجيش الأميركي عن شراء المقاتلة وانصرف الى نماذج أكثر حداثة. بمعنى آخر، بعد كلّ الكلام عن الحصار والمقاطعة وتغيير النّظام في الدّوحة، والتراشق واستعراض الأحقاد الاقليمية، والتنظيرات عن ضرورة الإصطفاف مع هذا الطرف أو ذاك، فإنّ مفتاح الأزمة قد يكون في صفقةٍ بعشرين مليار دولار، و15 ألف وظيفة في ولاية ميسوري.

الأخبار

 

 

 

الحرب العربيّة الكُبرى؟ وَقعُ ترامب/ أسعد أبو خليل

لم تبدأ هذه الحرب العربيّة الكبرى في اندلاع الصراع السعودي ـ الإماراتي ضد قطر. الحرب هذه بدأت منذ أن أعادت أميركا رسم الخريطة السياسيّة للعالم العربي بعد موت عبد الناصر. فسّخت العالم العربي وشطرته إلى معسكرات متنازعة اعتماداً على معيار الصلح مع العدوّ الإسرائيلي.

 

العالم العربي يُعاد تركيبه وتفكيكه وشطره. والجيل الجديد من أبناء الحكّام يحلمون بقيادة المنطقة خلف أميركا وحليفتها إسرائيل. الصراع هذا هو صراع على خلافة أميركا في منطقتنا، في جوانب منه. لم تعِد أميركا الكرّة في نشر جيوشها واجتياح بلداننا لأنها هُزمت – بصريح العبارة – في العراق وأفغانستان. لن يُقال على طريقة فييتنام إن أميركا لم تُهزم لكن لم تدفع بكل قوّتها، أو أن الشعب لم يكن مسانداً. لا، هي دفعت بكل قواها والشعب كان مسانداً، وانسحبت من العراق جارّة أذيال الخيبة. أميركا تحتاج إلى من يدير المنطقة بالنيابة عنها، ولِمن يموت أيضاً بالنيابة عنها. الطامعون كثر.

الصراع في الخليج يدور على مرّ تاريخنا المعاصر على أكثر من مستوى: ١) مستوى الصراع بين السلالات، وهو لم يوفّر علاقة بينهما وتطوّرت عبر العقود إلى حشود عسكريّة وحروب (مثل حروب البريمي، عندما قرّرت السعوديّة في أوائل الخمسينيات أن البريمي هي لها لأن النفط اكتُشف فيها. ولأن البريمي تقع في حدود مشتركة مع عمان وأبو ظبي، طلبت السلالتان الأخيرتان من بريطانيا أن تفاوضا السعوديّة بالنيابة عنها). وهناك خلاف حدودي (واحد على الأقل) بين كلّ هذه السلالات (عبد الرحمن الراشد ذكّر أمس أن قطر نازعت البحرين حتى في ١٩٩٠ عندما كان الحديث عن غزو الكويت). ٢) الصراع بين أجنحة في السلالات الحاكمة. لا نعلم الكثير عن هذا الموضوع بسبب سريّته، لكن الأجنحة هي المدخل للكثير من القوى الخارجيّة للتدخّل والتأثير وإخراج البديل والمعاقبة. لا نعلم حقيقة الدور الأميركي في تركيب جناح السديريّين مثلاً. ٣) الصراع بين المُستعمِر والسلالات على الحصص وعلى درجة الولاء للمُستعمِر (مثل صراع عبدالله آل ثاني مع الاستعمار البريطاني في عام ١٩٣٨، عندما طالب ببعض السيّارات المصفّحة لأغراض الأمن وفق اتفاقيّة تجديد الحماية التي وُقّعت في عام ١٩٣٥، ورفضت بريطانيا الطلب لأن الحفاظ على الأمن كان – برأيها – من اختصاصها هي (راجع «فصول من تاريخ قطر السياسي»، لأحمد زكريا الشلق، ص. ٨٥)). ٤) الصراع بين السلالات وشعوبها (بلغت درجة الشك والريبة في السعوديّة من قبل السلطات بعد اندلاع الثورة في اليمن في عام ١٩٦٢ إلى أن سلاح الجوّ تم وقف العمل به كليّاً بعد أن انشقّ تسعة طيّارين سعوديّين ولجأوا للنظام الناصري، واستعانت السعوديّة بسلاح الجوّ الأميركي عوضاً عن سلاحها «الوطني» (راجع «شبه الجزيرة العربيّة بلا سلاطين» لفريد هاليدي، ص. ٦٧). ٥) الصراع بين معسكر دول الخليج – على تنافرها – وبين دول عربيّة أخرى، كما حدث في الخمسينيات والستينيّات عندما تخوّفت السلالات الحاكمة وحماتها في الغرب من المدّ الناصري وانعكاسه على الوضع في الخليج. ٦) الصراع المُستحدث بين دول الخليج وإيران، والذي كان أقلّ حدّة في عصر الشاه بسبب الولاء المشترك للحاكم الأميركي.

أما هذه المرحلة من الصراع الحالي، فهي للسيطرة على كل العالم العربي. ميزان القوى الذي يحكم المنطقة زال من الوجود بتساقط منافسي آل سعود (العرب)، الواحد تلو الآخر. بدأت السعوديّة بالسيطرة على الجزيرة العربيّة في عام ١٩٦٧ بعد انسحاب الجيش المصري من اليمن، وتشارك الحكم السعودي مع إيران وأميركا وقوى الغرب والرجعيّة العربيّة في محاربة أيّ نفوذ تقدّمي في شبه الجزيرة. بدّدت هزيمة ١٩٦٧ الطموح الناصري القومي العربي، لكن صعود الثروة النفطيّة في العراق وليبيا والجزائر قوّض من حلم نشر «الحقبة السعوديّة» في كل العالم العربي. كان صدّام حسين يحلم هو أيضاً بالسيطرة على العالم العربي، كما معمر القذّافي (الذي أصبح أفريقيّ الهوى في سنواته الأخيرة بعد أن يئِس من إمكانيّة قيادة الجماهير العربيّة). أما طموح حافظ الأسد فتركّز على لبنان وفلسطين وسوريا، ربّما بسبب شحّ الموارد الماليّة نسبيّاً. وفي عام ١٩٩١، قاد حسني مبارك العالم العربي بالنيابة عن الإدارة الأميركيّة لتسهيل حرب الخليج الأولى، أي تسهيل الدخول الأميركي الكبير في المنطقة العربيّة (ومن دون معارضة تُذكَر من أي دولة عربيّة). وفي ذلك الحديث بين الملك فهد وعبدالله بن عبد العزيز وديك تشيني في ١٩٩٠، عندما هوّل الأخير على الملك وطلب دعوة رسميّة منه لنشر قوّات أميركيّة، علّق عبدالله في همسة سمعها المُترجم الأميركي أن أميركا لن تخرج من الجزيرة متى دخلت. لم تخرج أميركا، لكن طبيعة الدور الأميركي تغيّرت في هذه الإدارة الجديدة.

وفي مرحلة الانتفاضات العربيّة، تعاملت السعوديّة مع الحدث بجزع وخشية كبيريْن. توافق النظام المصري والحكومة الإسرائيليّة على أن أميركا خذلت حليفاً كبيراً لها في السماح للشعب المصري بإسقاطه (طبعاً، حاولت أميركا الحفاظ عليه، كما حاولت أن تحافظ على بن علي، لكن أميركا – حفاظاً على مصالحها هي – ترضخ أحياناً للأمر الواقع وتبرز نفسها كداعمة لحق الشعوب). لكن قطر هي التي قادت الثورة العربيّة المُضادة التي حوّرت الإرادة الشعبيّة العربيّة المنتشرة باتجاه رجعي ديني إخواني (هذا لا ينفي أن لـ«الإخوان» شعبيّة ونفوذاً في الرأي العام العربي). قطر قادت بنفسها جامعة الدول العربيّة في المرحلة الأولى التي تلت الانتفاضة التونسيّة، وكأن السعوديّة والإمارات سلّمتا بالمشيئة القطريّة التي لم تكن تُردّ. قطر، لم تكن بعيدة يومها عن محاولة السيطرة على مقدّرات العالم العربي. «الجزيرة» وسطوتها ونفوذها، مستندة إلى ثروة غازيّة هائلة، عظمّت من طموح دولة لم تكن تطمح بأكثر من الحفاظ على نظام الحكم فيها، وعلى إرضاء الحامي الغربي ومنع الأذى السعودي المجاور. لكن قطر هي التي علّمت شقيقاتها لعبة الطموح المتعاظم والتوازن العلني والخفي.

وبعد انقلاب ١٩٩٥، سجّل حمد بن خليفة سابقة في تقديم خليط متنافر من السياسيات: قامت الحكومة الجديدة بتقديم أراضيها لقواعد عسكريّة أميركيّة، وتكون السيادة فيها مطلقة للحكومة الأميركيّة. لا تعلم الحكومة المُضيفة ما تقوم به القوّات الأميركيّة ومَن يساندها مِن مخابرات مرتبطة بها. وكانت الحكومة القطريّة تقدّم هذه الحماية على أنها ضمانة لها تجاه الجار السعودي الذي لم يرضَ بتغيير الحكم، وحاول تغيير التغيير. ولم يكتفِ الحكم الجديد بذلك، بل دشّن علاقات علنيّة مع حكومة الاحتلال الإسرائيلي في فرضيّة أن التقرّب من واشنطن يزداد قرباً من خلال التقرّب من تل أبيب (هذه الفرضيّة حكمت تصرّف معظم الدول العربيّة ومنظمّة التحرير). وفي المقابل، في محاولة لإحداث توازن مصطنع – لكن ذكي (من منظورها هي) – أنشأت الحكومة القطريّة محطة «الجزيرة» بعد سنة واحدة من الانقلاب وأعطتها وجهة قوميّة عربيّة، كما أبدى الخطاب القطري الرسمي تعاطفاً مع حركات المقاومة (لكن مع وجود تطبيع صريح مع العدوّ من خلال استضافة ممثّليه على «الجزيرة»)، ومع حرص على عدم دعم حركات المقاومة بالسلاح. حركة «حماس» اعتمدت على تسليحها من مصادر غير قطريّة (إيران وسوريا وحزب الله)، أي أن قطر حرصت على عدم مخالفة المشيئة الأميركيّة وقوانينها حول حظر دعم ما تسمّيه أميركا والعدوّ الإسرائيلي بالإرهاب. ومحطة «الجزيرة» بلغت أوجها حتى ٢٠٠٣: كانت نسبة مشاهدتها تصل إلى أكثر من نصف المشاهدين العرب، وكان خطابها حماسيّاً ومستضيفاً لوجهات نظر المعارضات العربيّة، باستثناء قطر، ومن دون الحديث الجذري عن الاقتصاد السياسي وعن ثروات الغاز والنفط.

لكن الموازنة المصطنعة لم يكن لها أن تستمرّ. الحليف الأميركي والجار الخليجي لم يرضيا بالتوليفة الصعبة. عدّلت قطر من عقيدتها، وزادت من المنسوب الإسلامي في «الجزيرة» (إذ أنه كان أقل معارضة للاحتلال الأميركي في العراق، وأقلّ معارضة للتطبيع مع العدوّ)، وسمحت لوزارة الخارجيّة الأميركيّة بإجراء نقد أسبوعي لبرامج «الجزيرة» من أجل تعديلها وتشذيب خطابها ومصطلحاتها وصورها بما يرضي الضيف العسكري الأميركي. وأجرت «الجزيرة» تغييراً جذريّاً في طاقم المحطة بطلب وضغط من المحتل الأميركي بعد ٢٠٠٣. أكثر من ذلك، عندما زاد اعتراض إدارة بوش على تغطية «الجزيرة»، دخلت قطر في تفاوض جدّي مع الإسرائيلي ـ الأميركي حاييم صابان، من أجل بيع المحطة له. (وسيصبح صابان هذا شريكاً لقطر في برامج مؤسّسة «بروكنز» الصهيونيّة فيما يتعلّق بالشرق الأوسط والإسلام وبإشراف مباشر من الصهيوني العتيق، مارتن إنديك، الذي تتلمذ على يد أركان اللوبي الصهيوني، قبل أن يُنشئ ذراعه الفكريّة «مؤسّسة واشنطن»). وتحسين العلاقات مع السعوديّة (ومع وزير الداخليّة في حينه، نايف بن العزيز، الذي حثّ على المصالحة لأنه كان يخشى من الأثر الأمني لبثّ المحطة تحريضاً ضد الحكم السعودي) ومع الحكم الأردني غيّر من تغطية المحطة.

وبحلول زمن الانتفاضات العربيّة، كانت قطر في موقع أضعف من قبل، لكن ضعف الجار السعودي سمح لها بالتفرّد في قيادة الجامعة العربيّة. لم تعد «الجزيرة» تلك المحطة ذات السطوة: فقد نشأت منافسات لها، والسوق الإعلامية عجّت بالمحطات المحليّة في كل الدول العربيّة، وهي باتت تجذب أكبر نسبة من المشاهدين العرب. و«الجزيرة» منذ أن سقط نظام بن علي، أصبحت جهاز دعاية إعلامية فجّة: أدخلت المحطة ظاهرة «المراسل-الناشط»، وقد يكون نشاط الناشط مسلّحاً وقد يكون النشاط جهاديّاً، لكن تغطيته مقبولة للمحطة. والتأجيج اللجوج لإسقاط مبارك أدخل نمطاً جديداً على برامج المحطة، أي التحريض السياسي المباشر وفق أجندة قطر.

وبعد سقوط مبارك ونجاح «النهضة» في تونس، خُيّل لقطر أنها على وشك الإمساك بمقدّرات العالم العربي. لم تخشَ واشنطن كثيراً، بل هي سمحت لها بأن تتوسّط بين فروع «الإخوان» في العالم العربي واللوبي الصهيوني في واشنطن. وتوالت زيارة «الإخوان» إلى واشنطن، والتقوا بالصهيوني المتطرّف، السيناتور جون ماكين. وجاء راشد الغنّوشي – القليل السفر – بنفسه مرتيْن في محجّة إلى اللوبي الإسرائيلي كي يُطمئِنهم بصريح العبارة أنه لن يسمح بتجريم أو تحريم التطبيع مع العدوّ الإسرائيلي في الدستور التونسي الجديد، وأن السياسة الخارجيّة الجديدة لن تحيد كثيراً عن سابقتها. وطبعاً، أرادت واشنطن أن تتأكّد أن تعيين محافظ البنك المركزي سيبقى في يد البنك الدولي والسفارة الأميركيّة في البلاد.

وانتهج حكم «الإخوان» في مصر نهجاً مُشابهاً والتزم بالحفاظ على سيطرة القوّات المسلّحة على السياسة الخارجيّة والاستخبارات (أي أنه سلّم رقبته لأعدائه). لكن الحرب الليبيّة شهدت بداية تنافس بين دولة الإمارات وبين قطر، ممّا أشعل حرباً لم تنتهِ.

والحرب السوريّة كانت في عهدة الحكومة القطريّة وهي سهّلت، كما سهّلت الإمارات والأردن والسعوديّة – وبموافقة أميركيّة أكيدة – تسليح وتمويل وتنظيم فصائل متنوّعة الانتماءات الجهاديّة الإسلاميّة وبعناوين ثوريّة برّاقة (لم تمانع واشنطن رعاية قطر للتطرّف الإسلامي بل عوّلت عليه من أجل التواصل غير المباشر أو المباشر مع طالبان في أفغانستان أو النصرة في سوريا). لكن الصراع بين السعوديّة وقطر على الاستئثار بالمعارضة السوريّة (المُسلّحة منها والفندقيّة) لم يُحسم حتى الساعة، وزاد ذلك في الحزازات.

لا نعلم حتى الساعة السبب المباشر لانفجار الأزمة. من المشكوك فيه أن يكون تصريح واحد للأمير هو السبب (بصرف النظر إذا كان صحيحاً أم لا). لكن اشتعال الأزمة بعد زيارة ترامب ليس صدفة، لكنه لا يعني بالضرورة على أنّ المحرّك المُباشر هو أميركي. صحيح أن دول الخليج وحلفاء أميركا في الشرق الأوسط هم دول من دون سيادة – باستثناء دولة العدوّ التي يستطيع رئيس حكومتها أن يلقي خطبة في الكونغرس ضد الرئيس الأميركي ويحظى بالتصفيق المألوف في المجالس النيابيّة والشورويّة العربيّة. إنّ من مصلحة واشنطن الدعائيّة المبالغة في قدرتها على تحريك الأحداث والتطوّرات، كما أن مصلحة «الموساد» تكمن في المبالغة في سعة اطلاعها وتسييرها للشؤون والأحداث في العالم العربي. أميركا تصرّ على السيطرة الكاملة: وهي قرّرت في عهد جيمي كارتر أن مصادر الطاقة في الشرق الأوسط هي حلال لها، وأن تجربة قطع الإمداد عن دول الغرب لن يُسمح به مرّة ثانية (بعد التجربة القصيرة التي رافقت حرب تشرين)، وأن القوّة المسلّحة ستكون جاهزة للردّ على أي محاولة عقاب عربيّة.

أما تغيير الكراسي والإخلال بالتراتبية السلاليّة فهي أمور تسمح بها أميركا لعلمها أنها مستفيدة في كل حال، على طريقة «إمطري حيث شئتِ فخراجك لي». هي سمحت بإقصاء حليفها وحليف إسرائيل، الأمير حسن في الأردن وتعايشت مع انقلاب قطر في ١٩٩٥، كما انها لم تتخذ موقفاً متشدّداً من مسألة الخلافة في السعوديّة إذا كان واحداً من المحمديْن يستحقّها. هي كانت أقرب إلى محمد بن نايف بسبب تاريخ من التعاون في القمع والقتل والملاحقة، لكنها سرعان ما تأقلمت مع صعود محمد بن سلمان، لأن الطامح يسعى لتعزيز موقعه عبر إرضاء واشنطن (أو بريطانيا قبل ذلك) أكثر (وهذا ما فعله فيصل وجناح السديريّين في عام ١٩٦٤، وما فعله قابوس عندما أقصى أباه في عام ١٩٧٠). ومحمد بن زايد أسّس لشراكة عسكريّة ــ استخباريّة قويّة مع الأميركيّين والإسرائيليّين (لا شك أنه كان متواطئاً في اغتيال المبحوح، كما أن السجال حول شركة «موانئ دبيّ» قبل سنوات في الكونغرس الأميركي كشف عن خدمات كبيرة تقدّمها حكومة الإمارات إلى أميركا، بما فيها استضافة أكبر محطة للمخابرات الأميركيّة خارج الأراضي الأميركيّة).

هذه المرحلة من الصراع الحالي، هي للسيطرة على كل العالم العربي

ومحمد بن زايد استعمل نفوذه في واشنطن لدعم خلافة ابن سلمان على ابن عمّه (وقد ابتاع نفوذه عبر التعاون العسكري ــ الاستخباراتي وعبر الإنفاق السخي على الدعاية و«العلاقات العامّة» وخصوصاً على مراكز الأبحاث التي بدت هذا الأسبوع كفروع لسفارة أبو ظبي. اتضح من مراسلات العتيبة كم أن إغراءات المال والهدايا تشتري من المسؤولين السابقين والإعلاميّين والخبراء – مثلما كان سفير الشاه، أزدشير زاهدي يفعل في سنوات خدمته في واشنطن، عندما ابتاع كبار الصحافيّين عبر هدايا السجّاد العجمي والكافيار والفستق والرحلات المجانيّة، كتب عن ذلك جيمس بيل في كتابه «النسر والأسد» عن العلاقات الأميركيّة ــ الإيرانيّة في عهد الشاه).

وهناك أسباب أخرى عديدة ومتراكمة: الصراع على النفوذ في المشرق والمغرب بين قطر من جهة وخصومها من جهة أخرى (وليست السعوديّة والإمارات متفقتين أبداً على كل الملفّات). وهناك تسديد حسابات من قبل السعوديّة التي تشهد جموحاً وتوحشّاً وثأريّة وجسوراً لم تشهدها في تاريخ سياساتها الخارجيّة (وهي تزيد حالة العداء ضدّها، حتى في دول الجوار حيث ظهر من الكويت تعاطفٌ أكبر نحو قطر). أما المعلّق جيك نوفاك في موقع «سي. إن. بي. سي» الأميركي، فيرى أن الخلاف ينحصر في موضوع محاولة سعوديّة ــ إماراتيّة لخدمة مصالح إسرائيل عبر هذا الإصرار الفجائي على طرد «حماس» وقطع العلاقة معها (وهذا الشرط لم تكن حتى أميركا الصهيونيّة تصرّ عليه، أي أن صهيونيّة أولاد زايد وصهيونيّة شلّة خدمة الحرميْن باتت فوق صهيونيّة راعية دولة الاحتلال الإسرائيلي). والاحتضان الإماراتي لمحمد دحلان نتاج وليس سبباً للتقرّب بينها وبين دولة العدوّ.

لكن زيارة ترامب لها تأثيرها أيضاً. اكتشفت دول الخليج المعنيّة أنها أمام إدارة جديدة تترك حريّة التحرّك – ضمن سقف المصالح الأميركيّة الإسرائيليّة – لدول الخليج على أن تقوم الأخيرة بتسديد أكبر للنفقات ولمحاربة كلّ من تصنّفه أميركا عدوّاً. كانت أميركا تضبط من سلوك دول الخليج ليس حفاظاً على الأخلاقيّة بل على مصالح تلك الدول، ومصالحها هي من أمامها ومن ورائها. ترامب أفهمهم بصريح العبارة أنه سيتركهم وشأنهم (أي أن أمر الإصلاح الطفيف والتجميلي لا يعنيه، كما حلّ الصراعات بينهم كما مسألة المنافسة) على أن يسدّدوا نفقات الحماية الأميركيّة ويتقرّبوا أكثر من دولة العدوّ. لكن كان ملاحظاً في لقائه مع أمير قطر في الرياض خلال رحلته، أنه قال للإعلاميّين إنه سيحدّث الأمير عن أسلحة «جميلة» يمكن أن تبيعها أميركا لقطر. لكن اللقاء لم يثمر عن إعلانات عن صفقات سلاح، كما حدث مع الحليف السعودي.

يشعر الحليفان اللدودان (السعودي والإماراتي) أن أمامهما فرصة للسيطرة على كل العالم العربي والمشاركة (الدونيّة حتماً) مع دولة العدوّ في حكم الشرق الأوسط. والسيطرة على شبه الجزيرة هو مقدّمة لترتيب البيت العربي حسب المشيئة السعوديّة ــ الإماراتيّة (ومتى تمّ ذلك – لو تم – سيستعر الخلاف المستحكم بين الدولتيْن، وقد يستعر قبل ذلك). إن التعبير عن الضغينة والحقد ضد قطر في الإعلام السعودي سيؤشّر لباقي أعضاء مجلس التعاون الخليجي أن الثقة بالحكم السعودي في غير محلّها، على الدوام. وانعدام الثقة لن يعزّز السيادة المحليّة بل سيزيد من الاستعانة بالجيوش الخارجيّة على أنواعها (ماذا لو اشتبكت القوّات الأميركيّة المتواجدة في قطر مع القوّات الأميركيّة المتواجدة في السعوديّة يوماً ما؟).

ليس الصراع الجاري صراعاً وطنياً. ليس هو صراع على القرار السيادي أو على القضيّة الفلسطينيّة أو على الإصلاح والتنمية. يتصارعون ويتنافسون بالأميركي. الإعلام السعودي يعيّر قطر بأن أميركا غير راضية عنها، والإعلام القطري يردّ مُستشهداً بتصاريح لمسؤولين في الحكم الأميركي و«الناتو» بأن قطر مرضيّ عنها. و«الجزيرة» تستهلّ النشرة بخبر اتصال ترامب بأمير قطر (وتستضيف مَن يحلّل ذلك ويهلّل له) و«العربيّة» تستهلّ النشرة بخبر اتصال ترامب بالملك السعودي (وتستضيف مَن يحلّل ذلك ويُهلّل له). لا شكّ أن الصراع الجاري هو – في جانب منه أيضاً – صراع بين سياسات أميركيّة متضاربة (بين أوباما – وظلّه في دولة المخابرات لا يزال قويّاً – وبين ترامب): بين تلك التي توافق على سياسة التواصل والتعاطي المباشر مع إيران، وسياسة الاشتباك والحرب ضد إيران. وهذا التضارب جار أيضاً في داخل الإدارة الأميركيّة. كانت السفيرة الأميركيّة في الدوحة تغرّد مؤيّدة الحكومة القطريّة، فيما غرّد ترامب نفسه مؤيّداً – للوهلة الأولى – سياسة السعوديّة والإمارات ضد قطر. لكن ترامب عاد في اليوم التالي ليتصل بأمير قطر عارضاً وساطته، لعلمه أن السياسة الأميركيّة وحروبها تعتمد على كل أنظمة الخليج، وأن الصراع فيما بينها يفيد أميركا: كلّما زاد التهديد ضد دولة منها من دولة أخرى، كلّما هرعت تلك الدولة لترتمي أكثر في الحضن الأميركي.

هناك مفارقة في أن الدولتين الوهابيّتين الوحيدتين في العالم العربي تتصارعان (هذا مثل الصراع بين فرعيْ «البعث» في سوريا والعراق). صراع متشاركي العقيدة أشدّ وأمرّ من صراع المختلفين في العقيدة. وهناك مفارقة في أن قطر تستعين بالقوّات التركيّة والأميركيّة في صراعها مع السعوديّة، التي تستعين بالقوّات الأميركيّة (والإسرائيليّة إن دعت الحاجة). والحلّ سيُفرض على الدولتيْن من الراعي الأميركي. وحدها أميركا ستفرض الحلّ باتجاه المزيد من الطاعة لأجندتها، وقد تضطرّ قطر لإعلان صفقات أسلحة باهظة الأثمان لإدارة ترامب. ودول الخليج مجتمعة أكثر خطراً وأفدح ضرراً على العرب من انقسامها. فلندعُ لهم بطول انقسام.

* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)

 

الأخبار

 

 

 

 

السعودية: عماء النفط وخواء السياسة/ صبحي حديدي

يدرك المرء، على غرار إدراك البديهيّ الجليّ، أنّ مفردة واحدة وحيدة، هي النفط، تشكّل محرّك المواقف الأمريكية ـ تسعة أعشار السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط بأسره؛ من الظهران السعودية إلى كركوك العراقية، ومن الصحراء الجزائرية إلى مأرب اليمنية. أو، باختصار، حيثما توفّرت مكامن تلك المفردة السحرية، وحقولها وآبارها.

غير أنّ هذا المستوى الأوّل، الذي يحرّك سياسات القوى العظمى على نحو حاسم قد يدفعها إلى إرسال جيوشها الجرّارة لغزو البلدان والشعوب، هو الشكل الأعلى من سياسات كونية تعتمدها شركات النفط الكبرى العملاقة، وتنهض ركائزها على الاحتكار والسيطرة والاستغلال. وبالطبع لا تنقلب هذه الركائز إلى صناعة إمبريالية لائقة بالإمبراطوريات، الكبرى العملاقة بدورها، إلا إذا تكاملت سياسات النهب الخارجية مع تلك الداخلية.

على صعيد الدول المنتجة للنفط، تنقلب سياسات الشركات الكبرى في النهب الخارجي والداخلي إلى مزيج عجيب من التسليم والتبعية، والتبذير والفساد؛ فضلاً عن ذلك الطراز العجيب من وفرة لا توفّر الكفاية لأهلها، كما حين يضرب الفقر الكثير من الدول الغنية بالنفط، أو حين يضطرّ بعضها إلى استيراده غالي الثمن… بعد تصديره رخيصاً!

وفي ضوء حال التأزيم الراهنة، التي افتعلتها السعودية، وتقودها، ضدّ قطر؛ ثمة حكمة في استعادة بعض عناصر ذلك التراث القديم، المتجدد أبداً في الواقع، الذي يخصّ «ميزان التبادل» الجيو ـ سياسي بين الولايات المتحدة والمملكة، خاصة بعد حرب الخليج الأولى، ثمّ الثانية:

1 ـ خلال عقود الحرب الباردة، كانت ستراتيجية الأمن القومي الأمريكي تعتمد كثيراً على مبدأ احتواء الخطر السوفييتي، بمصطلح كوني تحظى فيه المملكة «الصديقة» برعاية دفاعية وأمنية خاصة؛ وتتحمّل هذه الأخيرة، في المقابل، سلسلة «مسؤوليات» تبدأ من أبسط أشكال المساندة الدعاوية ضد «الخطر الشيوعي»، ولا تنتهي عند القواعد العسكرية وعقود بيع السلاح الخرافية. وكانت أسباب عميقة موروثة (على رأسها النفط، بالطبع، ثمّ أمن إسرائيل، وتعطيل أي مشروع نهضوي عربي…) تضفي أهمية كبرى على طبيعة العلاقة مع المملكة، وتستدعي نوعية خاصة من الفعل الاجرائي التكتيكي والستراتيجي.

2 ـ القضايا المتصلة بأمن «الصديقة» واستقرارها ظلت حيوية في ذاتها، ولكنها بعد الحرب الباردة باتت أكثر عرضة للتأثّر الحادّ بالمستجدات التي تسارعت وتعقدت طبيعتها الجيو ـ سياسية: انشقاق إيران (والعراق طبعاً، قبل احتلاله) عن التوازنات السياسية لطور ما بعد «عاصفة الصحراء»، مشكلات صعود التيارات الإسلامية، انسداد كلّ الآفاق أمام تنفيذ اتفاقيات أوسلو، هزّة 11/9 بما أدخلته من تعديلات جذرية على مفاهيم الأمن الداخلي الأمريكي، احتلال أفغانستان والعراق، صعود «حماس» و«حزب الله» وإعادة رسم خرائط التحالفات الإقليمية حول محور إيراني عابر للانحيازات المذهبية التقليدية بين قوس الإسلام الشيعي ودائرته السنّية… وهذا، كلّه، قبيل انتفاضات العرب، وصعود «داعش».

3ـ الأخطار التي بدت محدقة بالمملكة، حول مفاهيم «الأمن» و«الاستقرار»، وسواهما من أنساق تهديد ليس من السهل إدارتها عن طريق إيفاد حاملات الطائرات وفيالق التدخل السريع؛ أخذت تكمن في العاقبة الطبيعية للتآكل التدريجي ـ البطيء، ولكن المحسوس للغاية ـ في البنى الاقتصادية والسياسية لهذه «الصديقة» للولايات المتحدة، الحليفة لها في كلّ كبيرة وصغيرة.

هذه، بين عناصر أخرى لا تقلّ أهمية، كانت تجبر حكّام المملكة، خاصة بعد أن انقلب عليها وحش الإرهاب ذاته الذي صنعته بأموالها وأجهزتها، على جَسْر الهوّة بين عماء النفط، وخواء السياسة؛ وسط عجز الجاسر الذي، في الحالَين، يسوس أقدار الديرة والعيال، بعقلية شيخ عشيرة!

بذلك، وعلى هذه الخلفية تحديداً، وما خفي من مفاعيلها، لا تسير سياسات التأزيم السعودية إلا على رمال متحركة، متعاقبة، يتوالد بعضها من بعضها الآخر؛ في منطقة لا يسهل إغماض العين عنها برهة واحدة، دون دفع ثمن فادح!

القدس العربي

 

 

 

قبل قطر والإخوان وحماس: دود الخلّ الذي من السعودية وفيها!/ صبحي حديدي

ذات يوم، غير بعيد، كان الصحافي السعودي عادل زيد الطريفي (أحد كتّاب صحيفة «الوطن» يومذاك، قبل أن يتدرّج في المناصب: رئيس تحرير يومية «الشرق الأوسط»، مجلة «المجلة»، قناة «العربية»، وزارة الثقافة والإعلام…)؛ قد كتب ما يلي، تحت عنوان «حتى لا تكون منهاتن سعودية»: «إننا اليوم واقعون أسرى لإرهاب تمّ توفير الأرض الخصبة لنموّه منذ عقود. وما يردده اليوم كثير من الشيوخ الرسميين والكتّاب ـ الذين لم يستيقظوا إلا حين وقعت الواقعة ـ ليس إلا وصفاً غير صادق للظاهرة، لا يتناول الأسباب والجذور الحقيقية للفكر التكفيري/الجهادي. إذ يكتفي هؤلاء باعتبار ما حدث فكراً وافداً، وينسى هؤلاء إنّ البذور كانت كامنة في ثقافتنا، ونتيجة لأخطاء كثيرة عبر الزمن يتحملها الكثيرون منّا في المجتمع».

لم يكن الطريفي يتحدث عن «رعاية قطر للإرهاب»، غنيّ عن القول، ولا عن الإخوان المسلمين أو «حماس»؛ بل كان يقصد دود الخلّ الذي من السعودية، وفيها؛ وكان يشير بوضوح إلى أنّ «البذور» كامنة في ثقافة المملكة ذاتها، أولاً. رئيس تحريره يومذاك، جمال خاشقجي، ذهب أبعد: «بيننا فكر ظلامي يرفض العصرنة والمساواة والتسامح والانفتاح على العالم من أجل حياة أفضل بروح اسلامية أصيلة، ومن يحملون هذا الفكر ليسوا مجرد شباب مغرّر بهم يحملون السلاح ويخرجون علي الدولة، وإنما طابور واسع نما في غفلة من الزمن واستغلّ تسامح وليّ الأمر، تتدرج عندهم صور التكفير والعصيان ولكن يجمعهم هدف واحد ليس فيه خير لبلدنا. هؤلاء وفكرهم يجب أن يكونوا الهدف الأول بعد القضاء على هذه العصبة المارقة. نريد أن نعيش في مجتمع مسلم منسجم مع ذاته لا متصارع. وليكن ما حصل البارحة بداية النهاية لهذا التيار، وبعدها نتفاءل بربيع سعيد مقبل».

وأما «ما حصل البارحة»، فقد كان سلسلة عمليات انتحارية تعاقبت في الرياض العاصمة، وشكلت هزّة نوعية للأسرة الحاكمة، حيث توالت تصريحات كبار المسؤولين السعوديين التي لم تكتفِ بإدانة العمليات الانتحارية، بل وجهت أصابع الاتهام المباشرة إلى منظمة «القاعدة»، وأسامة بن لادن شخصياً.

وفي كلمة متلفزة قال الأمير عبد الله بن عبد العزيز، وليّ العهد يومذاك: «لا مكان للإرهاب بل الردع الحاسم ولكلّ فكر يغذيه ولكل رأي يتعاطف معه»؛ الأمر الذي كان يشير إلى أنّ المملكة لن تحارب «القاعدة» وحدها، بل كلّ من يتعاطف معها في «الفكر» و«الرأي». آنذاك، هنا أيضاً، لم تكن قطر على لائحة الاتهام، وكان الإخوان المسلمون يسرحون ويمرحون في أرجاء المملكة، ولم تكن «حماس» منظمة «إرهابية» على أي نحو…

وكان طبيعياً أن يكون خاشقجي، وفريق تحرير «الوطن»، أهل السبق في الذهاب أبعد، وأجرأ، وأشدّ صراحة استطراداً؛ في وضع الإصبع على الجرح، وليس على أطرافه وحدها. ولا ريب في أنّ خاشقجي كان قد تلقي توجيهات عليا، اختلطت في سريرته بذلك الحماس «الليبرالي» المفرط؛ فضلاً عن يقين في أنّ المملكة تنوي طيّ صفحة كبرى وافتتاح أخرى، وأنّ 2003/5/12 في الرياض، لن يكون أقلّ أثراً من 2001/9/11 في نيويورك. صحيح أنّ خطاب خاشقجي، في نقد التطرّف والأصولية والتيارات الجهادية وأنصار أسامة بن لادن، كان يردّد أصداء الخطاب الأمريكي اليميني التقليدي (وليس الليبرالي، للمفارقة!)، حتى بدا في بعض الأمثلة وكأنه يكتب بقلم أمثال دانييل بايبس أو وليام سافير؛ إلا أنّ الرجل لم يكن ينطق عن هوى حين فتح النار، بعد تفجيرات الرياض مباشرة، على مؤسسات دينية منيعة حصينة، أقلّ ما يُقال فيها أنها كانت رديف السيف في تمكين عبد العزيز بن سعود من إقامة كيان المملكة.

من جانبها، كانت صحيفة «المدينة» تعكس مزاج العائلة المالكة الجديد، واللافت؛ الذي لا يكتفي بمحاربة الإرهاب على مستوى تقني ـ أمني صرف (وهو خيار الماضي بصفة إجمالية)، بل أيضاً على مستوى «الفكر» و«الرأي»، أي على مستوى العقيدة والتربية في عبارة أخرى. ولقد كتبت الصحيفة تقول إنّ «الحادي عشر من أيلول كان نقطة تحوّل في الولايات المتحدة أتاحت لواشنطن الاحتشاد استجابة لتحدّي الإرهــــاب، والثاني عشر من أيار [تاريخ وقوع العمليـــات الانتحارية] ينبغي أن يكون نقطة تحوّل في حياتنا لكشف الأسباب الحقيقية لهذا الإرهاب ومعالجتها واجتثاث جذورها». التكرار، هنا أيضاً، لا يبدو مثيراً للملل: لم تكن «المدينة» تتحدث عن قطر، وكان كتّاب الإخوان المسلمين يحتلون أعمدة الصحف وشاشات التلفزة، وكانت حركة «حماس» مقاومة فلسطينية «شريفة»!

يومذاك كذلك، ولكي تكتمل الصورة على نحو أكثر تظهيراً لعناصرها التكوينية؛ لم يكن بالأمر المألوف ـ في مملكة مغلقة منغلقة، لا يُخرق فيها المألوف إلا لماماً واستثناء ـ أن يخرج الداعية والفقيه الإسلامي الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، فيفتي بعدم شرعية قراءة صحيفة يومية، «الوطن»؛ يحدث أنّ رئيس مجلس إدارتها هو الأمير بندر، نجل الأمير خالد بن فيصل بن عبد العزيز، حاكم عسير. وفي الواقع كان الأمر خارقاً للعُرف، وللأعراف جمعاء ربما، لأنّ الصحيفة تُراقب بالفعل، وبصفة يومية، من وزارة الداخلية؛ فضلاً عن أنها معروفة بالدفاع الشديد عن آراء وليّ العهد الأمير عبد الله، في الإصلاح والتطوير وتحديث الدولة والمجتمع. وهكذا توجّب تقديم كبش فداء، إذْ لا مناص من تقديم ضحيّة أو ديّة ثأر بالأحرى؛ فكان رئيس تحرير الصحيفة، الذي لم يمض على تعيينه سوى أسابيع معدودات!

بالتوازي مع هذا المشهد، طرأ حدث خارجي بالغ الدلالة، لأنه مثّل أحد أخطر الانشقاقات السياسية داخل بيت آل سعود، خاصة بعد غزو العراق، 2003. ففي جنيف أعلن الأمير سلطان بن تركي بن عبد العزيز (ابن شقيق الملك فهد من أبيه وأمّه، وكان نائباً لوزير الدفاع حتى عام 1977، وأطيح به في خلاف عائلي)، تشكيل «هيئة سياسية ملكية سعودية تعمل من أجل تقديم النصح باتجاه تقويم الحكم»؛ مؤكداً أنّ تحقيق المشاركة الشعبية في إدارة حكم البلاد سيكون من مهامها الرئيسية، إضافة إلى العمل على إيقاف الفساد الذي ينتهجه بعض الأمراء، والبعض من كبار المسؤولين ورجال الأعمال.

غير أنّ ما حلم به هذا الأمير، تماماً كالذي قاد خاشقجي إلى ذلك الحماس المفرط، لم يكن الجوهر في المأزق الكبير الذي تعيشه المملكة.

الإصلاح عسير لأنه يأتي ولا يأتي، والمؤسسة الدينية هرمة ولكنّ أسنانها قاطعة، ويبقي أنّ التفكير الجهادي هو المعضلة الكبرى اليومية المتنامية، شاء الليبراليون أم كرهوا. وفي أزمنة غير بعيدة كان البعض من ثقاة العائلة المالكة قد ظنّوا أنّ رعاية الجهاد بعيداً عن حدود المملكة، في أفغانستان والبوسنة والشيشان، هو أفضل السبل لاتقاء شرّه داخلياً، من جهة أولى؛ ولإلهاء الناس عن همومهم اليومية، وعن فساد الأمراء، من جهة ثانية. والأرجح أنّ الثقاة أنفسهم أدركوا أنّ السحر انقلب على الساحر، وليس من اليسير ـ إذْ ليس في الإمكان، عملياً ــ قطع خطوة واحدة ملموسة في طريق «الحرب الشاملة على الإرهاب»: ضدّ العمليات، وضدّ ما يتماهى معها من «فكر» و«رأي» و… مناهج تعليمية!

وبدل ترحيل المأزق، هذا، وسواه كثير في الواقع، إلى قطر والإخوان المسلمين و«حماس»؛ خير لعقلاء المملكة أن يتفحصوا قاع الخلّ السعودي ذاته، إذْ الأرجح أنهم سوف يعثرون فيه على كثير من الدود الموروث، والعلق المتأصل!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

 

 

 

محاولة عزل قطر سياسيا

هل تتعافى المنطقة العربية من عدوى ترامب؟/ ماتياس زايلَر

قطعت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وحلفاؤهما العلاقات مع قطر. وذلك على خلفية اتهامهما لهذه الدولة الخليجية بدعم الإرهابيين وعدوتهم اللدودة إيران، الأمر الذي تنفيه الحكومة في الدوحة. أما موقف الولايات المتحدة الأمريكية فهو يسمح لكلا البلدين بزيادة الضغط على قطر بشكل كبير، مثلما يرى الصحفي الألماني ماتياس زايلَر في تعليقه التالي لموقع قنطرة.

أُثير نزاع بين الدول الخليجية وقطر بسبب بيان مزعوم من أمير دولة قطر تميم بن حمد آل ثاني، نُشر على موقع وكالة الأنباء القطرية الرسمية في الرابع والعشرين من أيَّار/مايو 2017. وفي هذا البيان تم وصف عدوة السعودية اللدودة إيران كقوة عظمى من أجل تحقيق الاستقرار في المنطقة، بالإضافة إلى وصف علاقات قطر مع إسرائيل على أنَّها جيِّدة وحركة حماس المنبثقة عن جماعة الإخوان المسلمين على أنَّها الممثِّل الشرعي للشعب الفلسطيني.

من جانبها أوضحت قطر أنَّ هذا البيان لم يكن حقيقيًا وأنَّ وكالة الأنباء القطرية قد وقعت ضحيةً لهجوم قراصنة الإنترنت. ولكن في هذه الأثناء كانت وسائل الإعلام السعودية والإماراتية قد أطلقت حملةً إعلاميةً حادة اللهجة ضدَّ قطر، تعرَّضت فيها قطر لهجوم واسع النطاق بسبب هذه المواقف التي تتعارض بوضوح مع مواقف المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتَّحدة.

ولكن على الرغم من التأكيدات القطرية بأنَّ هذا كان مجرَّد هجوم من القراصنة، بيد أنَّ المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتَّحدة استمرتا في تصعيد هجماتهما ضدَّ دولة قطر. واصلت الدولتان الخليجيتان هذه الحملة الإعلامية وتم حجب بعض وسائل الإعلام القطرية (وخاصة قناة الجزيرة) لديهما.

وفي هذه الأثناء اشتعل النزاع أكثر: حيث قامت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتَّحدة بإيقاف جميع وسائل المواصلات إلى قطر، وتم سحب الموظفين الدبلوماسيين وطالبتا من المواطنين القطريين مغادرة البلدين خلال أسبوعين. وبالإضافة إلى ذلك فقد تم استبعاد قطر من التحالف العسكري الموجَّه ضدَّ المتمرِّدين الحوثيين في اليمن.

بلغت المواجهة ذروة مؤقَّتة عندما أتاحت وسائل إعلام إماراتية فرصة الحديث لعضو من الأسرة الحاكمة القطرية معارض لأمير قطر الحالي من أجل التعبير عن آرائه الناقدة للقيادة القطرية الحالية. وهذا المعارض اغتنم هذه الفرصة لينتقد سياسة أمير قطر بشدة، وقد تحدَّث حتى عن وجود خطط لتأسيس حزب معارض.

معارضو مرسي في ميدان التحرير في القاهرة بعد الانقلاب العسكري عام 2013.  Foto: DW

جماعة الإخوان المسلمين كـ”مصدر استفزاز”: بعد إسقاط الرئيس المصري السابق محمد مرسي في تمُّوز/يوليو 2013، وهو ما تم الترحيب به كثيرًا من قِبَل الإمارات والسعودية، تعرَّضت قطر لضغوط متزايدة بهدف وقف دعمها الإعلامي والمالي والمادي للجماعات الإسلامية. وعندما لم تستجب قطر لهذه المطالبات بما فيه الكفاية من وجهة نظر المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتَّحدة، وصل الأمر أخيرًا في عام 2014 إلى أزمة دبلوماسية، بلغت ذروتها في سحب كلّ من السعودية والإمارات ومملكة البحرين الصغيرة سفراءها من قطر.

أكثر من مجرَّد تهديد معتاد

وفي الاتِّجاه نفسه سارت تصريحات أحد أفراد جماعات الضغط السعودية في واشنطن: فقد قام هذا الأخير بتذكير أمير قطر على موقع تويتر فيما يتعلق بعلاقات قطر مع إيران بأنَّ الرئيس المصري المعزول عضو جماعة الإخوان المسلمين محمد مرسي قد فعل الشيء نفسه والآن بات يقبع في السجن. تتجاوز مثل هذه الإجراءات المعتاد وتُمثِّل تهديدات غير مخفية بانقلاب مدعوم من الخارج إذا لم يتحوَّل الأمير القطري إلى المسار السياسي الإقليمي الذي تنتهجه السعودية والإمارات.

يوجد خلف هذه التطوُّرات قبل كلِّ شيء عاملان. فمن ناحية بدأت التوتُّرات بين قطر والإمارات العربية المتَّحدة بالفعل منذ عام 2011، وذلك عندما بدأت دولة قطر بدعم جماعة الإخوان المسلمين، التي كانت في تلك الفترة تحاول الوصول إلى السلطة في جميع أنحاء المنطقة من خلال الانتخابات. في حين أنَّ كلاً من قادة دولة الإمارات العربية المتَّحدة وكذلك المملكة العربية السعودية كانوا ينظرون إلى الإخوان المسلمين على أنَّهم يمثِّلون تهديدًا وجوديًا لحكمهم.

وكذلك كان يخشى الطرفان من حدوث تقارب بين مثل هذه الدول (وعلى رأسها مصر) وبين إيران. وبعد إسقاط الرئيس المصري محمد مرسي في شهر تمُّوز/يوليو 2013، والذي تم الترحيب به كثيرًا من قِبَل الدولتين الخليجيتين (السعودية والإمارات)، تعرَّضت قطر لضغوط متزايدة بهدف وقف دعمها الإعلامي والمالي والمادي للجماعات الإسلامية.

وعندما لم تستجب قطر لهذه المطالبات بما فيه الكفاية من وجهة نظر المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتَّحدة، وصل الأمر أخيرًا في عام 2014 إلى أزمة دبلوماسية، بلغت ذروتها في سحب كلّ من السعودية والإمارات ومملكة البحرين الصغيرة سفراءها من قطر.

وصحيح أنَّ هذه الأزمة قد تمت تسويتها من خلال تقديم قطر تنازلات، ولكن لم يحدث أي تغيير جذري في سياسة قطر. وظلت على وجه الخصوص علاقاتُ قطر مع دولة الإمارات العربية المتَّحدة باردةً جدًا. فعلى العكس من الملك السعودي الجديد سلمان بن عبد العزيز، الذي لم يعد ينظر إلى الإخوان المسلمين على أنَّهم يشكِّلون تهديدًا خطيرًا وحتى أنَّه أصبح يتعاون معهم في اليمن، فإنَّ القيادة في أبو ظبي، وعلى رأسها ولي العهد محمد بن زايد، لا تزال تتَّخذ حتى يومنا هذا موقفًا متشدِّدًا من الإخوان المسلمين.

الرئيس الامريكي دونالد ترامب في زيارة إلى السعودية لدى الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود من مايو/ أيار 2017 بالمملكة العربية السعودية. Foto: picture-alliance

دعم من واشنطن: “الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أعطى عمليًا لحكَّام دول الخليج المستبدين تفويضًا مطلقًا للعمل بقسوة في المستقبل ضدَّ ’الإرهابيين‘. ولكن حكَّام دول الخليج لا يرون أنَّ الإرهاب يتمثَّل في تنظيم القاعدة وتنظيم “الدولة الإسلامية” فقط، بل في أي شكل من أشكال المعارضة الموجَّهة ضدَّ أسرهم الحاكمة وكذلك في إيران، التي تدعم من وجهة نظرهم الإرهابيين”، مثلما يكتب ماتياس زايلَر.

العلاقات القطرية مع إيران شوكة في عين السعوديين

ومن ناحية أخرى تعتبر علاقة قطر مع إيران بمثابة شوكة في عين المملكة العربية السعودية. فهذه الإمارة (دولة قطر) تدير حقل غاز مشتركًا مع ايران ولهذا السبب وحده تعتمد على علاقات براغماتية مع إيران. في الحملة الأخيرة المعادية لقطر اتَّهمت وسائل إعلام سعودية أيضًا الأمير تميم باللقاء سرًا في بغداد مع الجنرال الإيراني قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني.

أمَّا العامل الثاني لتفسير هذا الصراع فهو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. فقد أعطى عمليًا لحكَّام دول الخليج المستبدين تفويضًا مطلقًا للعمل بقسوة في المستقبل ضدَّ “الإرهابيين”. ولكن حكَّام دول الخليج لا يرون أنَّ الإرهاب يتمثَّل في تنظيم القاعدة وتنظيم “الدولة الإسلامية” فقط، بل في أي شكل من أشكال المعارضة الموجَّهة ضدَّ أسرهم الحاكمة وكذلك في إيران، التي تدعم من وجهة نظرهم الإرهابيين.

وعلى هذه الخلفية يجب علينا أيضًا أن ننظر إلى موجة القمع المشدَّدة الحالية ضدَّ المعارضة (الإسلامية وغير الإسلامية) وضدَّ وسائل الإعلام الناقدة في البحرين وفي مصر الحليفة. وبالنسبة للطغاة في هذه الدول من الواضح أنَّهم ليسوا بحاجة لأن يخشوا من أي انتقاد من جانب دونالد ترامب عندما يستخدمون العنف الوحشي ضدَّ معارضيهم بذريعة محاربة الإرهاب وعندما يدوسون حينئذ حقوق الإنسان بأقدامهم.

بسبب موقف إدارة دونالد ترامب الناقد لإيران بات بإمكان المرء الآن أن ينتهج مسارًا أكثر تشدُّدًا حتى ضدَّ إيران، الأمر الذي أشار إليه أيضًا نائب ولي العهد السعودي من خلال قوله إنَّ المعركة ضدَّ إيران لن تجري على الأراضي السعودية، بل على الأراضي الإيرانية. صحيح أنَّ ما يعنيه بذلك على وجه التحديد لا يزال غير واضح بعد، ولكن مع ذلك يتعيَّن أن يكون هذا مدعاةً للقلق. لذلك فقد بات بعض المحللين يتوقَّعون بالفعل قيام السعودية بمحاولات تعبئة محتملة للأقليَّات الوهابية في داخل إيران ضدَّ القيادة في طهران.

مقر حكومة القيادة القطرية في الدوحة. Foto: Getty Images

القيادة السياسية القطرية تحت الضغط: قطعت المملكة العربية السعودية وحلفاؤها البحرين ومصر والإمارات العربية المتَّحدة علاقاتها الدبلوماسية بشكل مفاجئ مع قطر. وقد برَّرت ذلك بأسباب من بينها وجود علاقات للدوحة مع “منظمات إرهابية”. وبعد ذلك بوقت قصير انضم كلّ من الأردن وموريتانيا لمقاطعة قطر. وأعلن الأردن عن قرارات من بينها سحب تراخيص مكتب قناة الجزيرة القطرية في عمان. وفي الوقت نفسه ذكرت القناة الأمريكية سي إن إن نقلاً عن موظفين في الاستخبارات الأمريكية أنَّ قراصنة الإنترنت الروس قد نشروا قصة “أخبار وهمية” لدى وكالة الأنباء القطرية، دفعت المملكة العربية السعودية ودولاً أخرى إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر.

تسخير الإمارات لعمل جماعات الضغط بشكل كبير ضدَّ قطر

ومع هذا الدعم السياسي الجديد من قِبَل دونالد ترامب بات بإمكان المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتَّحدة أن تعيدا قطر إلى مسارهما بوسائل قاسية. ومع ذلك فهناك بعض المؤشرات التي تشير إلى أنَّ وكالة الأنباء القطرية قد تعرَّضت حقًا لهجوم من قِبَل قراصنة. وذلك لأنَّ نشر مثل هذا البيان لم يكن على كلِّ حال في مصلحة قطر.

ويضاف إلى ذلك أنَّ قطر قد طلبت بحسب بعض التقارير من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي إف بي آي مساعدتها في الكشف عن هذا الهجوم الإلكتروني. كذلك لقد تم اختيار توقيت الهجوم بعناية. حيث جاء هذا الهجوم أثناء ذروة حملة إعلامية طويلة الأمد ضدَّ هذه الدولة الخليجية في الولايات المتَّحدة الأمريكية. يتصدَّر هذه الحملة الإعلامية المعادية لقطر مركز الأبحاث الأمريكي “مؤسَّسة الدفاع عن الديمقراطيات”، الذي لفت الانتباه في المقام الأوَّل من خلال ومواقفه المؤيِّد لإسرائيل والمعادية لإيران، وقد نشر مؤلفوه سلسلة كاملة من مقالات تنتقد قطر وتتَّهمها بدعم الإرهاب.

وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى الرسائل الإلكترونية المسرَّبة من بريد سفير دولة الإمارات العربية المتَّحدة في واشنطن، والتي تظهر تبادل الرسائل بشكل منتظم بين السفير الإماراتي ومركز الأبحاث المذكور. وتبيِّن هذه الرسائل الإلكترونية بالإضافة إلى جهود الضغط الكبيرة من قِبَل دولة الإمارات العربية المتَّحدة ضدَّ قطر، أنَّ دولة الإمارات ستُرحِّب بإغلاق الولايات المتَّحدة الأمريكية قاعدتها العسكرية الكبيرة في قطر ونقلها إلى بلد آخر.

ومن خلال ذلك يمكن أن تصبح قطر أكثر عرضة للخطر. وما من شكّ في أنَّ الحملة المعادية لقطر تخدم هذا الهدف. حتى الآن يمكن التكهُّن فقط حول من يقف خلف هجوم القراصنة الإلكتروني المزعوم؛ الذي وفَّر على أية حال للمملكة العربية السعودية ولدولة الإمارات العربية المتحدة (وحليفتهما مصر) فرصةً مواتيةً لزيادة الضغط بشكل كبير على دولة قطر.

ولذلك يتعيَّن على ألمانيا ودول الاتِّحاد الأوروبي أن تنتقد السياسة المعادية لقطر من جانب المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتَّحدة. لأنَّ التعريف الواسع للإرهاب الذي تتبناه دول الخليج ذات الحكم المطلق وحلفاؤها، ويتم من خلاله وضع المعارضة المعتدلة في إناء واحد مع الجماعات الجهادية، وكذلك الموقف الذي يزداد عدوانية تجاه إيران، لا يساعدا على تحقيق الاستقرار في المنطقة.

 

 

ماتياس زايلَر

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2017

ar.Qantara.de

 

ماتياس زايلَر باحث دكتوراه في مجموعة بحث الشرق الأدنى والأوسط وأفريقيا في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية SWP.

 

 

 

الحملة على قطر.. الصحافة في خطر/ بشير البكر

تطرح الحملة الإماراتية السعودية على قطر جملة من الملاحظات بشأن دور الإعلام ومكانته، وبرز بوضوح أن الإعلام لم يكن، في أي يوم، في مركز الأزمة كما هو عليه اليوم، حتى أن شرارتها الأولى أخذت شكل اختراق لوسيلة إعلامية قطرية (وكالة قنا) ليل الثالث والعشرين من الشهر الماضي، وصار الخطاب المفبرك المنسوب لأمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، مادة الحملة الإعلامية والسياسية الضارية ضد قطر.

ودلت عدة مؤشرات على أن الحملة ليست وليدة عملية الاختراق، وهذا ما فضحه الزخم والتنسيق بين المنابر التي تنطعت لها، والعدد الكبير من الخبراء الذين تم استنفارهم من أجل شيطنة قطر.

من بين الملاحظات البارزة أن بعض المنابر التي تقود الحملة الإعلامية على قطر تريد أن تقطع الطريق على أي إمكانيةٍ للتهدئة، وبعضها يستخدم خطابا يؤسّس لقطيعة طويلة بين أبناء البيت الخليجي الواحد، وربما يكون مرد ذلك أنه لا خبرة لمن يقف وراء الحملة بتأثير الإعلام، الأمر الذي يفسر غلبة الطابع الكيدي والتشهيري على الحملات، وافتقارها لأسس الحوار. ولذلك، خلطت الحابل بالنابل، ولم يسلَم من أذاها أحد في قطر. وبالتالي، تتم إدارتها على شاكلة الفزعات والحروب العشائرية.

ما يستحق الملاحظة أيضا أن الصحافة في منطقة الخليج تعرّضت إلى نكسة كبيرة خلال أسبوعين من الأزمة، ما يعود إلى المعالجة المنحرفة من طرف بعض وسائل الإعلام. وليس بأمر ذي أهمية تسمية قناة تلفزية أو صحيفة بعينها بالقدر الذي تستدعيه الإشارة إلى أسلوب المعالجة الذي يشكل سابقةً، لم نشهدها حتى في أكبر أزمات المنطقة خطورة، مثل اجتياح الرئيس العراقي السابق صدام حسين الكويت عام 1990.

ولا مبالغة في القول إن بعض القنوات والصحف تصرفت من دون أن تراعي أية ضوابط أخلاقية أو مهنية، وأعطت لنفسها الحق في الافتراء على قطر وسياستها ومواقفها وقياداتها الحالية والسابقة، ولم تراع أي تاريخٍ مشترك لأهل هذه المنطقة الذين تجمعهم أواصر بقيت صامدة على الرغم من الهزات والأزمات، وقد لجأ بعض وسائل الإعلام إلى التزوير والفبركة واختراع أحداث، وكأن المشاهد والقارئ كائن مقطوع الصلة بالكون، وعليها هي مهمة تلقينه الأخبار من مصدر واحد.

وتبيّن خلال مجريات الحملة أن أسوأ ظاهرة عرفتها الصحافة العربية هي ظاهرة الخبراء الذين يجري تلقينهم ما يقولون. ولذا، صارت الغالبية العظمى من ضيوف قناتي العربية وسكاي نيوز تكرّر بعضها وتجترّ الاتهامات نفسها التي لا أساس لها من الصحة، وخصوصا المتعلقة بتمويل الإرهاب التي تنطبق على السعودية أكثر من أي بلد آخر في الكون.

وكشفت الأزمة عن عطبٍ حقيقي في صحافة المنطقة، يتعلق بفهم حرية الإعلام وتمثلها، وهذه مسألة لا يمكن لوسيلة إعلام ادعاء امتلاكها لمجرد أن لديها إمكانات مالية، تؤهلها لتوظيف جيش من الصحافيين، كما هو حال قناتي العربية وسكاي نيوز، بل هي قيم يتربى عليها الصحافي، وتبدأ باحترام عقل المتلقي. وقد تبين أن ليس هناك خطوط حمراء أو مرجعيات عمل مهنية، إذ يكفي أن يصفّر صاحب المشروع حتى تنطلق أفواج الخبراء مثل كلاب الصيد.

كانت بعض الصحف تشكل مدارس مهنية حتى وقت قريب، لكنها سقطت في فخ التزوير، مثل “الحياة” التي لم تراع تاريخاً طويلاً من العمل الصحافي الرصين، وانساقت نحو فبركة معارضين قطريين، وأعلنت عن بث أحاديث صحافية ثم تراجعت عنها.

الإعلام الذي قاد الحملة فشل في الامتحان، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه سوف تتحول أخلاق المهنة إلى مادة للسخرية، في ظل حفلة تطبيل شعارها “هدفنا تغيير سياسة قطر وليس نظامها”.

العربي الجديد

 

 

 

ظاهرة الدور القطري/ خالد الدخيل

من حق السعودية أن تعبر عن امتعاضها من الدور الذي اختارت الدوحة أن تمارسه إقليمياً. وهو امتعاض لا يعبّر عن اعتراض على الدور ذاته، وإنما على وجهته واستهدافه السعودية والمنظومة التي تمثلها في المنطقة. كانت ولا تزال هذه الرؤية هي السائدة في السعودية منذ أيام أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. ثم كانت المفاجأة الصاعقة عندما خرجت إلى العلن تسجيلات للشيخ نفسه مع العقيد معمر القذافي وهو يتحدث فيها بالتفصيل عن جهود حكومته لتهيئة الظروف للإطاحة بالنظام السعودي. يبدو أن انكشاف هذه التسجيلات كان من بين العوامل، وربما العامل الأساسي لتنازل الشيخ حمد عن الحكم لابنه وولي عهده الشيخ تميم عام 2013. حينها شاعت أجواء من التفاؤل في سماء العلاقات بين البلدين. لكن لم تمضِ سنة على ذلك حتى انفجرت قضية سحب سفراء السعودية والإمارات والبحرين من الدوحة. نجحت جهود الوساطة بإعادة السفراء. ثم وصلت الأزمة الآن إلى ذروة غير مسبوقة، وتبدو مرشحة لذروة، وربما ذرى أخرى.

السؤال: لماذا انفجرت الأزمة القطرية من جديد وبدرجة أكثر حدة وخطورة عما كانت عليه من قبل؟ سؤال آخر: لماذا ظهرت هذه الأزمة من أصلها؟ بالنسبة للسؤال الأول من الواضح من بيانات الطرفين أن قطر لم تعالج في شكل جاد وجذري شكاوى الدول الثلاث من سياساتها. فإذا كانت بيانات الدول الثلاث تعدد اتهاماتها للدوحة، فإن بيانات الأخيرة وإعلامها لا تقدم تفنيداً واضحاً ومسنوداً بالقرائن والأدلة لتلك الاتهامات، وإنما تغرق في التبرير والسجال الذي لا ينتهي إلى شيء واضح وملموس. الأسوأ أن الرياض شعرت بأن قطر لم تقدر التنازل السعودي الكبير بعد تسريب تسجيلات الشيخ حمد. وكانت مصادر قطرية مقربة ذكرت أن الشيخ حمد بن خليفة، وبعد تسرب هذه التسجيلات ذهب في زيارة غير معلنة إلى الرياض وقدم اعتذاره شخصياً للراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز. لا نعرف ماذا حصل بعد ذلك، لكن بدا واضحاً أن السعودية كانت مستعدة تماماً لتجاوز موضوع التسجيلات، والانتقال إلى ما بعده. وهذا تنازل كبير بكل المقاييس. إذ إن الرياض لم تعلن أي موقف حيال هذا الموضوع، ولم تقبل آنذاك بتحويله إلى موضوع إعلامي مثير. على العكس، استقبلت الأمير السابق وقبلت اعتذاره، وهنأت الأمير الجديد، وكأن شيئاً لم يكن.

في هذا السياق، وكما أشرت، الأرجح أن تنازل الأمير الوالد لابنه الشيخ تميم كان على علاقة بالتسريبات. ومن الطبيعي أن تنتظر الرياض في هذه الحال أن تختلف السياسة القطرية مع الأمير الجديد عما كانت عليه مع الأمير السابق. لكن هذا لم يحدث وفق الرياض وبقية العواصم التي شاركتها قطع العلاقة مع الدوحة. حدة الموقف السعودي الأخير، ومعه مواقف الدول الأخرى، كما تمثل خصوصاً في إغلاق الحدود البرية والبحرية والجوية، تعكس مدى خيبة الأمل، وشعوراً دفيناً بأن الدوحة لا تزال متمسكة بسياساتها القديمة، بما في ذلك ما جاء في التسجيلات، وأن التنازل للأمير الجديد لم يكن إلا إجراء شكلياً لتفادي تداعيات التسجيلات، وأن الأمير الوالد لا يزال حاضراً في رسم السياسة الخارجية القطرية بكل تحالفاتها وأهدافها التي كانت عليها قبل التنازل. في ضوء ذلك ليس مستبعداً أن الرياض الآن لا تنتظر أقل من تغير جذري في توجهات السياسة الخارجية، وخروج الشيخ حمد بن خليفة تماماً من دائرة صناعة القرار في شأن هذه السياسة. لا نعرف شيئاً عن مطالب الرياض، لكن ليس من المستبعد أيضاً أن تطالب الرياض بخروج الشيخ حمد من قطر لضمان غياب تأثيره.

إذا كانت هذه المعطيات صحيحة، وتبدو كذلك، فإن المصدر الأساسي للأزمة مع قطر يكاد ينحصر في شخصية الشيخ حمد بقناعاته، وطموحاته، وتحديداً في مواقفه تجاه السعودية في شكل خاص. إذ يبدو الآن، خصوصاً بعد تسرب التسجيلات، أن السياسة الخارجية القطرية التي رسمها كانت من الطموح أن من أبرز أهدافها الإطاحة بالنظام السعودي، وإيصال جماعة الإخوان المسلمين للحكم في مصر، والتحالف مع ما يعرف بفريق «الممانعة» خصوصاً سورية الأسد وإيران. المربك في الموضوع أن قطر كانت تحتفظ في الوقت نفسه بتحالفها مع واشنطن، وتعمل على توسيع هذا التحالف مع تركيا، وإقامة قناة علاقة مع إسرائيل. كل ذلك كان يتم بمعزل عن مجلس التعاون، ما يكشف مأساة هذا المجلس وغياب حضوره أو تأثيره في خيارات السياسة الخارجية لأعضائه.

هنا نصل للسؤال الثاني: فإذا كانت قطر تحت إمرة الشيخ حمد اختارت لها دوراً إقليمياً يتجاوز حجمها وإمكاناتها، فكيف تمكنت من تحقيق ذلك وممارسته على الأرض داخل مجلس التعاون، والجامعة العربية؟ لا تكفي الإحالة هنا إلى الإمكانات المالية الكبيرة لقطر كإجابة عن السؤال. فالحقيقة أن تبني دولة صغيرة الحجم جغرافياً وديموغرافياً دوراً يتجاوز ذلك بكثير هو ظاهرة تعكس ضعف النظام الإقليمي الذي تنتمي إليه، بما في ذلك الدول الكبيرة التي تشكل العمود الفقري لهذا الإقليم. وهذا يتضح في تمكن دولة صغيرة من تجاوز الدول الكبيرة في فرض خياراتها أحياناً ومبادراتها، ووساطاتها حتى بين الدول الكبيرة. وصل الدور القطري إلى ذروته الأولى في ما عرف عام 2008 باتفاق الدوحة بين الأفرقاء اللبنانيين بعد اجتياح قوات «حزب الله» بيروت والجبل آنذاك، وبروز شبح عودة الحرب الأهلية. كان النظام السوري هو الذي فرض الدور القطري بهدف اختراق مجلس التعاون، وإدخال الدوحة كلاعب حليف لدمشق في الساحة اللبنانية، وإضعاف الدور السعودي هناك. طبعاً لم يتحقق هذا الهدف. استمر الدور القطري على هذا النحو في اليمن بين الحوثيين وعلي عبدالله صالح، وفي السودان، وأفغانستان. بعد الربيع العربي انقطعت علاقة قطر مع الأسد والقذافي لأسباب ليس هنا مجال التفصيل فيها. كان المتوقع في هذه الحال أن تقترب قطر أكثر من السعودية، لكن هذا لم يحدث إلا في شكل محدود في اليمن. في سورية تنافست مع السعودية. وفي ليبيا تنافست مع الإمارات. وفي مصر دعمت حكم «الإخوان»، ووقفت ضد الانقلاب هناك للهدف نفسه. ثم انتهت مسيرة الدور القطري بالأزمة الأخيرة التي يبدو أنها أخطر ما واجهه هذا الدور حتى الآن.

قبل قطر حاول العقيد القذافي ممارسة الدور نفسه في سبعينات القرن الماضي. لكنه فشل في ذلك، خصوصاً بعد انكشاف تورط استخباراته بحادثة لوكربي الكارثية. واضطر للتخلي عن طموحه بعد سقوط النظام العراقي على يد الاحتلال الأميركي عام 2003، أي قبل قيام الثورة عليه بثماني سنوات. الكويت بدورها اقتربت من لعب هذا الدور، ثم تخلت أيضاً عنه تماماً بعد تحريرها من الاحتلال العراقي في ربيع 1991. لكن الظاهرة تأخذ أشكالاً مختلفة، ولا تقتصر على طموح دول صغيرة للعب أدوار كبيرة. ظهور الميليشيات وتفشيها، ومحاولاتها منافسة الدول في أن تكون بديلاً لها يعبر عن الحال ذاتها للإقليم ذاته. وإذا أخذنا في الاعتبار أن نشأة الميليشيات في العالم العربي بدأت بعد الثورة الإيرانية عام 1979، تكون الصيغة الميليشيوية للظاهرة استكمالاً لعملية سياسية تعصف بالمنطقة العربية منذ أواخر ستينات القرن الماضي. أبرز مظاهر هذا الشكل «حزب الله» اللبناني الذي تحول بفعل الدعم العسكري والمالي الإيراني، والغطاء السوري، إلى قوة إقليمية تستخدمها إيران للتدخل في الدول العربية. كذلك الحشد الشعبي في العراق، وهو ميليشيا ألحقت أخيراً بالدولة على نحو يشبه ما حصل لـ «حزب الله» وعلاقته بالدولة اللبنانية. جماعة «أنصار الله» الحوثية تقاتل الآن لاستنساخ تجربة «حزب الله» في اليمن. وعلى رغم أن ذلك يحصل على حساب الدولة العربية، والأمن القومي العربي، إلا أن رد الفعل العربي يبدو في الأغلب خافتاً وضعيفاً، يعكس الحال التي وصل إليها النظام الإقليمي العربي.

هناك شكل آخر للظاهرة، وهو التدخلات الأجنبية في الدول العربية، ووجودها العسكري والاستخباراتي داخل بعض هذه الدول. كلنا نعرف الآن الوجود الإيراني الكثيف من خلال الميليشيات في سورية والعراق ولبنان. وهو وجود يعتبر الآن مشروعاً بحكم أنه يتم تحت ظلال «الحكومة الشرعية». بل إن المعادلة السياسية للحكم في لبنان تساوي بين الدولة وميليشيا «حزب الله»، على رغم أن هذا الحزب ذراع إيرانية وليست لبنانية. على خلفية الأزمة الأخيرة أرسلت تركيا حتى لحظة كتابة المقالة أكثر من مئتي جندي إلى قطر. ويقال إن حجم القوة التركية سيصل إلى خمسة آلاف. وقول الحكومة القطرية إن الوجود العسكري التركي هو لمصلحة «أمن واستقرار المنطقة». وإذا كان هذا تطوراً مرفوضاً من حيث المبدأ والمصلحة، وأنه نوع من التدخل تحت غطاء الشرعية، فإن ظلال هذا الموقف ستمتد إلى الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، وفي مقدمه قاعدة العديد في قطر. وهذا ما يشير إلى مأزق النظام الإقليمي العربي، بما في ذلك مجلس التعاون الخليجي، وهو المأزق الذي أفرز الظاهرة ابتداء.

الشاهد من كل ذلك أن وضع حد لظاهرة الدور القطري أمر مشروع، بل واجب لحفظ التوازنات داخل الإقليم، ومع القوى التي تقع خارج الإقليم. لكن لا يمكن تحقيق ذلك من دون إصلاح الخلل في النظام الإقليمي الذي هو السبب الأول وراء بروز هذه الظاهرة. لا يكفي أن تهجو الدور القطري، أو الليبي، أو التدخلات الأجنبية والميليشيات المصاحبة لها. يجب القضاء على الأسباب التي أدت إلى ذلك. وهذا ليس ممكناً من دون أن تستعيد الدول الكبيرة دورها الطبيعي على المستوى العربي، وداخل مجلس التعاون على المستوى الخليجي. غياب أو ضعف الدول الكبيرة خلق الفراغات التي تسربت من خلالها الأدوار المضرة، والتدخلات الأجنبية، والميليشيات التي تتجرأ على منافسة الدول.

* كاتب وأكاديمي سعودي

الحياة

 

 

 

أزمة العلاقات الخليجية.. المقدمات والأسباب والدوافع

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

صحا القطريون فجر الرابع والعشرين من مايو/ أيار 2017 على وقع حملةٍ إعلاميةٍ شديدةٍ قادتها وسائل إعلام إماراتية وسعودية، نسبت تصريحات إلى أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، تبيّن أنها مفبركة بصورة كاملة. فقد جرى اختراق وكالة الأنباء القطرية بعد منتصف ليل الثلاثاء/ الأربعاء 23/ 24 مايو/ أيار، ونشر تصريحات زُعِم أنّ أمير دولة قطر أدلى بها في حفل تخريج الدفعة الثامنة من منتسبي الخدمة الوطنية الذي جرى صباح اليوم السابق. وعلى مدى أسبوعين تقريبًا، تناولت وسائل الإعلام الإماراتية والسعودية قطر وسياستها، ووصل الهجوم حدًا خرج فيه حتى عن الأعراف والتقاليد العربية الخليجية، من خلال تناول العائلة الحاكمة القطرية بالنقد والتجريح.

وبأسلوب الصدمة أيضًا، وفيما يشبه إعلان حرب، أعلنت كلٌ من السعودية والإمارات والبحرين ومصر صباح الخامس من يونيو/ حزيران قطع العلاقات الدبلوماسية والقنصلية مع قطر، وإغلاق المنافذ البرية والبحرية والجوية معها، ومنع العبور في أراضيها وأجوائها ومياهها الإقليمية، ومنع مواطنيها من السفر إلى قطر، وإمهال المقيمين والزائرين من مواطنيها فترةً محددةً لمغادرتها، ومنع المواطنين القطريين من دخول أراضيها وإعطاء المقيمين والزائرين منهم مهلة أسبوعين للخروج.

 

جذور الأزمة

تميّزت السياسة الخارجية القطرية منذ عام 1995 بالدينامية والمرونة والقدرة على المناورة ومحاولة إيجاد علاقاتٍ متوازنةٍ مع أكثر القوى الإقليمية والدولية، فبنت قطر علاقاتٍ متينةً مع الولايات المتحدة الأميركية، واستضافت في “العُديد” إحدى أكبر القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة، في وقتٍ انفتحت فيه على القوى الإقليمية الأخرى، على الرغم من التناقضات الكبيرة بين هذه الدول. وقد انفتحت قطر على المبادرات والمؤتمرات الحوارية التي غدت

“يبدو أن واشنطن سوف تظل تعارض أيّ محاولةٍ للقيام بما من شأنه أن يغيّر التوازنات الإقليمية التي تحرص على استمرارها في منطقة الخليج” جزءًا من أدوات السياسة الناعمة التي تستخدمها، وأطلقت ثورةً إعلاميةً عبر إنشاء قناة الجزيرة، وشرّعت من خلالها الباب أمام مناقشة قضايا كانت تعد “تابوهاتٍ” في الفضاء السياسي العربي المغلق. فقد عملت “الجزيرة” على استضافة مثقفين وإعلاميين وناشطين، من مختلف التيارات السياسية والفكرية الليبرالية والقومية واليسارية والإسلامية، وتناولت أكثر القضايا حساسيةً في العالم العربي. وعلى الصعيد الداخلي، اتسمت سياسة قطر بالانفتاح؛ فأولت قضايا المرأة اهتمامًا كبيرًا، وقامت بلبرلة التعليم وفتح فروع للجامعات الأميركية، وفتحت المجال لقياداتٍ إسلاميةٍ منفتحةٍ كي تقوم بدورٍ مؤثرٍ في تجديد الخطاب الديني. وفي الوقت نفسه، سمحت ببناء كنائس جرى تمويلها بتبرّعٍ من أمير قطر نفسه.

ومنذ منتصف التسعينيات، مثلت التوجهات القطرية، وخصوصا في السياستين الخارجية والإعلامية، مصدر إزعاجٍ لبعض الحكومات، وكانت مادةً لعنوان تأزّمٍ دوري في العلاقات مع هذه الدول على امتداد العقدين الماضيين، وبصورة خاصة السعودية.

ووقفت قطر بقوة ضد العدوان الإسرائيلي على لبنان وغزة. ومع انطلاق ثورات الربيع العربي، حاولت الدول العربية تحميل الإعلام وقطر المسؤولية عنها في تهرّبٍ من عملية محاسبة للنفس على الأخطاء والسياسات التي قادت إلى الحالة الثورية عربيًا. وقد ازدادت الضغوط على النظم العربية في ضوء النموذج الحضاري الذي قدّمه الشباب العربي في الساحات والميادين العامة، وأثارت إعجاب الغرب والعالم، وجعلت الولايات المتحدة تتخلى، أمام هذا النموذج السلمي والراقي في التغيير، عن أكثر حلفائها قربًا، كما حصل مع نظام حسني مبارك في مصر.

وفيما كانت قطر وقناة الجزيرة تؤديان أكثر أدوارهما حيويةً ومحورية في المنطقة العربية خلال هذه المرحلة، كانت النظم العربية تعيش مرحلة انكماشٍ ودفاعٍ عن النفس، محاولةً الانحناء للعاصفة ريثما تهدأ، لكن الأمور لم تلبث أن تغيّرت بسرعة.

مثّل عام 2013 نقطةً مفصليةً في سياسة قطر الخارجية؛ إذ بدأ المد الثوري بالانحسار نتيجة أخطاء وإخفاقاتٍ لقوى الثورة، وعنف الأنظمة، ولا سيما النظام السوري وأخطاء الإسلاميين في الحكم في مصر وطموح العسكر للعودة إلى الحكم، وتعقيدات الوضعين، السياسي والاجتماعي، العربيين. وبدأت قوى النظام القديم والثورة المضادة تستجمع قواها استعدادًا لهجومٍ مضادٍ كبيرٍ، وحققت اختراقين مهمين: الأول في مصر، حيث تمكّن الجيش، بدعمٍ فاعلٍ من دول خليجية، أهمها السعودية والإمارات، من الانقلاب على العملية الديمقراطية، ووضع حدٍ لإفرازات ثورة 25 يناير ونتائجها. والثاني في سورية، حيث تمكّن نظام الأسد، بفضل الدعم الإيراني، من الصمود في وجه قوى الثورة والمعارضة، والانتقال إلى الهجوم العسكري المضاد. وقد عُرفت هذه المرحلة بمرحلة الثورات المضادة التي قادتها الإمارات والسعودية، والتي حمّلت قطر مسؤولية محاولة إفشال مساعيها في إعادة عقارب الساعة الى الوراء، وإلغاء كل ما ترتب على ثورات الربيع العربي. وبعد الانقلاب العسكري في مصر، تفجّر الخلاف

“منذ منتصف التسعينيات، مثلت التوجهات القطرية، وخصوصا في السياستين الخارجية والإعلامية، مصدر إزعاجٍ لبعض الحكومات” بشكل علني بين السعودية والإمارات والبحرين من جهة، وقطر من جهة أخرى، وانتهى بسحب الدول الثلاث سفراءها من قطر مطلع عام 2014، واستمرت الأزمة نحو تسعة أشهر. وكان شرطهم أن تدعم قطر الانقلاب العسكري. وفي حينه، كان العالم أجمع يرى فيه انقلاباً عسكرياً، وكان دعم الانقلاب في موقف الأقلية دوليًا، وحتى أفريقيًا.

توقفت الأزمة الخليجية في ذلك الوقت عند حدود سحب السفراء، ولم تتخذ أبعادًا أكبر نتيجة حالة القلق التي انتابت عواصم الدول الخليجية من سياسات إدارة أوباما الثانية؛ فبعد أن أيّد أوباما، في ولايته الأولى، ثورات الربيع العربي، حاول في ولايته الثانية التقرّب من إيران، أملًا في إبرام اتفاقية لحل أزمة برنامجها النووي. وقد أدت سياساتُ أوباما الاسترضائية تجاه إيران، وشعورٌ خليجي بالتخلي الأميركي، إضافة إلى تنامي سياسات الهيمنة الإيرانية، إلى إحساسٍ خليجي عامٍ بالضعف؛ ما دفع السعودية والإمارات تحديدًا إلى تأجيل خلافاتهما مع قطر، وخصوصا مع الحاجة إلى دعم قطري إعلامي ومالي وعسكري، مع بدء الحملة على اليمن مطلع عام 2015. وقد وضعت قطر ثقلها في دعم الحملة السعودية – الإماراتية في مواجهة المليشيات الحوثية التي انقلبت على الشرعية، وسيطرت على العاصمة صنعاء في أيلول/ سبتمبر 2014.

 

تجدّد الأزمة

عندما انطلقت الحملة الإعلامية على قطر قبل نحو أسبوعين، مثّل هذا استئنافًا لصراعٍ قديمٍ حول دور قطر ومواقفها وسياستها الخارجية، لم تسمح الظروف السابقة بحسمه، علمًا أنّ قطر التزمت المواقف الموحدة لدول الخليج العربية في أكثر القضايا الإقليمية أهميةً في سورية واليمن والموقف من إيران والحرب على الإرهاب.

ومع انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، استعادت السعودية والإمارات الثقة بالنفس، ونشأ تحالف بين ولي عهد أبوظبي وولي ولي العهد في السعودية، لأسبابٍ داخلية وخارجية. وعادت القيادتان إلى سياستهما الهجومية، وبدأت بالتعبئة ضد قطر في وسائل إعلام غربية وأميركية عديدة، وصولًا إلى قمة الرياض التي قدّمت مؤشراتٍ على وجود أزمةٍ مكبوتةٍ في العلاقات مع قطر، كان أبرزها محاولة تهميش الحضور القطري وبعض دول مجلس التعاون والأردن، في مقابل التركيز على الحضور الإماراتي والمصري، قبل أن تنطلق هجمة إعلامية شرسة بعد يومين فقط على اختتام قمة الرياض.

بدا أن الهجوم الإعلامي الإماراتي والسعودي غير مبالٍ بالنفي القطري رواية تصريحات أمير قطر. وعلى الرغم من قيام دولٍ مختلفة بإبلاغهما أنه جرت فعلًا قرصنة وكالة الأنباء القطرية، استمرت الحملة الدعائية على الدوحة؛ ما يعزّز الظن بأنها حملة مُخططة مسبقًا. ويؤيد ذلك أنّ الاستهداف الإعلامي في واشنطن المدعوم إماراتيًا كان سابقًا على القرصنة. وقد لاحظ وزير الخارجية القطري أنه “في الأسابيع الخمس الماضية قبل فبركة تصريحات الأمير ظهر 13 مقالًا تستهدف قطر، وفي يوم الهجوم كان هناك مؤتمر يتحدث عن قطر”.

أخذت الهجمة الإعلامية على قطر شكلًا جديدًا غير مألوفٍ في التعامل البيني الخليجي في أوقات الأزمات؛ إذ لم تتوقّف الحملة عند فبركة أخبار، وتلفيقها ضد قطر وسياساتها الخارجية، بل وصلت إلى حدّ توجيه الشتائم للأسرة الحاكمة، وهذا تطورٌ غير مسبوقٍ في الخليج. ففي السابق، كانت الخلافات الخليجية تتركّز على قضايا وسياسات، وتتجنّب تناول الأسر الحاكمة، باعتبار هذا الأمر يفتح الباب واسعًا أمام الطعن في شرعية العائلات الحاكمة التي تقوم عليها أنظمة الخليج كلها.

اتخذ الهجوم الإعلامي الخليجي أخيرا، وما استتبعه من قطعٍ للعلاقات الدبلوماسية، من سياسة قطر الخارجية ركيزةً أساسيةً لتحقيق أغراضه، وجاء في مقدمتها اتهامات لقطر بدعم الإرهاب، وتنمية علاقاتها مع إيران، وزعزعة استقرار دول مجلس التعاون، إلى غير ذلك من الاتهامات التي تسقط بسهولة أمام أي تحليلٍ موضوعي، فقطر حليفٌ فعالٌ في الحرب على الإرهاب، وهذا ما أكّده الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خلال لقائه بأمير قطر على هامش قمة الرياض. أما فيما يتصل بالعلاقة مع إيران، فمن نافل القول إن قطر دفعت أكبر الأثمان بين كلّ الدول الخليجية نتيجة تدهور علاقتها بإيران بسبب الأزمة السورية، ليس على شكل

“محاولةٌ مكشوفة من الإمارات والسعودية لفرض سياسة خارجية معينة، تلتزم قطر بها” اختطاف مواطنين لها واحتجازهم وابتزازها سياسيًا وماليًا (كما حصل في أزمة اختطاف المواطنين القطريين في العراق)، بل استمرت أيضًا في دفع أثمانٍ سياسية كبيرة نتيجة لذلك. في حين حققت الإمارات أعلى العوائد نتيجة علاقاتها الاقتصادية المتنامية مع إيران، حيث تُمثل الإمارات ما نسبته 80% من حجم التبادل التجاري الخليجي مع إيران، وتمثل المنفذ الأهم لتجارة الترانزيت الإيرانية، ومركزًا ماليًا مهمًا للتحويلات الإيرانية. وفي لقاءٍ جرى قبل ثلاثة أعوام، وجمع أعضاء الوفد التجاري الإماراتي بغرفة التجارة الإيرانية في طهران، صرّح سفير إيران لدى أبو ظبي، محمد علي فياض، إنّ الإحصاءات الرسمية تفيد بأن حجم التبادل التجاري بين إيران والإمارات بلغ 15.7 مليار دولار في عام 2013، ونحو 17.8 مليارًا في عام 2012، و23 مليارًا في عام 2011، و20 مليارًا في عام 2010. لكن عام 2014 شهد قفزةً كبيرةً في حجم التبادل التجاري بين البلدين، وأصبحت الإمارات أكبر الدول المصدّرة لإيران؛ إذ شكلت ما نسبته 27% من مجموع الواردات الإيرانية، وبلغ حجم التبادلات 41.620 مليار دولار (حجم الصادرات 19.639 مليارًا وحجم الواردات 21.981 مليارًا). وكانت الإمارات أهم الدول المصدرة للبضائع إلى إيران وتأتي بعدها الصين، فالهند، وكوريا الجنوبية، ثم تركيا. ومع ذلك، تحتفظ الإمارات بالخطاب السياسي الأكثر تصعيدًا ضد إيران.

وفيما يتعلق بالإخوان المسلمين، فقد أعلنت قطر أنها لم تدعمهم ولا تدعمهم وتختلف معهم، ولكنها لا ترى فيهم تنظيما إرهابيا، لسببين: أولهما أنهم ليسوا تنظيما إرهابيا، وثانيهما أن هذا التوسع في استخدم الإرهاب ووسم الخصوم السياسيين به يضر بالمعركة ضد التنظيمات الإرهابية فعلا.

وفيما يتصل بنشر الشائعات عن تمويل قطر الإرهاب، فهي مزاعم تُفنّدها مشاركة قطر القوية في الحرب على الإرهاب، ومكافحة تمويله، علمًا أنه لم يبق من زعم الدول الثلاث في هذا الشأن إلا المطلب المتعلق بحركة حماس. فضلًا عن ذلك، كانت السعودية وما زالت محل اتهامٍ من دوائر في واشنطن، وهي نفسها التي تحرّض على قطر اليوم فيما يتصل بمزاعم تمويل الإرهاب ودعمه، والتي تمكّنت في السنة الماضية من تمرير قانون جاستا الذي استهدف مقاضاة السعودية بزعم مسؤوليتها عن هجمات سبتمبر 2001.

“حجم التبادل التجاري بين إيران والإمارات بلغ 15.7 مليار دولار في عام 2013، ونحو 17.8 مليارًا في عام 2012، و23 مليارًا في عام 2011”

 

خاتمة

يبدو واضحًا من الأزمة القائمة ومبرّراتها الواهية أنّ المعركة إنما هي على دور قطر الإقليمي وسياساتها الخارجية، وهي محاولةٌ مكشوفة من الإمارات والسعودية لفرض سياسة خارجية معينة، تلتزم قطر بها، خصوصا فيما يتصل بالعلاقة مع مصر، والتي تتمتع كلٌ من الإمارات والسعودية بعلاقة متينةٍ معها، ومع نظامها الذي يمثل بالنسبة إليها سدًا منيعًا في وجه التغيير الذي يمكن أن تدفع به مجددًا قوى الشباب العربي. كما يبدو أن هذه الحملة تحظى بدعمٍ كبيرٍ من اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، والذي كشفت التسريبات الأخيرة للبريد الإلكتروني للسفير الإماراتي في واشتطن عن حجم التنسيق بينه وبين أنصار إسرائيل في واشنطن، لتشويه صورة قطر، وتقديمها دولة راعية للإرهاب.

من المستحيل أن تقبل قطر بفرض الوصاية عليها بالتراجع عن سياستها المستقلة في ظروفٍ من التهديد وفرض العقوبات وشنّ الحملات الإعلامية عليها بناء على فبركات. ويتطلب أيّ خروجٍ من الأزمة حوارًا بين أنداد، يجري فيه التفاهم على جميع القضايا، وليس بلغة التهديد وتقديم التنازلات.

وتبقى نتائج الهجمة ومداها على قطر مرتبطةً بنهاية المطاف بالموقف الأميركي. ومع أنه من الصعوبة تصور قيام دول الخليج الثلاث، إضافة إلى مصر، بالإقدام على قطع العلاقات مع قطر وعزلها من دون تشاور أو تنسيق مع الولايات المتحدة، فإن واشنطن تبدو، حتى الآن، على مسافةٍ واحدة في هذه الأزمة. وقد صرّح وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، إن بلاده “تشجع الأطراف جميعًا على الجلوس معًا ومعالجة هذه الخلافات”. وعرض الوساطة لمساعدة الدول الخليجية على رأب الصدع، مشدّدًا على أنّ على مجلس التعاون الخليجي أن يحافظ على وحدته..

كما يبدو أن واشنطن سوف تظل تعارض أيّ محاولةٍ للقيام بما من شأنه أن يغيّر التوازنات الإقليمية التي تحرص على استمرارها في منطقة الخليج، خصوصا أنها تحتفظ بأكبر قواعدها العسكرية. وربما ترى أنه ليس من المفيد كثيرًا الدفع، مثلًا، بحركة حماس إلى الارتماء مجددًا في أحضان إيران، في حال اشتد الضغط على قطر.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى