إياد الجعفريصفحات المستقبل

الأسد واختبار الدولة الفاشلة/ إياد الجعفري

 

 

 

تُوحي التحركات الأخيرة لرأس النظام بدمشق، أن علاقته مع ميليشياته المحلية، المتحدرة في غالبيتها من حاضنته الطائفية تحديداً، هي عند مفترق طرق جديد. ويبقى السؤال، هل تكرر تلك العلاقة مسار سلفها في عهد والده؟، أم تسلك مساراً مختلفاً بحكم العوامل الجديدة التي تحكم المشهد السوري؟

شن بشار الأسد في الأسابيع الأخيرة حملة ممنهجة ضد فلتان السلاح والتشبيح الذي تتسبب به ميليشيات محلية، هو شخصياً من أطلق يدها في بداية الصراع مع الحراك الثوري، العام 2011. الأمر الذي يخضع لقراءات مختلفة.

يمكن للبعض أن يربط بين ما يحدث اليوم، وبين ما حدث نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات، حينما قاد باسل الأسد، شقيق بشار الراحل، حملة على الميليشيات المحلية الفالتة، التي ضمت بصورة رئيسية، شبيحة من أقرباء والده ووالدته. وهي حملة اختلفت القراءات في توصيف خاتمتها يومها. فمنهم من قال أنها طالت الصغار وحيّدت الكبار، ومنهم من قال أنها خلصت إلى تسوية مع كبار رموز العائلة من قادة الشبيحة، بضبط ميليشياتهم، مقابل فتح الباب لهم على مصراعيه، لدخول عالم “البزنس” في “دولة الأسد”، دون أية قيود، بدلاً من البقاء في درك “التشبيح” المنحط، والمسيء للعائلة والعائلات المتصاهرة معها.

لكن، أياً كان التوصيف الأدق، فإن حملة باسل الأسد ضد التشبيح، يومها، كانت إيذاناً بانتهاء المواجهة مع أكبر خصم يهدد حكم العائلة والطائفة، من خارجها، ونقصد هنا، تحدي الأخوان المسلمين. ذلك التحدي الذي كان سبباً في إطلاق يد ميليشيات طائفية، كان أبرزها، “سرايا الدفاع” بقيادة رفعت الأسد، التي حظيت من بين باقي الميليشيات الأخرى، بقوننة رسمية، وبسخاء مالي من جانب الأسد الأب شخصياً. قبل أن يتحول الأمر إلى صراع على السلطة بينه وبين شقيقه.

وهكذا، كانت حملة باسل الأسد ضد التشبيح يومها، مؤشراً إلى استقرار الحكم لآل الأسد، والحاجة إلى ضبط المظاهر الفالتة فيه، كي يستعيد مظهر “الدولة”. ذلك أن القدرة على ضبط الداخل، وعدم وجود مظاهر فلتان توحي بفشل الدولة، كانت وما تزال، متطلبات ضرورية لتمتع أي نظام حكم شرق أوسطي، بمؤهلات تسمح بقبوله كوكيل محلي يمكن التعامل معه، لدى القوى الإقليمية والدولية الكبرى الفاعلة في المنطقة.

بالمنحى نفسه، يبدو أن بشار الأسد يحاول جاهداً في الأسابيع الأخيرة، خوض غمار مسار سبق أن خاضه والده وشقيقه، قبله، لتقليم مظاهر الفشل في الدولة السورية، باعتبار ذلك مدخلاً ضرورياً لإعادة تأهيل النظام، الذي أقرّت فرنسا، أكبر مناوئيه في الغرب، بأنه لا بديلاً شرعياً لرأسه، في سوريا.

الخلاصة السابقة تدفعنا إلى تساؤلين: هل يعني ذلك أن بشار الأسد بات يستشعر الأمان حيال زوال أي تهديد جدّي لحكمه؟، وهل يعني ذلك أيضاً، أن بشار الأسد قادر على تقليم أظافر الفلتان في دولته، كما فعل والده وشقيقه من قبله، أم أن الظروف اليوم مختلفة؟

أما جواب السؤال الأول، فيحاول بشار الأسد أن يجيب عليه بإلحاح، عبر نشاطاته الخارجية التي وصلت ذروتها يوم عيد الفطر، حيث وصل إلى حماة، وزار بسيارته، أريافاً موالية فيها، ليكمل طريقه إلى الساحل. وكان لافتاً يومها أن وسائل الإعلام الغربية، وفي مقدمتها، رويترز، التقطت الرسالة، وقالت أن الأسد قام بأول نشاط له خارج العاصمة دمشق، منذ العام 2011.

أما جواب السؤال الثاني، الذي ما يزال مفتوحاً على المستقبل، فيبدو أكثر تعقيداً مما كان عليه المشهد في عهد الأب. فناهيك عن ميليشيات الأقرباء، هناك ميليشيات طائفية تخص قيادات لا تقرب العائلة، لكنها تتمتع بشعبية ونفوذ كبيرين في أوساط الطائفة، منها على سبيل المثال، لا الحصر، ميليشيا “النمر”، لقائدها الشهير سهيل الحسن من دون أن ننسى بطبيعة الحال، الميليشيات الأجنبية، التابعة لإيران أو لروسيا، والتي باتت لها الكلمة العليا في مساحات ميدانية واسعة من التراب الخاضع نظرياً لنظام الأسد.

إذا عدنا بالذاكرة إلى تاريخ التجربة المماثلة، نذكر أن مساعي الأسد الأب في إعادة تطويع وضبط فلتان الميليشيات المحلية التابعة لنظامه، تطلبت منه أكثر من عقدٍ من الزمان، حتى العام 1998، حينما هاجمت قوات النظام ميناء لمليشيا تتبع لـ رفعت الأسد في اللاذقية، لتكون تلك خاتمة المسار الذي بدأ منذ نهاية الثمانينات.

الأمر الذي يعني أن على الأسد الابن، أن يخوض مساراً مليئاً بالمخاطر، قد يمتد لعقدٍ من الزمان، كي يتمكن من إعادة تقليم مظاهر الفشل في الدولة السورية. وقد ينجح في اعتماد استراتيجية البديل المُغري لزعماء الميليشيات المحلية، التي سبق أن اعتمدها والده. ويكون “البزنس” بديلاً عن “التشبيح”.

أما بالنسبة للمليشيات غير المحلية، فالسيناريو المرجح أن تحظى بمساحات جغرافية وديمغرافية خاصة بها. لذا، قد نتوقع في مستقبل دولة الأسد الابن، أن نرى قلب العاصمة دمشق في قبضة أجهزة وزارة الداخلية، كما كان عليه الأمر قبل بدء الأحداث عام 2011. لكن إذا ابتعدت قليلاً عن قلب العاصمة، حتى منطقة السيدة زينب مثلاً، يختلف المشهد، حيث ستكون تلك المناطق إيرانية السيادة.

وهكذا، وفي أحسن الأحوال، لا يبدو أن الأسد الابن سيكون قادراً على تكرار مسار والده في تقليم مظاهر الفشل في الدولة السورية. وفي أقصى ما يستطيع تحقيقه، ستبقى هناك مساحات واسعة من التراب الخاضع نظرياً له، ليست ضمن نطاق سلطته العملية. ستكون تلك المناطق خاصة لحليفيه الإيراني والروسي. وستكون مرتعاً لمليشياتهم، ولإدارة خاصة تتبع لهم.

لا يبدو أن الأسد الابن سينجح في اختبار الدولة الفاشلة. تلك التي لا تستطيع ضبط سيطرتها على كامل ترابها. فمعظم ذلك التراب سيكون خاضعاً لسيادة خارجية. لكن علينا أن نقر أن ذلك آخر همّ الأسد الابن. فهو يكفيه أن يلبي متطلبات نفاق الغرب أمام رأيه العام، عبر إظهار عاصمته، والمدن الكبرى في المنطقة الخاضعة لسيطرته، وقد خلت من مظاهر الفلتان، قدر المستطاع. وحتى هذا التحدي المتواضع، سيتطلب من الأسد تراكماً طويلاً من الجهود، التي لا تخلو من مخاطر.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى