صفحات سوريةهوشنك بروكا

الأسد والقذافي: نحويات ومحويات


هوشنك بروكا

خرج علينا الرئيس السوري بشار الأسد، أمس، كعادته في صناعة النحويات والمحويات، وما بينهما من “تفلسفٍ ممل”، وعنادٍ في عنادٍ، بخطابٍ آخر “جديد قديم”، هو الرابع من نوعه، منذ اشتعال الثورة السورية في الخامس عشر من آذار الماضي.

الأسد، عاد وكررّ علينا مجدداً خطة “إصلاحاته” القديمة في مجملها، لا بل كلها، التي بدأ بها منذ الأول من حكمه(نظرياً بالطبع دون أية ترجمة حقيقية ممكنة إلى أفعال)، كما يؤكد على ذلك دائماً، فبشّر السوريين، بقرب صدور قانونٍ للإعلام، وآخرٍ للأحزاب، وإجراء انتخاباتٍ محلية وبرلمانية، وسوى ذلك من “البشائر المؤجلة” الكثيرة، التي اعتادها السوريون من رئيسهم، المتمسك في جلّ خطاباته، ودائماً، بمقولته المشهورة: “نحن نريد أن نسرع لا أن نتسرّع”.

لن نسأل الرئيس بالطبع، كما يعرف كلّ السوريين والعالم من حولهم، كم كانت سرعته وتسارعه سنة 2000، حين قام بتعديل(لا بل تفصيل) المادة 80 من الدستور، ليصبح السن القانوني للمرشح لمنصب رئيس الجمهورية 34 عاماً(على مقاس عمره آنذاك، عند تسلمه الرئاسة خلفاً لوالده)، بدلاً من 40 عاماً، كما كان الدستور ناصّاً عليه.

وعلى ذات السرعة والتسارع، أصبح الرئيس، بجرّة قلمٍ معدّل، قائداً(فريقاً) عاماً للقوات المسلحة(وهو الطبيب القادم من مهنةٌ مدنية جداً، والذي لم يدخل، حتى تاريخه، كليةً عسكرية)، وأميناً قطرياً لحزب البعث الحاكم.

هكذا بسرعة فوق عادية، وتسارعٍ فاق كل الممكنات وكلّ ما حولها من سياسة، أصبح الفوق في كل شيء، وفوق كلّ شيء.

في كلّ هذه الترقيات والترفيعات والمناصب التي اعتلاها الرئيس، حسب دستورٍ مفصّل، شاء له أن يكون فكان، لم يتذكّر الرئيس في حينه، أنّ هناك شعبٌ لا يريده. الآن فقط، كشف الرئيس وتذكّر، أنّ هناك “شعبٌ سوري عظيم”، وأنّ هناك ضرورة تاريخية لتلبية مطالبه المشروعة، وسوى ذلك من الضرورات، التي فرضها أهل الثورة السورية على نظامه، داخلاً وخارجاً.

الأسد، لم يأتِ كالعادة، في خطابه الأخير(مقابلته مع التلفزيون الرسمي السوري)، بأيّ جديدٍ يمكنه إخراج نظامه من أزمته الراهنة. هو، حاول قدر ما استطاع إليه سبيلاً، الإبتعاد كلياً عمّا آل إليه الداخل السوري المأزوم أصلاً، جرّاء ركوب نظامه الحل الأمني، كحلّ أوحد، للخروج من الأزمة الراهنة.

هو، لم يحدثنا عن إرهاب الشبيحة ضد المتظاهرين المدنيين، ولا عن الدبابات التي تقصف المدن السورية منذ خمسة أشهر.

كما لم يتطرق الرئيس لا من بعيد ولا من قريب، عن تداعيات حلول نظامه الأمنية جداً، والتي تركت وراءها حتى الآن، أكثر من 3000 قتيلٍ، وأضعافهم من الجرحى والمفقودين، إضافةً إلى أكثر من 20 ألف معتقل. فقط لأن هؤلاء العزّل خرجوا إلى الشارع، رافعين شعار: “الشعب يريد إسقاط النظام”!

والأنكى أنّ الرئيس تباهى مجدداً ب”نجاعة” الحل الأمني وعصا نظامه الغليظة، معتبراً كل ما جرى ويجري في سوريا من قمع وإرهابٍ منظمٍ للدولة، “حفاظاً على الأمن”، قائلاً بثقة غير عادية: “لا يوجد شيء إسمه خيار أو حلّ أمني، وإنما يوجد فقط حلّ سياسي..وحفاظ على الأمن”.

إذا كان كلّ ما جرى ويجري حتى الآن في سوريا، “حلاً سياسياً وحفاظاً على الأمن”، على حدّ قول الرئيس، فما هو الحل الأمني الذي لم يركبه النظام بعد؟

الأسد، أراد في خطابه هذا، توجيه أكثر من رسالة “تهديدية”، إلى الداخل والخارج.

لعل اعتباره لكلّ هذا الإرهاب الأمني المنظّم من قبل أجهزة نظامه، ضد الشعب السوري المنتفض، في كونه طريقاً ناجعاً إلى السياسة، أو مجرد “حفاظ ضروري على الأمن”، يعني أن الإرهاب، وفقاً ل”نحو”ه السياسي،”ضرورة لا بدّ منها”.

ف”حتى الدول التي تذهب بجيوشها تذهب من أجل هدف سياسي وليس من أجل هدف عسكري”، على حدّ “نحو” الرئيس.

غاية الرئيس الماكيافيلية، إذن، في أن يبقى رئيساً لسوريا إلى الأبد، بإعتبارها “سياسةً” بالطبع، تبرر وسائل نظامه وشبيحته وجيشه وأجهزته الأمنية، في قمع الشعب وإرهابه وإعدامه وإعتقاله، وقطع أوصاله إرباً إرباً.

فوسائل الرئيس وأجهزة نظامه القمعية وإرهابها وقتلها وتعذيبها للشعب السوري، وتنكيلها به شرّ تنكيل، تبقى وفقاً ل”نحوه” مبررة جداً، طالما أنه يسعى من خلالها إلى هدف “سياسي بحت”، بأن يبقى رئيساً أبدياً لسوريا: الله..هو..سوريا وبس!

قالها القذافي، الذي سبقه في سقوطه “الأخضر” الأخير، من قبل، بأنه “سيطهّر ليبيا من الجرذان الإرهابية، من الصحرا للصحرا، زنقة زنقة، بيت بيت، دار دار، فرد فرد”. الأسد يحاول عبر خطاباته المكرورة، إسماع العالم الإسطونة القذافية ذاتها، مع قليل من “البهارات السياسية”.

هو، في عناده على أنه “الرئيس الطبيب”، فيما الشعب السوري الثائر منذ أكثر من خمسة أشهر، ليس سوى مجرد “جراثيم إرهابية تريد تحويل سوريا إلى إمارات سلفية” يجب إبادتها، مثله مثل القذافي، يهدد ويتوعّد بالمزيد من التصعيد في الداخل والخارج، ويرفض تلقيّ أيّ درسٍ من أيّ أحدٍ كان. أمّا حجته في ذلك فهي، لأنه رئيسٌ من الداخل “اختاره” الشعب و”أراده”. فهو(بعكس أخوانه من الرؤساء المعيّنين من الخارج) من الشعب إلى الشعب، وهو الوطن وهو القائد وهو كلّ سوريا.

في ردّه العنيد، على دعوة أميركا وحلفائها الأوروبيين له بالتنحي، يقول الأسد بأنّ كلاماً كهذا لا يعنيه بالمرة، طالما يعتبر نفسه ككل أخوانه من الرؤساء العرب المخلوعين من قبل، بأن “المنصب لا يعنيه”. ألم يقل القذافي وأخوانه السابقين مبارك وزين العابدين، ذات الكلام، في كونهم رؤساء “مجاهدين”، فوق المناصب والكراسي، وضحوا بالغالي والنفيس لأجل الوطن؟

الأسد رفض الطلب الغربي بالتنحي، جملةً وتفصيلاً، لأنه “رئيس لم تأت به الولايات المتحدة ولم يأت به الغرب..أتى به الشعب السوري”. فكلام كهذا في التنحي، حسب “نحو” الرئيس، “لا يقال ل(رئيس) شعبٍ يرفض المندوب السامي أن يكون موجوداً أيا كان هذا المندوب السامي.. ويقف مع المقاومة كمبدأ من مبادئه وليس كمبدأ من مبادئء دولته”.

وهذا هو الفرق، على حدّ اعتقاده، بينه كرئيس من الشعب وإليه، وبين رؤساء آخرين “صنعوا في أمريكا”.

لهذا لا يخفي الرئيس الأسد سرّاً حين يرّد على دعوة الغرب هذه، بردٍّ تصعيدي أقوى، وفي أكثر من موضع، وعلى أكثر من مستوى، بقوله: “إذا كنتم ستذهبون بعيداً في سياساتكم فنحن جاهزون للذهاب أبعد”.

الرسالة التي يريد الأسد إيصالها إلى أميركا وأوروبا وكلّ المجتمع الدولي من حولهما، فيها أكثر من تحدٍّ وأكثر من عنادٍ، و”ركوب للرأس” على حدّ قول المثل.

فالأسد، لا يهمه دعوات الغرب إليه بالتنحي وخلافه، ولا يهمه أيّ قرار يمكن استصداره من مجلس الأمن ضد نظامه، ولا يهمه أيّ خارج يتدخل في داخله.

الأسد مارس في خطابه، “نحو النحو” حيناً، و”نحو المحو” أحياناً أخرى.

فهو، لم يكتفِ باللعب بالكلام وضده، كما هو معروف بصناعته لكلامٍ طويلٍ، فيه الكثير من “نحو النحو” والقليل من “نحو السياسة”، وإنما ذهب أبعد، في صناعته ل”نحو المحو” أيضاً.

الأسد، محى الغرب من نحوه، كما محى وزير خارجيته وليد المعلم من قبل، أوروبا من على الخريطة. فبلاد الله واسعة، طالما هناك “شرقٌ ممتد” يمكن التوجه إليه، كما يقول.

ومحى “مجلس الأمن” وما حوله من منظومة المجتمع الأممي، وما قد تصدر عنه قرارات لاحقة بشأن الأزمة السورية. فالعالم لن يتحمّل تداعيات هكذا قرارات أو تهديدات، لأسباب تتعلق ب”موقع سوريا الجيوسياسي وإمكاناتها الكبيرة التي لايعرف العالم عنها إلا القليل”، كما قال.

ومحى كلّ خارجٍ تسوّل نفسه بالتدخل في الداخل السوري. فالخارج لا شيء، طالما أنّ الداخل الذي في قبضة الرئيس هو كلّ شيء.

ومحى كلّ الخوف، وكلّ القلق، مما قد يصيب سوريا في قادمها. فأمنها بخير، وشعبها وعيشه وحريته وكرامته بخير، وسيادتها بخير، واقتصادها بأكثر من خير، على حدّ علم الرئيس.

في نهاية “محو”ه، هكذا طمأن الرئيس شعبه، بالتالي من “نحو”ه: “أقول بأنني مطمئن لأن الشعب السوري كان دائما يخرج أقوى وبشكل طبيعي. هذه كأي أزمة سوف تعطيه المزيد من القوة.. ولذلك أنا لا أشعر بالقلق ولا أدعو أحداً للقلق وأطمئن القلقين”.

إذن ما يجري في سوريا، ما هي في “نحو” الرئيس بالطبع، سوى “سحابة صيف” ستمضي، ليمضي معها السوريون إلى “سوريا أقوى” في ظلّ قيادته.

بالأمس محى القذافي كلّ ليبيا، ومحى كلّ شعبه، وكلّ العالم من حوله، في نحوه، وسقط اليوم في المحو، لتصعد ليبيا.

اليوم، يكرر الأسد، علينا في سوريا، وعلى شعبه وثورته الداخلة في شهرها السادس، على مرأى العالم وسمعه، المحو ذاته، بالنحو ذاته.

كثيرون(وأولهم الرئيس الأسد) عوّلوا على “يأس” الناتو في ليبيا، الأمر الذي سيؤدي بشكل مباشر إلى تجنب أيّ تدخل مماثل محتمل في سوريا.

اليوم سقط القذافي في محوياته، وانمحى نظامه، أو يكاد، وليبيا صعدت.

فهل سيمهد سقوط القذافي في محوه الأخير، سقوطاً لاحقاً للأسد في المحو ذاته؟

ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى