صفحات مميزةميشيل كيلو

الأسد يبدِّد الأوراق.. بخياراته القاتلة


ميشيل كيلو

من «مآثر» الأسد الإبن أنه انقلب على المعادلات التي جاءت بنظام والده الراحل إلى الحكم العام 1970 .

كان الأب يعيش على معادلة تقول: لا تصطدم بالقوى الخارجية التي صنعت النظام الإقليمي بعد هزيمة العام 1967 عامة و1970 خاصة، وقامت بحماية حكوماته وفي المقدمة منها حكمك الخاص، ولا تغير شيئاً في الداخل كي لا ينهار البناء الذي أقمته ويمكن لأي تبدل أن يطيح به أو يفككه، مرة واحدة أو بالتدريج.

ومع ان الأسد الإبن وصل الى الحكم بدعم من الجهات الدولية والخارجية التي أتت بوالده إليه، بدلالة تصريحين للرئيس المصري السابق حسني مبارك أدلى بهما عقب توليه مقاليد الرئاسة في اعقاب مسرحية هزلية قدر ما هي تافهة في ما يسميه النظام «مجلس الشعب»، أبدى في أولهما قلقه على سوريا وفي ثانيهما اطمئنانه إلى حكم الرئيس الجديد، بعد زيارة وزيرة الخارجية الأميركية مادلين اولبرايت إلى دمشق وإعلان رضاها عن وراثة الولد لأبيه، فإن الرئيس الجديد ما لبث ان ارتكب غلطتين لامه عليهما عبد الحليم خدام في تصريحاته الأولى التي اعلنت انشقاقه عن النظام هما: اولاً: الاصطدام بالنظام الدولي، وتحديداً منه الغربي، الذي بارك وشجع ما سمي بـ«الحركة التصحيحية» العام 1970 وضمن النظام الإقليمي بعد كارثة حزيران، وما كان يمكن أن تفضي إليه من انهيار سريع في بلدان عربية عديدة. وثانياً: الامتناع عن القيام بإصلاحات داخلية كان الأب ينوي إجراءها، على ذمة خدام.

هاتان الغلطتان كانتا الخطيئة الكبيرة الأولى التي أوقع الأسد الإبن نفسه ونظامه فيها، ذلك أنه رفض ما كانت «لجان إحياء المجتمع المدني» قد اقترحته عليه من موازنة الحضور الأميركي في المنطقة، بتغيير يصلح أمور السوريين ويضعهم كمجتمع تصالح مع نظامه في كفة ميزان التوازن الأخرى، المقابلة لكفته الأميركية، كي تتم عودة المجتمع إلى السياسة وعودة السياسة إلى المجتمع لأول مرة منذ الثامن من آذار العام 1963، وتواجه سوريا العالم وهي موحدة. رفض الرئيس هذه الرؤية الوطنية واستعاض عنها بتحالف مع إيران فجعلها ضامن أمنه وبقائه، وحمل سوريا المسؤولية أمام العالم عن مشكلات إيرانية كثيرة، لا علاقة لها بها، منها ملف طهران النووي، وما ترتب عليه من صراع دولي مع إيران، ومنها مواقف عصفت بالمنطقة عموماً وسوريا خصوصاً، التي شرع رئيسها يتحدث لغة تعلمها من احمدي نجاد، تقول إن الغرب كان دوماً ضد العرب، مع أن حزبه كان قد وعد الشعب عند بدء الانقلاب البعثي بإقامة نموذج من البناء غربي التوجه والمضمون فيها، فخالف بقوله معنى وعد حزبه وهويته التاريخية من جهة، وأحدث بلبلة في السلطة، طاولت مواقفها التي بدت وكأنها لم تعد منسجمة، وناقض الواقع من جهة أخرى، ليس فقط لأن سوريا ليست جمهورية إسلامية، بل لأن علاقاتها مع إيران أرغمتها على إدارة ظهرها للعرب، ثم على وضع نفسها في مواجهتهم. وقد فشلت إيران في كسب أية دولة عربية، باستثناء نظام الأسد، الذي زاود دوماً على الجميع في العروبة، مما أضاف إلى أعباء دمشق ثقلا إضافياً ارهق شعبها وجعله يشعر بالنفور من سياسة رئيسه، خاصة أنه بدد ما كان باقياً من اوراق النظام الداخلية عبر خيارات اقتصادية دمرت الطبقة الفلاحية: حامل النظام الرئيس، الذي ما لبث ان انخرط في الثورة الشاملة التي يعيشها البلد منذ قرابة عامين، وشكل دخوله إليها تطوراً فائق الأهمية، وهو الذي يهدد جدياً وجود النظام واستمراره.

لا عجب أن النظام أساء لعب أوراقه الداخلية الكثيرة، التي تركها الأب للإبن، ولجأ إلى خيار أمني مبطل للسياسة بما هي توافق وحوار وحسن تدبير وإدارة. زج بروح السلطة، أي بأجهزتها القمعية وجيشها وما توفر لها من قوى شبه عسكرية، في معركة شاملة ضد الشعب، فكان من المحتم أن يكون عنفه غير مسبوق في تاريخ سوريا، وأن يعصف بالمجتمع والدولة إلى درجة تقويضهما. بينما قصر الأب العام 1982 حله الأمني العنيف على مدينة حماه، بينما نالت حلب منه قدر محدود نسبياً.

بالمقابل، ما أن ارتفعت المطالبة بشيء من الإصلاح في درعا، حتى أقصى الأبن أي جهد توفيقي داخلي، وانقض بكل ما توفر له من عنف على الشعب، محولاً سوريا إلى بلد منكوب، ومواطنيه إلى مشردين أو مقتولين أو جرحى أو ملاحقين أو مختفين أو معتقلين أو مفقودين، تعصف رياح الفتنة بأمنهم وسلامهم وتحصد يومياً أرواح المزيد منهم. لن اذكر في هذا السياق بما هو معروف حول العقد الاجتماعي الذي أسس الدولة الحديثة، ومضمونه الوحيد تخلي المواطن الفرد عن حقه في العنف لصالح الدولة، على أن تكفل أمنه وتحتكر العنف وتخرجه من المجال العام، الذي لن يدار بعدئذ بغير وسائل السياسة: السلمية والتوافقية. هنا، في المثال السلطوي السوري، حل العنف محل السياسة، واستبعدها كأداة لتسوية النزاع الداخلي، وحول أحد مبادئها الرئيسة، الذي هو الحوار، إلى وسيلة لاستدراج المعارضة إلى مواقع تغطي منه سياساته الأمنية، وتنحاز إلى حله الأمني، الذي سبب شرخاً واسعاً وعميقاً بين الحاكمين والمحكومين، من دون أن ينجح في حماية السلطة، التي تتعرض للتفتت ويتقلص انتشار سيطرتها على الوطن.

بعد تبديد ورقة السياسة، بدد النظام ورقة الوحدة الوطنية، التي لعبها بطريقة تتناقض وطابعها ونزع عنها طابعها الجامع وحولها الى ورقة فتنة وطائفية، يستحيل ان ينجم عنها أي نجاح، سواء بالنسبة اليه، أم إلى كيان سوريا المجتمعي والسياسي، فكان استخدامها تبديداً لورقة من شأنها تقريب الأطراف المتصارعة، هي ورقة المصالحة الوطنية، التي غدت ضرباً من المحال، حتى إن انتصر هو وهزم الشعب.

وإنني لمندهش لموقف أنصار النظام الذين لا يطرحون على أنفسهم السؤال الجوهري جداً حول مستقبل العلاقة بينهم وبين من فتك بهم من مئات آلاف السوريين الذين سينتهي العنف بفقدهم أعداداً كبيرة جداً من أعزائهم ومعظم ممتلكاتهم، وبتعرض كتل هائلة منهم للتشرد داخل وطنهم وخارجه، بحيث لن يبقى بعد مرور العاصفة لغة حوار أو تعايش بينهم وبين غالبية مواطنيهم، وسيكون من العبث العمل على استرداد قبول بنات وأبناء المجتمع بمن قتلهم وأهلك الزرع والضرع في بلادهم.

ترى، إلى أية مدارس سيرسل رجال النظام أطفالهم؟ وفي أية مطاعم سيتناولون طعامهم؟ وأية أحياء سيسكنون؟ ومع من وعلى أية طرق سيسافرون؟ وفي اية دوائر حكومية سيعملون؟ وأية مصانع ومزارع سيديرون، وبأية لغة سيتحدثون مع العاملين معهم أو من يشاركونهم السكن والسفر والطعام والشراب؟ وفي أية مستشفيات سيتعالجون… الخ؟ من الذي سيجسر الهوة بين السلطة والناس، وكم سيستغرق ذلك، وكم ستكون تكلفته؟ لقد بدد النظام ورقة العيش المشترك مع شعبه وتلاعب بها داخل المجتمع، وخلق أساسا لأزمة لا نهاية لها، ستتفاقم بمرور الوقت إلى أن تنشب الثورة التالية، في حال سلمنا جدلا بأن الحالية لن تنجح، علماً بأن دلائل عديدة ومتراكمة تشير الى انه صار من المستحيل إنزال الهزيمة بها، في ظل خيار استراتيجي تبناه النظام ويطبقه يقول: «أحكمكم أو أقتلكم».

في هذا الوضع العصيب، الذي بدد النظام فيه اوراقه السياسية الداخلية الكثيرة، لا يجد اهل الحكم في سوريا ما يفعلونه للخروج من الازمة التي زجوا بأنفسهم فيها غير توسيعها داخلياً وخارجياً، ونقلها إلى دول الجوار، حيث يبدو مصمماً على تبديد أوراقه الخارجية، تحت شعار رئيس تمليه عليه مخاوفه يقول: «إن كنت سأذهب فلن يبقى أحد مكانه، وسيذهب الجميع معي».

دفع النظام بنفسه إلى مأزق لا مخرج له منه، يبدو أنه أخذ يعي عمقه وفداحة ما سيترتب عليه من نتائج قاتلة بالنسبة إليه، فاندفع إلى خيارات خارجية هوجاء عبر عنها الرئيس بشار الأسد في تصريحات متكررة تهدد بإشعال النار في المنطقة بأسرها، عبر نقل الصراع المسلح والعنيف إليها. هل يمتلك النظام الوسائل الكافية لتنفيذ خططه وتهديداته؟ هل يستطيع جيشه خوض حرب إقليمية أو بدء صراع ضد جيوش الدول المجاورة، وهو الذي عجز طيلة قرابة عامين عن قهر شعب كان أعزل عند بداية مظاهراته، ولا يمتلك اليوم غير أسلحة فردية خفيفة في معظم الحالات والمناطق؟ وهل ينفع التشبيح مع الجيران إن كان قد فشل ضد الأهل؟ وهل تعبر سياسة الهروب إلى الأمام عن القوة أم عن الحيرة والضعف؟ وهل هي سياسة الخيارات الواعية أم الهوجاء؟ وكم يقدر على الصمود في وجه جيوش تمتلك أسلحة ثقيلة وأسلحة، وجيش النظام المتعب والمنهك والمستنزف، سيكون من الصعب عليه تجميع قواته المنتشرة في كل مكان من سوريا، لأن ذلك يعني سقوط المناطق التي يحتلها في يد الثورة، ويصعب عليه في الوقت نفسه البقاء منتشراً حيث هو لأن ذلك يعني قيام جيوش البلدان المجاورة باجتياح سوريا من دون مقاومة؟ ثم من قال إن الحرب ستكون طويلة واستنزافية؟ وماذا سيحدث إن تنزه الجيش التركي إلى القرداحة واحتلها خلال ساعات قليلة؟

بدد الرئيس السوري ورجاله المقربون أوراقاً داخلية، وها هو يوشك أن يبدد أوراقاً هائلة الأهمية والفاعلية تركها لهم السياسي الأكبر في التاريخ السوري: والده الرئيس الراحل حافظ الأسد، باني النظام الذي يغتاله ابنه الآن بخياراته القاتلة، التي لم تفشل وحسب، وإنما ارتدت عليه وعلى نظامه.

كاتب سياسي ـ سوريا

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى