بكر صدقيصفحات سورية

الأسد يضرب في الريحانية

بكر صدقي

“أهلاً بكم في الشرق الأوسط!” هكذا علقت إحدى الصحف التركية، في مانشيت صفحتها الأولى، على تفجير السيارات المفخخة، في الحادي عشر من شهر أيار الجاري، في بلدة الريحانية قرب الحدود السورية. الهجوم الإرهابي الذي أدى إلى مقتل أكثر من خمسين شخصاً وجرح أكثر من مئة، هو أول حادث من نوعه في تاريخ تركيا الحديث.

وألقت أجهزة الأمن التركية القبض على تسعة أشخاص مشتبه بضلوعهم في التفجير، واتهمت الحكومة التركية نظام الأسد بالوقوف وراء الهجوم. في حين اتهمت المعارضة التركية الحكومة بمسؤوليتها غير المباشرة عن الحادث، بسبب سياستها السورية وإجراءاتها الأمنية الهشة على الحدود المفتوحة مع سوريا. أما المعارضة اليسارية الأكثر ديماغوجية المتمثلة في حزب العمال التركي ذي التوجهات الماوية، فقد حرض ضد اللاجئين السوريين في الريحانية وأنطاكية الذين طالما اتهمهم بأنهم “سلفيين جهاديين من منظمة القاعدة يغتصبون النساء ويذبحون الأطفال خدمةً للمؤامرة الامبريالية – الصهيونية على نظام الأسد المقاوم” حسب زعمها. فخرجت مظاهرات ضد حكومة أردوغان وضد السوريين في البلدة الذين تعرضوا لاعتداءات وتحرشات، فأصبحوا محبوسين في بيوتهم خشية التعرض لاعتداءات جديدة.

لكن الحكومة التركية تخشى من تداعيات أخطر على أمنها الوطني ونسيجها الاجتماعي، بالنظر إلى الانقسام المذهبي بين سنة أتراك متعاطفين مع ثورة الشعب السوري وعلويين أتراك وعرب ينافحون عن نظام الأسد. كيف حدث هذا الشرخ؟

الواقع أنه لا شيء يحتم تعاطف علويي تركيا مع نظام الأسد، خاصةً وأن مذهبهم الديني يختلف عن مذهب علويي سوريا الذين تنحدر منهم السلالة الحاكمة في سوريا والمفاصل الرئيسية لأجهزة المخابرات وقادة فرق الجيش. على العكس من ذلك كانت “عروبة” نظام الأسد عامل تنفير لعموم الأتراك – والعلويين ضمناً – لا عامل جذب. أضف إلى ذلك العلاقة المميزة التي ربطت حكومة أردوغان بدكتاتور دمشق طيلة عقد سبق الثورة السورية، في إطار انفتاح تركي على العالمين العربي والإسلامي بعد نحو قرن من إدارة الظهر لتركة الامبراطورية العثمانية. هذا الانفتاح والخلفية الإسلامية لحزب العدالة والتنمية الحاكم، طالما أثارا حفيظة التيار العلماني والمجتمع العلوي المتوجس من صعود الإسلام السني.

لكن الثورة الشعبية في سوريا التي اندلعت ضد نظام الأسد سرعان ما قلبت المواقع، فانتقلت الحكومة إلى احتضان المعارضة السورية وتقديم التسهيلات اللوجستية للجيش السوري الحر وغض النظر عن تسلل السلاح والمقاتلين الأجانب (الجهاديين) عبر الحدود المشتركة. في حين برز تيار علماني – يساري – علوي مناهض لسياسة الحكومة وللثورة السورية معاً، تردد بعض أطره رواية نظام الأسد للحدث السوري، وتتبنى أكاذيب آلته الإعلامية، بل تساهم في فبركة بعضها. ويعود ذلك إلى جذر تاريخي يمتد إلى مطلع ثمانينات القرن الماضي حين فر آلاف الشبان من المنظمات اليسارية التركية إلى سوريا هرباً من بطش الحكم العسكري لنظام كنعان إيفرين الانقلابي. كان أكثر هؤلاء الشبان من طلبة الجامعات المتأثرين بالفكر الماركسي في بيئة الحرب الباردة، وانخرط بعضهم في صراع مسلح مع التيار اليميني القومي المتشدد في النصف الثاني من السبعينات. فشكل الانقلاب العسكري الذي قاده رئيس هيئة الأركان الجنرال كنعان إيفرين ضربة قصمت ظهر اليسار التركي الصاعد، ليكتمل اندحاره الإيديولوجي بعد سنوات قليلة مع انهيار النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي ودول شرق أوروبا الدائرة في فلكه.

كان نظام حافظ الأسد، في عام انقلاب كنعان إيفرين نفسه، منهمكاً في القضاء على التمرد المسلح لحركة الإخوان المسلمين السوريين في مدينة حماة ومدن سورية أخرى. فكان تسلل الماركسيين الأتراك وكوادر حزب العمال الكردستاني بمثابة هدية ثمينة وقعت في يد أجهزة مخابرات الأسد التي استثمرتهم في حروبها القذرة ضد الحكومة التركية. وكانت ماركسية اليساريين والأوجالانيين معاً والانتماء العلوي لقسم منهم من العوامل التي سهلت التعاون مع نظام كان في مواجهة ساخنة مع التيار الإسلامي الإخواني في سوريا، ومع نظام “كامب ديفيد” في مصر، في وقت واجهت قواته العسكرية في لبنان هزيمة كبيرة أمام تقدم الجيش الإسرائيلي الذي اجتاح جنوب لبنان وصولاً إلى احتلال بيروت.

هذه العلاقات الوثيقة مع فلول اليسار التركي وحزب العمال الكردستاني، استثمرها نظام بشار الأسد في صراعه الجديد ضد حليفه السابق أردوغان، رداً على احتضانه للمعارضة السورية المدنية والعسكرية العاملة على الإطاحة به منذ ربيع العام 2011. فلم يكن بروز اسم اليساري التركي معراج أورال، في الأسبوعين الأخيرين، مفاجئاً. هذا اليساري العلوي الذي قاد مجموعة من الشبيحة باسم “المقاومة السورية” في المجزرة الطائفية الرهيبة بحق سكان قريتي البيضا والنبعة ومدينة بانياس منذ مطلع شهر أيار الحالي، ستتهمه السلطات التركية أيضاً بتنظيم الهجوم بالسيارات المفخخة في بلدة الريحانية، بالتنسيق مع أجهزة مخابرات الأسد الخبيرة في هذا النوع من التفجيرات في لبنان والعراق والمدن السورية نفسها. والتيارات اليسارية التركية القريبة من معراج أورال فكرياً، هي التي ستحرض سكان البلدة ضد اللاجئين السوريين.

للمرة الأولى منذ استضافة تركيا للاجئين السوريين الفارين من بطش قوات الأسد، يرتفع صوت وزير خارجيتها أحمد داوود أوغلو مطالباً الدول الأوروبية باستقبال قسم من اللاجئين السوريين. فتفجيرات الريحانية دقت ناقوس الخطر من فتنة داخلية تركية – تركية، تنفيذاً لتهديدات الأسد بتصدير أزمته إلى دول الجوار. وقد رأى الأتراك ما يمكن لأذرع هذا النظام الدموي فعله في كل من لبنان والعراق.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى