صفحات الناسنائل حريري

الأسعار في سوريا… نار/ نائل حريري

نائل حريري

لم تكن زيادة الرواتب التي أقرتها الحكومة السورية أخيراً أكثر من حركة “سياسية معنوية” لردم جزء من هوة ضخمة تفصل السلطات عن الشعب السوري. إحدى الصفحات “المؤيدة” تختصر هذه الرؤية في كلماتٍ موجزة: “هل رأيتم دولة تتعرض للحصار وتحارب من قبل غالبية دول العالم اقتصادياً وسياسياً وتقوم بزيادة للرواتب؟!”.

أما تأثير زيادة الرواتب نفسها فتفاصيل هامشية غير مهمة. لا بأس أن يعتبرها وزير الاقتصاد السابق نضال الشعار “خطوة متأخرة للغاية” ويعلن النائب الاقتصادي الحالي لرئاسة الحكومة أنها مجرد “استدراك ناقص” لأزمة اقتصادية فادحة. يمكن أن ينتقدها الباحثون الاقتصاديون والصحافيون والوزراء كذلك، ما يهمّ هو أنها زيادة وكفى بالنسبة للشعب السوري، بينما هي خطوة إعادة توزيع للمصروفات من وجهة نظر الدولة. بمعنى آخر ثمة دائماً جانب أسود للمسألة: رفع الدعم جزئياً عن إحدى السلع، والسماح بالمزيد من انفلات أسعار السوق الاستهلاكية. تتكرر هذه الإجراءات في كل مرة منذ أكثر من 12 عاماً شهدت حكم الأسد الإبن وتوجهه نحو سياسة (“السوق الاجتماعية”) التي أعلن عبرها انقلابه على نهج الأب الاقتصادي “الاشتراكي”. الدولة بدأت تتنصل من مسؤولياتها في وقت مبكر، وضاق حيتان السوق المتصلون بالسلطة ذرعاً باستراتيجيات الدعم التي أوجدها الأسد الأب. شيئاً فشيئاً بدأ رفع الدعم عن المحروقات والطحين والأساسيات منذ فترةٍ سبقت بدايات الثورة السورية بكثير، ثم اتجهت قطاعات الدولة الخدمية إلى الربحية، فتضاعفت الرسوم في أغلب مؤسسات الدولة أضعافاً في عشر سنوات. كلّ ما أفرزته الأحداث الجديدة هو تسريع الاستراتيجية المتبعة، والتي كان آخرها مضاعفة رسوم جوازات السفر وبدلات الخدمة العسكرية ثلاثة أضعاف، بالإضافة إلى الاستمرار في سياسة رفع الدعم التدريجية عن المحروقات والمخابز.

في تقرير حديث لصحيفة “تشرين” الحكومية نقرأ: “زيادة الرواتب تعدّ في هذه الظروف الاستثنائية مؤشراً فعلياً إلى قوة الاقتصاد الوطني، لكن بالمقابل يصعب تجاهل تأثيرها السلبي على الأسواق بعد تزامنها مع ارتفاع سعر المازوت من 35 إلى 60 ليرة”. لكنّ المشكلة لا تقتصر على المحروقات فحسب. على مستوى المواد الاستهلاكية ارتفعت الأسعار إثر زيادة الرواتب مباشرةً بما يعادل 10-20%. فمثلاً ارتفع سعر كيلو السكر من 90 إلى 110- 120 ليرة والأرز من 120 إلى 140-160 ليرة وسعر الـ750 غراماً من الحليب المجفف وصل إلى 900 ليرة، فيما وصل ليتر الزيت النباتي إلى 450 ليرة وكيلو السمن الحيواني إلى 700 ليرة. كذلك سجلت نسب مشابهة لارتفاع أسعار الخضر والفاكهة.

وبرغم أن الزيادة الأخيرة لتضخم السوق الاستهلاكي لم تصل إلى نسبة زيادة الرواتب التي تراوحت بين 25-40% فإنّ الزيادة المفترضة أتت أساساً بعد تضخم اقتصادي مريع وصل إلى 350% حسب تقارير المركز السوري للإحصاء. ويفترض عدد من الباحثين الاقتصاديين أن هذه الزيادة آيلة للتهالك في مدى أشهر بسيطة نظراً للانهيار المستمر لليرة السورية (والتي انهارت منذ قرار زيادة الرواتب بنسبة 20% خلال أيام).

أستاذ الاقتصاد بجامعة دمشق د. مظهر يوسف صرّح أن الحكومة اعتمدت سياسة النأي بالنفس منذ بداية الأزمة، وأنّها سمحت للتجار بوضع الأسعار التي تناسبهم مقابل الاستمرار بتأمين المواد الضرورية. ومن هنا فإن “الحكومة تتحمل مسؤولية مباشرة عن الغلاء”. وفي الوقت الذي أعلن فيه مدير حماية المستهلك في وزارة التجارة الداخلية قناص مرعي “ضرورة تشديد الرقابة على الأسواق وتدقيق الأسعار المعلنة”، لا يبدو أن هذا سيحصل على الإطلاق، فالسوق المشتعل منفلت من أي رقابة، والدولة غير معنية بأي إجراءات في ظل التوتر الأمني داخل المدن وخارجها.

 اليوم تصبّ مسيرة الفشل المتكرّر في إدارة ملف سعر الصرف وملف دعم المشتقات النفطية وغيرها من السلع لتعلن نهاية النفق الاقتصادي المظلم في سوريا دون أي أضواء في آخره. ولا يعود بالإمكان إلا إطلاق بعض التصريحات الإعلامية الفارغة من المضمون كتصريح رئيس الحكومة وائل الحلقي أن “زيادة الرواتب تأكيد على متانة الاقتصاد السوري”، أو تصريح مدير حماية المستهلك عن “أهمية تفعيل مبدأ المقاطعة بشكل جماعي عبر تنظيم حملة إعلامية كالإعلان أن سعر البندورة 60 ليرة ورفض شرائها بسعر أعلى بشكل يجبر البائع على خفض السعر”.

تقوم الحكومة اليوم بترقيع خطتها الاقتصادية عبر “طبخة اقتصادية” من زيادة الرواتب والتذرع بتمويلها من خلال رفع أسعار المحروقات بدلاً من مكافحة التهرب الضريبي والفساد. يعني ذلك أنّ الزيادة ستكون مبرّراً جاهزاً لدى بعض حيتان التجارة لرفع الأسعار، بينما كان الأجدى التوجه نحو الرقابة على الأسواق وضبط الأسعار بدلاً من رفع الأجور لمصلحة إسقاط الدعم واستمرار الفوضى.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى