صفحات سوريةميشيل كيلو

الأسلمة والتطييف والعسكرة والحسابات الخاطئة


ميشيل كيلو

على رغم ما يحكى عن رهان اميركي على وصول الإسلاميين إلى الحكم، لقطع الطريق على تنظيمات الإسلام المتطرفة، وخاصة منها تنظيم «القاعدة»، أو لنقل المعركة ضد الإسلاميين إلى داخل صفوفهم وتحويلها إلى معركة طائفية أو مذهبية بينهم، ورغم ما يقال عن دور الإسلاميين في الربيع العربي، فإن وصولهم إلى الحكم ليس مؤكداً في معظم البلدان التي تعيش هذا الربيع، بدلالة الوقائع التي يمكن ملاحظتها في تونس ومصر، حيث يتخوف «الاخوان المسلمون» من الانفراد بالسلطة رغم ما حصلوا فيه من مقاعد برلمانية تعطيهم حق الانفراد بها، ويفضلون التعاون مع غيرهم خشية ان يستأثروا بالأمر فيتبين انهم لا يملكون برنامجا لمعالجة المشكلات الكثيرة التي وعدوا بالتصدي لحلها، فيكون عندئذ سقوطهم الكبير، الذي يستكمل سقوط الأحزاب القومية والاشتراكية.

في ليبيا، التي قاد الإسلاميون القسم الدامي والمسلح من ثورتها، خذل المجتمع الإسلاميين انتخابيا، ومنح اغلبية برلمانية لا شك فيها بلغت قرابة نصف اعضاء البرلمان إلى تجمع وطني ليبرالي/ ديموقراطي غير إسلامي، حملة السلاح الذين اقترفوا بواسطته قدرا من الاخطاء تكفل بإبعاد المجتمع الليبي المؤمن عنهم إلى درجة تشبه الطلاق السياسي البائن. بينما نجح مرسي في مصر بأصوات غير الإسلاميين، رغم ان حزبه نال في الانتخابات البرلمان قرابة خمسين بالمائة من أصوات الناخبين، لكن هذه النسبة انخفضت بسرعة، لان المصريين اقتنعوا ان الإسلاميين طلاب سلطة وليسوا اصحاب مبادئ، وانهم نكثوا بعهودهم ووعودهم خلال الثورة، التي التحقوا بها متأخرين ثم اختطفوها واستخدموا تأييد قطاعات مؤمنة من الشعب لهم وكأنه تفويض مطلق لهم لا يقبل النقض، فكانت النتيجة انفكاك جزء كبير منه عنهم، جعل مرسي يتقاسم تقريبا أصوات المصريين مع مرشح من «الفلول»، كانت الثورة قد أسقطته بصورة مشينة قبل أشهر قليلة. ولولا التخلي الواسع عن الإسلاميين، وحاجة مرسي إلى أصوات غيرهم من اجل قهر مرشح «الفلول»، لما اقسم أغلظ الإيمان وفي خطب علنية بأنه لن يبقى في حزب «الاخوان»ن وسيعين رئيس وزارة من غير صفوفهم، وسينتهج سياسة لن تكون من رسمهم.

لماذا يخاف الإسلاميون الحكم بمفردهم، ويبتعد المجتمع عنهم بسرعة لم تكن تخطر ببال أحد وخلال فترة قياسية في قصرها؟ لو كنت إسلاميا لشغلت نفسي بالإجابة على هذا السؤال، ولفعلت ذلك في إطار يتخطى مسبقاتي وإحكامي الحزبية الضيقة والخاصة، ولبحثت عن الرد بدلالة المجتمع وانطلاقا من أولويته وليس بدلالة وأولوية حزبي، الذي يسمي نفسه «جماعة»، ويريد ايهام الناس انها جماعة مؤمنة تمثل مجتمع المسلمين في صورته الحقيقية، التي تشبه مجتمع المسلمين الأوائل حول الرسول الأعظم.

إن أول ما سيجده الباحث ان الجماعة ليست المجتمع، والحزب ليس جماعة تتمثل فيها وحدة بشرية مغلقة تعيش من تغذية ذاتية مادية ومعنوية خاصة بها، وفق آليات طورتها بنفسها. كي يقلع باحثنا عن مطابقة أو مماهاة الجماعة مع المجتمع، لا بد أن يتخلى عن فكرة مسبقة هي في حقيقتها مسلمة تقوم عليها بنية عقلها العام، هي ان كل مسلم هو منها بالضرورة، لأنه إسلامي مثلها بالحتم والجبر، بالنظر إلى كونه يشاركها فطرة فطره الله عليها، سابقة لتخلقه انسانا، سواء أراد ذلك ام لم يرده. هنا، في هذا الخلط يبدأ الخطأ الأكبر، الذي لن تكون له أية نتيجة سياسية اخرى غير إقامة نظام تتولى فيه قلة اتخاذ القرار عن كثرة لا يحق لها ان تكون صاحبة رأي بسبب تماهيها الإلزامي مع الحزب كجماعة، هو نظام شمولي من نمط ايديولوجي مضاعف: ديني ودنيوي، ينتجه استناده إلى خلفية مذهبية توحي لإتباعه بعصمة قيادته، التي ستقيم نمطا من الحكم يعطيها حق قيادة ليس فقط الدولة والمجتمع، بل كذلك الدين والدنيا. بهذا السند الشمولي الشامل يجعل من المحال تحديث الدولة بواسطة خطاب حدث توسع الجماعة به وعودها وتغلف تقليديتها بمصطلحات وألفاظ جديدة تبدو بعيدة عن مألوف لغتها التقليدية، يكثر فيها الكلام عن الإنسان وحقوقه، والمواطن وأولويته، ليخال قراء وثائق «الاخوان» انهم غادروا أرض الماضي التي وقفوا عليها دوما، ودخلوا إلى العصر وبارحوا الزمن الذي يقولون ان وعيهم المذهبي/ الديني أخذ فيه صيغتها النهائية: قبل ألف وخمسمئة عام.

كان ارسطو يقول إن التطور هو في جوهره تطور في الاشكال، لكنه كان يرى في الاشكال المضامين المنضوية في وحدة جدلية خاصة بهوية لا يمكن فصل غلافها عن محتواها او تجاهل ايا منهما أو العلاقات بينهما دون إلغاء وحدتهما وبالتالي إبطال هذه الهوية أو تغييرها. هنا، في حالتنا الإسلامية، يتم تحديث الألفاظ (الاشكال) اللغوية لإخفاء مضمون تقليدي وراء شكل مغاير له، فليس هناك اذن هوية او وحدة هوية، ويراد للإقناع ان يترتب على التباس يخفي اختلافهما، لكنه يوحي في الوقت نفسه بأنهما من طبيعة واحدة، بعد ان تحول المحتوى القديم إلى شكل حديث تجديدي وتغييري، يجب ان يثير لدى متلقيه انطباعا كاذبا بأنه اعلان توبة حقيقي تمارسه الجماعة، عسى ان ينسى من يتلقاه أن معناه التقليدي لم يتبدل، ويتوهم ان الجماعة قطعت أية آصرة مع إمكانية استعادته، وان المحتوى القديم غاب تماما عن الشكل الحديث فهو لن يستعيد بعد معناه الأصلي وهويته الحقيقية بما هو اولوية مطلقة بالمقارنة مع أي شأن دنيوي، يتحتم رؤية كل ما عداه انطلاقا منه وبدلالته. اليوم وهم تحديث، وغدا استعادة القديم وتجريد صريح ومعلن له من مضمونه الدلالي المخادع، على غرار ما فعلته الجماعة في مصر، حيث تحدثت عن الدولة المدنية والتزمت بإقامتها، لكنها أعلنت بمجرد ان سقط حسني مبارك ان مرجعيتها ستكون الشريعة، فالغت هوية الدولة المدنية والدولة ذاتها، لان الدولة لا يمكن ان تكون دينية، ولم تكن كذلك في زمن الرسول أو أي زمان أو مكان.

لم تكن طويلة الفترة الزمنية التي فصلت الوعود البراقة عن السياسات الواقعية المجافية لها، وأكدت ان التحديث الإسلامي، كي يستحق اسمه، يجب أن يتناول موضوعات التفكير ومضامينه وليس ألفاظه وكلماته. يبدو انه فات الإسلاميين ان وضع اليد على ثورة لم تكن من صنعهم، انخرطوا فيها متأخرين، لا يضعهم في مكان يرغم المجتمع على الانصياع لهم، بالجبر أو بالقبول. ولم يفهموا حقائق الثورات وجوانبها المغايرة لكل ما سبقها، وافترضوا انها ثورة إسلامية لان من قام بها مسلمون، ضمن فرضيتهم الخاطئة التي تجعل المسلم إسلاميا غصبا عنه، ولم يدركوا انها نشبت لتعبر عما بلغه المجتمع المدني من قوة، وارتقى إليه من سياسات حديثة تستند أساسا على فكرة محايثة لماهية الإنسان هي الحرية، التي لا تتعين بمواضعات حاملها المادية، بل يتعين هو بها كإنسان. فات الإسلاميين أيضاً ان الحرية ماهية الإنسان التي كانت وراء تبدل موقعه من العالم وموجوداته، وانها ملكته فكرا يستطيع اعادة انتاج هذا العالم كعالم خاص به كإنسان، هو عالم حديث ومتماه معه ويصعب انفكاكه عنه. هذه الواقعة الجديدة تفسر تحالف المجتمعين المدني/ الحديث والأهلي/ التقليدي في الثورة المجتمعية الراهنة في سوريا، وتبنيهما أفكاراً تنبثق من فكرة الحرية في ارتباطها بالإنسان والدولة، وتفسر ابتعاد المجتمع الأهلي عن ايديولوجياته التقليدية، المذهبية والعفوية، واستماتة السلطة لفك هذا التحالف بالعنف، عبر سحق القسم المدني من الحراك وتركيز قدر متعاظم من القتل المنظم على قسمه الأهلي، لإرغامه على العودة إلى تقليديته كحاضنة يحدد في هديها مواقفه ومطالبه، لرغبة السلطة في عودته إليها قبل ومن أجل هزيمته، سواء باسلمته ام بتطييفه ام بعسكرته ودفعه إلى عنف مضاد لعنفها، من الضروري ان تعمل المستحيل كي يفلت من اية رقابة سياسية ووطنية ويغدو أداة تدمر رهان المجتمع على الحرية والديموقراطية.

رسم النظام هذه الخطة، فساعده من يعترضون على جعل المواطنين ذواتا حرة ومتساوية على تحقيق ما رسمه: الأسلمة والتطييف والعسكرة وعزل المجتمع المدني عن حامل الحراك الأهلي، وإخراج القضية الوطنية من أيدي السوريين ووضعها في أيدي أجانب من جميع الأنواع: بدل ان يعيد هؤلاء المسألة إلى أصحابها، وضعوها بدورهم في يد أجهزة أمن ووزارات خارجية دول أجنبية لا يريد بعضها الخير لسوريا وشعبها، ويتفرج بعضها الآخر على مأساتها منذ عام ونصف العام، مكتفيا بإطلاق تصريحات حماسية ومتناقضة. هذا الشغل المتكامل قلب صراعا من أجل الحرية، طرفه الأول قطاعات واسعة جدا من الشعب السوري، وطرفه الثاني نظام الاستبداد الأسدي، إلى صراع طائفي أو مطيف، طرفاه قطاعات واسعة من السنة والعلويين، وقطاعات خائفة من الأقليات، إلى صراع بين استبداد قائم وآخر قادم: الأول قومي والثاني إسلامي.

ليس مجتمع سوريا على هذا القدر من السذاجة. انه لا ينقسم إلى مسلمين لا خيار لهم غير ان يكونوا إسلاميين بقضهم وقضيضهم من جهة، وأقليات تحتاج إلى الهداية والرشاد من جهة اخرى، وإلا فإلى إعادة تربية وتأهيل. وليست ثورة المجتمع السوري مذهبية او دينية. ولا تقتصر رهاناتها على الاختيار بين مرجعيات إلهية، بعضها صحيح، تتبناه الأغلبية، وبعضها الآخر زائف تعتنقه الأقليات. وليس السوريون مدعي ديموقراطية كاذبين ومؤيدي استبداد ديني مخلصين. وليسوا راغبين في الخروج من تحت الدلف القومي ليقفوا تحت مزراب مذهبي. ولا ينتظر الذين يقعدون اليوم في بيوتهم، وهم أغلبية الشعب الساحقة، سقوط النظام كي يمنحوا ثقتهم لاستبداد أكثر شمولية من استبداده، يتفوق كثيرا عليه بالنسبة إلى تأليه رموزه وقادته وخطابه.

لن يقبل الشعب السوري ان تسرق ثورة قام بها من اجل حرية ينالها في هذا العالم، ولن يقبل ان تنقلب إلى ثورة عبيد يريدون تحسين شروط حياتهم في العالم الآخر. ولن يكون الشعب الليبي أكثر نفورا من لصوص ثورته من السوريين، اذين نزلوا بالملايين إلى الشوارع، وجعلوها سلمية ومدنية، وحددوا لها هدفا هو الديموقراطية وحكم القانون، ورفعوا شعارات تتطابق تماما مع تلك التي صنعت العالم الحديث: العلماني وغير الديني، ولم ينسوا بعد ان من يزعمون تمثيل الشعب اليوم لم يكونوا موجودين أو معروفين أصلا عند بداية انتفاضة الحرية، وانها لم يعينهم ممثلين له، وانما عينتهم جهات أجنبية لا يعرفها أو يفوضها باختيار قادته نيابة عنه، ويرجح ان يقوم في أول فرصة بما قام به الليبيون: الانحياز إلى التيار الديموقراطي، الذي ناضل طيلة ثلاثين عاما بمفرده ضد نظام استبدادي كان الإسلاميون غائبين خلالها عن أي شيء له علاقة بالشعب والنضال، كما يظهر من تركيبتهم القيادية المكونة في أغلبيتها الساحقة من شيوخ وكبار سن ليس وراءهم قيادات شابة، في دليل على انقطاع علاقتهم بالشعب وغيابهم الكامل عنه وعن قضاياه ونضاله.

يصارع الإسلاميون اليوم على السلطة قدر ما يصارعون النظام، ويصارعون المعارضة قدر ما يصارعون السلطة القائمة. وهم يحرزون بالمال السياسي والحقن الإعلامي «نجاحات» ستثبت الأيام انها قبض ريح وعابرة، وان قصور منطلقاتهم وافتضاح الاعيبهم سيحولان دون توطنهم بعمق في الشعب. انهم لن يظفروا بما يعدون أنفسهم به من سلطة عندما سيسقط النظام ويبدأ صراع جديد على هوية سوريا، التي عرف مجتمعها دوما بانفتاحه على الآخر والمختلف، وبكرهه للانغلاق والجمود العقليين والمذهبيين.

كاتب سياسي ـ سوريا

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى