صفحات المستقبلمالك ونوس

الأسماك والمؤامرة الكونية/ مالك ونوس

 

 

أبى السوريون خلال السنوات الأربع الأخيرة، والتي أمضوها على درب الآلام الذاهب نحو المجهول، إلا أن يضيفوا إلى مأساتهم فصلاً جديداً وغريباً، يضاف إلى الفظائع والغرائب التي تصب فوق رؤوسهم، كل يوم. أرادوا لأسماك البحار أن تتشارك في لحومهم مع الرصاص والطائرات والبراميل المتفجرة وصواريخ الأرض أرض والسلاح الكيماوي.

وأن تضاف مأساة غرق أبنائهم، وضياعهم في مياه البحار، وقذف الأمواج جثثهم على الشواطئ، إلى قصص موتهم اليومي، وقصص نزوحهم عن منازلهم ومدنهم، ولجوئهم إلى دول الجوار وتشردهم في بقاع الأرض كلها. لتضاف هذه المآسي جميعها إلى ظلم العالم أجمع، وإغفاله قضيتهم، على الرغم من كل فصول المعاناة التي خبروها، وصنوف القهر التي عاشوها، والتي أصبحت على كل لسان، ونقلت عبر كل الإذاعات ومحطات التلفزة.

لن نضيف شيئاً إن سطرنا كلمات عن حوادث الغرق شبه اليومية لمهاجرين سوريين، هاربين من الموت، في البحر المتوسط، وهم في طريقهم من شواطئ مصر أو تونس أو ليبيا أو تركيا إلى شواطئ إيطاليا التي سبقتهم إليها أحلامهم وآمالهم في البقاء على قيد الحياة، على أية أرض لا تطالهم فيها رصاصاتٌ، ولا براميل متفجرة. لكننا نتساءل عن سر هذا الإهمال الكبير للمأساة التي تتكرر منذ أكثر من ثلاث سنوات، من دون محاولة ملاحقة المتاجرين بالأرواح التي زهقت وضاعت سوية مع جني سنوات العمر الذي يدفع لبائعي أحلام، قلما تتحقق، وإن تحققت، فهي لقلة ممن تكتب لهم النجاة في رحلة قوارب أو صناديق، يحشر فيها المسافرون كالنعاج، من دون أي شرط للسلامة. ولن نكون شديدي التفاؤل، لنتساءل عن سبب عدم إيجاد طريقة لوقف هذه الظاهرة وهذه الحوادث، عبر إيجاد حل لمسببها، وهو الحرب في سورية التي تبين أنه لا يوجد من يريد وقفها، وإن أراد، فهو ممن لا يستطيعون.

على استحياء، خرج، أخيراً، موقف عن الأمم المتحدة، يخص مأساة غرق السوريين، وغيرهم من فقراء الشعوب الأخرى ومنكوبيهم، في مياه البحر المتوسط الذي خاضوه، هرباً من الأوضاع الجارية في بلدانهم. وذلك عبر المفوض السامي لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، الذي انتقد، في الثاني من أكتوبر/تشرين أول الجاري، سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه اللاجئين الذين يجتازون البحر المتوسط في طريقهم إلى دول الاتحاد. يبدو أن هذا الموقف ما كان ليخرج، لولا وصول أعداد الغرقى هذه السنة وحدها، وهي لم تختتم بعد، إلى ثلاثة آلاف، جلهم سوريون، ولولا تواتر أخبار الغرق شبه اليومي لمراكب نقل اللاجئين التي أخذت تشغل الإعلام الغربي.

جاء كلام غوتيريس في إطار الذكرى الأولى لغرق أكثر من 360 مهاجراً قبالة سواحل جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، وكانوا على متن قارب يحمل المئات، غرق هو الآخر يومها.

وقد طالب غوتيريس دول الاتحاد الأوروبي بتوفير “مسارات هجرة أكثر أمناً للاجئين”، بزيادة حصص كل دولة، بتوطين لاجئين على أراضيها. لا بد من التنويه بموقف الرجل، لكن الأمر لا يتعدى كونه حلاً لأحد وجوه المأساة التي يتطلب حلها تضافر جهود المجتمع الدولي برمته.

وهو موقف يبتعد كثيراً عن الخوض في مسببات هذه الكارثة، وهي الحرب الدائرة في سورية، والصراعات التي تشهدها القارة الأفريقية، علاوة على الفقر الذي ما زال يرزح تحت وطأته أبناء دول الجنوب. كما أنه لا يحمل أي تصور لإيجاد حل لهذه المأساة. لذلك، يعد موقف غوتيريس ورؤيته، باعتباره مسؤولاً في الأمم المتحدة، قاصريْن، إذا ما قورنا بدعواتٍ أطلقت في أوروبا، عشية اندلاع الحرب الأهلية في الجزائر سنة 1990. فقد أرجع ساسة أوروبيون أسبابها إلى الفقر الذي تعاني منه فئة واسعة من المجتمع الجزائري، ويجبرها على الانكفاء إلى موروثها الديني، والانقياد الأعمى لأوامر الجماعات الجهادية المتطرفة.

وقد دعا هؤلاء الساسة، يومها، إلى دعم دول الجنوب، ومساعدتها في التخلص من فقرها، درءاً لمخاطر من الممكن، بالضرورة، أن تنعكس على الدول الأوروبية. وقد صدرت أصوات في حينه تتهم الغرب، وتحمله المسؤولية عن الأوضاع الاقتصادية، والفقر الضارب في دول الجنوب، نتيجة استعماره هذه الدول، وسرقته ثرواتها، على مدى عشرات السنين. كما أن أوروبا لم تأخذ على عاتقها إيجاد حل لتلك الحرب التي بقيت مستعرة على مدى عقد.

أمام هول هذه المأساة، يبدو أي تحرك للتخفيف منها مجرد عبثٍ، لن يوقفها على المدى القريب، فالأمر يتطلب إنشاء هيئة دولية خاصة، تعنى بشؤون اللاجئين الذين يخوضون البحار، لوقف المتلاعبين بأرواحهم من جهة، ولتأمين ملاذ كريم لهم، حين وصولهم إلى الأراضي الأوروبية. وهي هيئة تبدو ضرورية في ظل العجز عن إيجاد حل للحرب في سورية، وفي ظل تطلع معظم الدول لمعالجة النتائج، من دون الخوض في المسببات التي تبدو عصية على الحل، وتبدو فاقدة رجالاً، يمكنهم اجتراح هذا الحل.

طبعاً، ستجهد نفسك كثيراً في البحث لإيجاد خبرٍ، أو حتى مجرد ذكرٍ لمأساة هؤلاء السوريين، في أية وسيلة إعلامية سورية حكومية. وكأن هذه الحوادث تحصل فقط، كما كان لها سابقاً، لمسافرين من أصل أفريقي، هربوا من الحروب والمجاعات التي تعصف ببلدانهم. وهو تجاهلٌ، يشبه تجاهل هذه الوسائل مأساة اللاجئين السوريين في دول الجوار، وتعمد عدم ذكر يوميات ما يجري في مخيمات لجوئهم القريبة من الحدود السورية، على الرغم من انشغال وسائل إعلام دولية كثيرة بهذا الأمر. كما ستلاحظ حتى عدم استخدامهم من هذه الوسائل، بجعلهم بنداً لإتمام بنود “المؤامرة الكونية التي تتعرض لها سورية” وفصولها، وهي المعزوفة التي لا تمل هذه الوسائل من ترديدها.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى