صفحات سوريةعلي جازو

الأشياء والإنشاء في سورية الأسد/ علي جازو

 

 

تعهّد الأسدان الأب والابن منذ 1970، على صعيد اللغة، إحلال الإنشاء محلّ الأشياء التي هي أمور السوريين وحوادث أيامهم، الأمر الذي باعد بين السوري والسوري من جهة، وقدّم صورة واهمة عن «استقرار» سورية و «أمانها».

فنحن، إنْ بحثنا عن مؤرّخ أو عالم اجتماع سوريّ يرصد سنوات الخزي والجور العنيفة التي باتت تقارب نصف القرن، نكاد لا نعثر على أحد، وفي المقابل نجد مئات الكتب التي تصف سورية بأنها «مهد الحضارة وجبهة الصمود والتصدي وبلد الأمن والأمان».

والحال أن المدن، أي دمشق وحلب وحمص وحماه وسواها، والحضارة إبنة اجتماعها وصروفها، حنّطها البعث السوري، فتشيّأت وشيّأها نظام الإرهاب الأسديّ المافياويّ، حتى غدت متجمدة منغلقة تنطوي على نفسها كجنين يخشى رؤية نور الأشياء كما هي في الحقيقة.

وبدل حضّ الناس، وهم عموم السوريين، على النمو وإطلاق الطاقات، دأب البعث لغة ومدرسة وجامعة، اقتصاداً وتربية وإعلاماً، على تدريبهم كي لا يتكلموا إنْ هم عبّروا عن أنفسهم، وحبسهم إن أرادوا تحركاً خارج المسموح.

فنصوص القوانين السورية تتناول الماضي العربي المجيد وتخلطه بصلاح الإسلام خلطاً يحضّ على الطاعة العمياء والبذل الأعمى، دونما نظر إلى الإيمان الديني عقيدةً جوهر أساسها الأخلاقي يرفض الرضوخ للظالم والظلم. فمواد التدريس في الجامعات تحرص أيما حرص على عرض تاريخيّ خارجيّ، لا ينال من واقع حال السوريين شيئاً، وطلاب الجامعات يُعدَّون كي يتحولوا موظفين، وتأخذهم الوظيفة، التي هي ملجأهم المادي والمعنوي الوحيد، إلى عالم الفساد على الفور. وكل ذلك يناسبه الإنشاء صياغة وفعلاً لا يبقي من العلم أي أثر، ذلك أن الإنشاء هنا ينصرف إلى معنى الدعاية والتكلف والتصنع والزيف، أي المجاملة والمداهنة، وليس بعيد الشأن قول الشيخ القتيل محمد سعيد رمضان البوطي لطلابه أن يبتعدوا عن دراسة نصوص المتصوفة وعلماء الكلام (فلاسفة، أحدهم إبن رشد مثلاً الذي ساوى بين الإيمان والعقل، ورأى أن ما يخالف العقل لا يجوز أن يجيزه فحوى كتاب الله الكريم)، فالقرب من الفلسفة التي هي سؤال ضد الإنشاء وضد التلبّد تعني في ما تعنيه السير على الضدّ قطعاً مع مسلك النظام السوري، وقد كان لعبدالقادر قدورة، الرئيس المديد السابق لمجلس شعب النظام السوري، أن ربط بين المطالب المتكاثرة وقلة الحيلة بالقول: «إرضاء الناس غاية لا تدرك، سنّة الله في خلقه»، والعبارة ما هي سوى تبرير لبقاء الحال على ما هي عليه إلى أبد الآبدين، وتتسلح بإنشاء وتكلف اعتمدهما اتحاد الكتاب العرب وكل الصحف والمجلات السورية النظامية، حتى إن شئت معرفة شيء عن ميول السوريين وجدتها تنتهي بك إلى فلسطين (قناع البعث السوري لخداع السوريين والفلسطينيين معاً) إن لم تكن إلى جزر القمر الدولة العضو في جامعة الدول العربية!

وما يدفعنا إلى تذكر كلّ هذا، بعد مضي أكثر من ثلاث سنوات على الحدث السوري الجليل بدءاً بربيع 2011، هو مراجعة متأخرة لما كانته الثورة السورية، إذْ خرج من فم الشهيد إبراهيم القاشوش نداء هو من صلب كيانه وطموحه وشخصه، فتحوّل إلى فردٍ يتميز عن آخرين وجدوا أنفسهم مستقلين إزاءه ومحبّين له. وهذا يسري على غياث مطر إذ حمل الماء والورود إلى أزلام الأسد، ولا يبتعد عن مسعى عمر عزيز المدني المحلي البسيط والمباشر (نموذج مجالس الحكم المحلية)، فما كان من حال النماذج الثلاثة (الشعبيّ والسلميّ والعمليّ) إلا أن رماهم الأسد شيئاً (جثة) على أشياء كثيرة لاحقة رمى بها سورية والسوريين كي يعودوا إلى ظلام ما كانوه، وما خرجوا ضدّه وجهاً لوجه.

غير أن لغة ما شبيهة طغت على رجال المعارضة السورية، فخلطوا الوطنية بالدين على لفظٍ جامد ومتعالٍ، ومزجوا التضحية بالادّعاء دونما مدّ يد العون، وما تمزّقهم وشتاتهم سوى دليل أسود. والحقيقة أننا نتغير عندما نغير لغتنا، بما هي دلالة على واقع حالنا وطموحنا في آن، وتلك تعني مجابهة اليومي سلوكاً وتفكيراً غير منفصم، وإنما متضامّاً ومتفاعلاً يعزز بعضه بعضاً، ويخرج آخره من أوّله كما تقبسُ اللغة مفردة من نور حتى تستوي معنىً واضحاً وصريحاً.

الأشياء والحوادث موجودة، وتبقى تتوالد من بعضها بعضاً، وهي تتحول عبرنا ولنا، وإذ نغفل عن خطورة حيّز اللغة وصفاً وتقويماً – التي هي فعلٌ رئيسٌ يحضّ الفعلَ الماديّ ويصنعه – إنما نتغاضى عمّا نكونُ، ونزيّفه، فلا يبقى من صوت الكلمة سوى قناع يغطي الوجه، ومن الفعل سوى دعوة تبقى معلقة في الهواء كأنها ليست من الواقع في شيء.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى