صفحات الثقافة

الأصوات الشعرية التركية الشابة : حديقة تخرج بمسار ليلي/ عبد القادر عبد اللي

 

 

ثمة اختلاف على بداية الحداثة الشعرية التركية، فهناك من يذهب إلى التاريخ ويعتبر شعراء معينين رواداً في التجديد الشعري، وهناك من يعتبر “العشاق” – وهم الشعراء الارتجاليون المغنون- رواداً للحداثة الشعرية بلغتهم القريبة من الناس، وموضوعاتهم الراهنة الحارة. وهناك من يعتبر الخروج عن الأوزان والقوافي بداية الحداثة الشعرية في تركيا، ولا شك أن هذه المرحلة بدأت مع ناظم حكمت، وتبلورت مع الشاعر أورهان ولي، ولكن قبل بلورة ما سمي “القصيدة الحرة” وهي التي تقابل في العربية “قصيدة النثر” شهد الشعر حالة من البحث تراوحت بين ابتكار أوزان جديدة فيما يشبه التفعيلة في الشعر العربي وصولاً إلى الخروج على لغة الشعر المعروفة آنذاك.

شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين نقاشاً أدبياً حاداً، وطرحت رؤى عديدة في الأدب، وظهرت أصواتٌ على درجة كبيرة من الاختلاف بموازاة المشاريع الوطنية التي كانت مطروحة، ولا يغيب عن الأنظار ارتباط هذه التيارات الشعرية بالتيارات الفكرية… وكانت أهم الرؤى في تلك الفترة تطرح استبعاد الكلمات العربية والفارسية والعودة إلى الأصالة الشعرية التركية، وهناك من دعا إلى استلهام الشعر الشعبي وأوزانه واستخدام اللغة العامية في الشعر لأنها أصفى من الكلمات الدخيلة، وبرز من شعراء تلك المرحلة ضياء كوك ألب، ومحمد أمين يورداقول، ورضا توفيق بولوك باشي، وكثيرون غيرهم.

 

لعل تيار “الحداثة الثانية” الذي ظهر في مطلع خمسينيات القرن العشرين لم يسبقه هذا التشتت الذي سبق الحداثة الأولى، وقد برز رداً على الواقعيين الاشتراكيين الذين هيمنت وصفتهم الشعرية كاللباس الموحّد قبل عقد، وعرّف الشاعر صلاح بيرسِل (1919-1999) هذه الوصفة بشكل ظريف في قصيدة بعنوان “درس شعر”:

 

خذ “حب البشرية” موضوعاً

 

واختر “الحرية” وزناً

 

ضع كلمة “جوع”

 

ولا تقل ليس سياقها

 

وفي أواخر القصيدة

 

وائم قافيتي “الشعب” و”العيش”

 

هاك طريقاً لتكون “شاعراً كبيراً”

 

 

وكان أبرز شعراء الحداثة الثانية أديب جانسفَرَ، إلهان برك، جمال ثريا، طورغوت أويار، سزائي قرة قوتش، إجة آيهان وألكو تامر. وقد اتُهم هؤلاء بالتخاذل، والهرب من قضايا المجتمع، ولكن الواقع رسّخ تجاربهم، ولم يصبحوا أعلاماً في الشعر التركي فحسب، بل بات كل منهم مدرسة فنية يمكن السير على نهجها.

 

 

 

 

الشعر التركي راهنًا

 

 

 

تشهد ساحة الشعر اليوم حركة شبابية فيها هذا التشتت والذي يسميه البعض بحثاً. حالة من التنوع والتشتت تشبه تلك التي عاشتها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فهناك من عاد ليكتب بالتفعيلة، وهناك من طرق أبواب الأوزان الكلاسيكية ويكتب رباعيات، وهناك من يوجد كسراً معيناً لهذه الرباعيات بالوزن أو البنية لتقديم رباعيات موازية، ومن طرق باب “وزن الغزل” الغني بتفرعاته لإيجاد فرع جديد، وهناك من يبحث بالمفردات والتراكيب لإيجاد بنية نصية جديدة.

 

تناول كثيرون هذه الظاهرة الشعرية، فهناك من اعتبرها نتيجة طبيعة لتدهور الحالة الأدبية عموماً، والشعرية خصوصاً، وهناك من اعتبرها ظاهرة إيجابية، ومن هؤلاء الشاعر التركي حسين فرحات، إذ يعتبر عملية البحث هذه ظاهرة جيدة، ويقارنها بالحالة التي سبقت ظهور حداثة مطلع القرن العشرين، ويقول إنها مخاض يشبه ذلك المخاض ولا بد أن يولد تيار شعري من بين هؤلاء الشعراء يبرز فيه شعراء يحفرون أسماءهم في الساحة الشعرية العالمية.

 

 

 

بيرهان كسكين (1963)

 

من الأصوات الشعرية الصافية، تعطي التفعيلة والإيقاع أهمية معتمدة على أوزان خاصة في شعر مقطعي، بدأت بنشر قصائدها عام 1984 قبيل تخرجها من الجامعة، وأصدرت عدة مجموعات شعرية كللتها بجائزة البرتقالة الذهبية في الشعر وهي إحدى أهم الجوائز الشعرية التركية، من نماذج شعرها:

 

زهرة المغارة

 

أنا وجع قلب الحمم البركانية

 

وصوت عاصفة هبت

 

هذا الجب ليس عميقاً، لا صوت منه

 

أنا الزهرة الباكية التي تغطي

 

وجها ورقتها

 

 

 

جمعت المناشف

 

وأغلقت المظلة

 

هيا انهض لنذهب

 

بَرَدَ الجو، وأُطفئت الشمس

 

وأظلم وجهي تماماً

 

 

 

زهرة مغارة تسير في داخلي

 

وتمر غمامة مهمومة فوقنا

 

انهض لنذهب.

 

 

 

صبر بريء

 

استمديتُ براءتي وصبري

 

من الزورق الذي سحبناه معاً إلى الشاطئ

 

ادفنْ ما تبقى في الرمل

 

كيفما كان فإن كل كدر يعتق

 

بملء نفسه

 

طوال الصيف.

 

 

 

نميت الفراق بيننا بالحديث

 

مع زهر المسك

 

نادراً ما أكملت الأيام التي أكاثرها.

 

توقف المطر، والآن ينتهي الشتاء

 

في الستارة الغربولية التي أسدلتها بين أهدابي

 

مع أنه ليس ثمة أحد في الخارج

 

داخلي ينعكس على خارجي

 

 

 

العشق ما لم نستطع نسيانه

 

بريِّ زهر المسك:

 

صباح أسقطته من جبهتك بالتصبيح

 

وكدر نسيته على يميني.

 

 

 

شرف بيلسِل (1972)

 

تصدرت قصائد الشاعر أهم المجلات الأدبية التركية، وتوج نجاحه بحصول مجموعته الشعرية “رماد العالم” على جائزة “البرتقالة الذهبية”، وجاء في بيان لجنة تحكيم الجائزة: “اعتراض على حصار الحياة اليومية. بحث عن الحرية في العالم من خلال أدوات المنزل عبر لغته التي تؤنسن الأشياء الدنيوية، ونظرته التي تشد ما داخل البيت على أفق الدنيا. صوره الشعرية وموسيقى شعره الرفيعة ما أهله للفوز بهذه الجائزة.”

 

أنا جئت إلى هنا من قبل

 

كنت كسيراً جداً، وريحياً وضعيفاً

 

أثناء ذهابي إلى فراق طويل دون زاد

 

 

 

ها قد وصلت إلى عتبة القلم المعلن الحداد

 

لو لم أبح أنا سيبوح الآخرون

 

بما رأيته داخل ما رأيته أثناء ذهابي

 

 

 

هناك كلمات تكتب ولا تقال

 

يقطف قرنفل الوحدة من جباله

 

أثناء ميل رماد العالم في فمي إلى البرد.

 

 

 

في اليابسة

 

هذا مطر

 

هادئ، ناعم، متفرق

 

طولي، خصري، ساقي

 

هذا مطر

 

ينطق كذباً، ويصمت صدقاً

 

أنا في الماء، ووالدي في اليابسة

 

هذا مطر

 

يسلب العقل، ويمنح القلب

 

عشق الحسابات الدقيقة يدخل في عيار الميزان

 

هذا مطر

 

يُغرق قرية، ويُطفي كرسياً

 

ويُضحك الهاجر في الجرح

 

هذا مطر

 

رصاص ناعم، وحساب كثير

 

أعطى فضة

 

ثمة سماء، ثمة سماء

 

أحياناً.

 

 

 

 

 

 

 

بتول دوندار (1975)

 

إلى جانب حضورها الشعري في الساحة الأدبية الشعرية تناولت قضية “المرأة بين الشعراء” مبرزة قضايا هوية الشاعرة بعد ثمانينيات القرن الماضي، وتمثيلها، وقد حازت على جوائز أدبية مهمة.

 

بستان الكرز

 

أنا قادمة من بستان الكرز

 

على ياقتي ابتسامات شبان أشرار

 

أنا قادمة من حبك

 

من نوع لجمل الحب غير الكاذبة

 

أسفارُ القطار

 

عرضٌ رسمي لحدائق الكرز.

 

 

 

لم يعد هناك شبان أشرار الآن

 

لم يعد هناك سبب لحبك إلى تلك الدرجة

 

لم تعد هناك أسفار قطار

 

 

 

كنت أعتقد بأنني ألعب الحجلة

 

أثناء قفزي على المربعات أمامي

 

وحين عدت إلى الخلف

 

محوت طرقي القديمة كلها.

 

 

 

ظهر أن الكبر

 

هروب من بساتين الكرز

 

ما الذي فهمته أنا؟

 

 

 

جوقة تعيسة

 

كل ما قلته بسبب الوحدة الأولى تلك

 

كم من حالات العشق سمحت لها بالهرب

 

تتحول إلى كثافة لا متناهية

 

قلبي… صخر لساني

 

 

 

ما أحسن النية من أجل البدء باليوم، ولكن

 

يديه في صورة أمي

 

تذكرني مرة أخرى: لا تنسي أن تغني!

 

أعرف من البحار الذي قصدتها لأغرق

 

دائماً أُنقذ بتلك الوحدة الأولى

 

ما أكثر أسماء الأولاد الذين قالوا قاطعتك

 

قلبي! يفسح الطريق حتى لسيارات الإسعاف!

 

 

 

محمد أوزتك (1977)

 

صوت شعري فريد اقترن اسمه بالتجريبية، وكتب نصوصاً جريئة، ويعرف بنفسه من خلال عنوان كتابه “أنا لست غوغل”: “لست محرك بحث تجد ضالتك لدي” وبهذا يريد أن يقدم نفسه للقارئ كما يريد هو. يقول عنه أحد النقاد: “إنه يرمي حجراً نحو المستقبل، ولا بد أن يكسر نافذة”، يستخدم في نصوصه مقاطع نثرية طويلة، وكلمات تقنية، وينوع في لغته الشعرية.

 

في المقطع الثاني من نص بعنوان “يقظ” يقول:

 

“تكتك. تكتك. تكتك. لا أستطيع التغلب على عقرب الساعة، الشرفات جيدة لي، لا تغطيني لستُ برداناً، أنا كل ما تمكنت منه هو من البيوت، لا أريد الذهاب إلى بيت أمكِ، تبدو لي الواجهات قهراً، فيليب سولارس ستديو ينتظرني على قدمي، أريد أن أبقى وأعمل غابة في الشرفة. الأسواق جيدة لي لا تخافي، سآتي ولن أصاب بالبرد، لعلني أذهب إذا نمتِ، هناك شجار أنا بدأته، والشجار السابق كان استعراضياً، حتى إنني تجولت وفي رأسي قطع زجاج، لتسلم لي عصبيتي. هناك رجلنا أبو زدّين، اسمعْ زبيدة ولا تصدق إن شئت، يكتب عشر قصائد، ومن أعظم الأنواع، وينجز بين هذه النصوص حفرية، وضحكت حتى حككت نفسي، ولم أغضب، لعلني أعود إذا نمتِ، لأنني أنا الذي بدأتُ ذلك الشجار. كيف تجد شعري يا محمد؟…”

 

 

 

أنا لست غوغول

 

أود القول ليكن الجميع بخير، لِمَ لا

 

لو حسين، لقال إن الجميع بخير، ولكن لا

 

لأن حسين مسرور، لا أسعد الله أحدا

 

أنا لا أستطيع أن أقول، لأن شروطاً لدي

 

ستقولون هذا طغيان، ولكن لدي

 

حسين الأسعد، إنه الأسعد، ولـ…ــــكن

 

 

 

لدي أعطالي التي يجب أن تنزل إلى السوق.

 

 

 

جان بهادر يوجة (1981)

 

شاعر شاب من  لفت أنظار كبار الشعراء مثل أتيلا إلهان وحلمي ياووظ، وحاز جوائز شعرية هامة، أصدر عدة مجموعات شعرية، ويمتاز شعره باستلهام ملامح الشعر الكلاسيكي على صعيد الوزن والقوافي، في أشعار مقطعية، من نماذج شعره:

 

باب

 

يظهر باب وسط الغيوم

 

الآن يدخل الرمل إلى الغرف الخطأ

 

قدْ خيلك إلى سهل آخر بعد الآن

 

حلت وحدتك، ومرت.

 

 

 

لعل العشق يغادر من الباب

 

كأن صوتي ناقصاً منذ زمن طويل

 

أقف كالغيمة بعيداً

 

يصادف صمت امرأة هناك

 

بماذا تتدفق الغرف هكذا بشكل قليل

 

أقول قلبي يرتبط بالحدائق

 

 

 

يظهر باب من الأوراق المحترقة

 

يبدأ النسيان، ويبقى ما عداه

 

ثم يولد آخر لآلام أخرى

 

في مدينة جديدة وبقيمة الروح (بقيمة الروح مشتقة من اسم الشاعر، جان: روح، بهادر، بها: قيمة، ودر أداة التوكيد)

 

 

 

لا تقبّل الليل

 

أدعك لسماء من زجاج

 

وأنواعٍ من حمام للمكان الذي أخليته

 

جففتها بعناية لمواسم في صدري

 

 

 

وحدة ماهرة، وأهزوجة تؤلم بالتدريج

 

ثم حديقة تخرج بمسير ليلي

 

وتردد الأشعار الأكثر شحوباً غيباً

 

 

 

آخر غيمة تسقط من يدي أيضاً

 

تختلط المدن البعيدة بدمي، لتختلط

 

أتشتت فجأة في أحلك مكان من الليل

 

 

 

ما الذي يقابلك؟

 

 

 

غونجة أوزمَن (1982)

 

تحاول الشاعرة أن تشق طريقها الخاص من خلال تجربتها الشعرية القريبة من الحداثة الثانية، وخاصة الشاعر التركي الكبير إلهان برك:

 

مقاطعة

 

أخذت وجهك إلى البحر، وأودعته بصمت

 

في فم سمكة أسطورية

 

 

 

رأيت العصافير الخجولة عندما فهمت المدن

 

السقيفات مقاطعة بلغة الخشب

 

 

 

أصبح تراباً ضجيجه لا يُرضع

 

بيت متمدد في ظل شجرة

 

 

 

الأيام أيضاً تموت وتذهب قبل كتابة مذكراتها

 

وصوت المساء يعتق تدريجياً

 

 

 

وأنت تذكر بشكل مبهم في الشفق

 

تقطع عينيك طريقاً طويلاً وتعود

 

 

 

إذا قبلتني تتناثر مجاثم طيوري على الزمن

 

أغدو بهوك أيها العشب

 

 

 

آه! الجدلية الدينية: رغبة وذنب

 

أخبئ في جلدي الإبرة التي تغرز القماش

 

 

 

تبطئ الأسطوانة، وينقطع الدم ليلاً

 

وبعدئذ خوف، وهزيمة عصر

 

 

 

أثناء تعري الكلمة وخروجها من غلافها

 

تتكاثر مع عدّها، تتكاثر الصراصير.

 

 

 

أحلام الخريف

 

تناثرت طفولتي في دمى طينية

 

وفي أزمة السنبلة للماء

 

السهل المحفور في وجهي دائماً ثقيل

 

خيبة في يدي، وفراغ في صوتي

 

 

 

لم يسمع أحد زهرة الجرس

 

لم يعرف البذار حريق التراب

 

نهر يتأجج لهباً في نفسك الأحمر

 

دار في حيوات لا استغراب فيها

 

 

 

بقي المساء المعوج بهمه الوحشي

 

 

 

لهذا هناك تاريخ مشاغب في بياضي

 

(ولا يُذكر سوى الأبيض لدى النساء)

 

لهذا حالات الوحدة ذات نوافذ قليلة مفتوحة

 

ونزلات برد الخريف، والخلجان التي اختبأت فيها.

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى