صفحات الرأي

الأصوليات والقيم الأخلاقية/ الياس خوري

 

 

في 29 حزيران/يونيو، أعلنت ولادة الدولة الإسلامية، وعقدت البيعة لأبي بكر البغدادي كأول خليفة للمسلمين، بعد زوال الخلافة العثمانية في 29 تشرين الأول/أوكتوبر 1923. وقد افتتح الخليفة عهده بخطبته الشهيرة في جامع نور الدين زنكي في الموصل، وبدأت ملامح الدولة الجديدة تتشكّل مستعيدة «تراثاً» بعثته من تحت ركام الزمن، فعادت بنا إلى أيام السبي والصلب وقطع الرؤوس، وامتزج فقه الدم بفقه النكاح ومُلك اليمين، وسادت تقاليد جديدة بدءا من منع التدخين وصولا إلى رجم المرأة الزانية.

الدولة الإسلامية أعلنت منذ ستة أشهر فقط، لكننا نشعر أنها كانت هنا من زمان. هذه هي إحدى المرات النادرة التي يجمد فيها الزمن، وتخف سرعته إلى درجة التلاشي. وهنا تكمن غواية دولة البغدادي، إنها دولة قادرة على الإبحار في الزمن، بحيث يصير الماضي حاضراً، لأن الحاضر يستعيد ماضٍ لا يمضي!

تأتي خلافة البغدادي في سياق مد أصولي جارف بدأ مع حرب المجاهدين الأفغان وحليفهم الأمريكي ضد الاحتلال السوفياتي، واتخذ في الثورة الخمينية في إيران إحدى ذراه، قبل أن يقوم بقتل الانتفاضات الشعبية العربية وإفراغها من معناها، ثم يتحوّل بجناحيه السني والشيعي إلى أداة حرب سنية – شيعية طاحنة، لا نزال في بداياتها المروعة.

لكن من أين جاء هذا «السحر» الذي بدأ مع صورة أسامة بن لادن الشهيرة على حصانه، بعد مقتلة برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وانتهى بصورة أبي بكر خطيباً على المحراب، وفي يده ساعة روليكس. ما هي العلاقة بين الحصان والطائرات التي هدمت البرجين الأمريكيين، أو بين ساعة الروليكس ومشهد سبي النساء الأيزيدات؟

في العلاقة المعقّدة بين الحصان والطائرات، أو بين البداوة والتكنولوجيا يكمن نصف الحكاية. انها حكاية القفز إلى زمن ما بعد الحداثة، أي إلى زمن تفكيك القيم والمعاني، وتحويل التكنولوجيا الحديثة إلى مجرد أداة فارغة من المضامين. بهذا المعنى نستطيع أن نقرأ توالي المشاهد الهوليودية في الأفلام الدعائية المتقنة التي تبثها الدولة الإسلامية في زمن «إدارة التوحش» الذي تصنعه بحسب أبي بكر الناجي. أو نقرأ هذا الهوس الجنسي الذي يمزج عنف قطع الرؤوس وإسالة الدماء، بعنف الاغتصاب والسبي واستعباد النساء، كأننا أمام أفلام بورنوغرافية تستبدل العري بالنقاب، وتترك للهوس الجنسي أن يستفحل في ظل العنف.

تفكيك المعاني الذي هو نتيجة لانهيار الدولة المدنية التي حولها الاستبداد إلى دولة وحشية، جاء على خلفية ليبرالية جديدة فالتة من عقالها، قامت بتدمير الطبقات الوسطى وافقار المجتمع، بحيث صارت القيم الوحيدة التي تغطي هذا الاستفحال الرهيب للوحشية هي اللجوء إلى التفسير الأكثر رجعية للدين، عبر مزج ابن تيمية بوهابية متجددة، في ظلّ عباءة خليفة هو الوجه الآخر للمستبد.

أما نصف الحكاية الثاني فهو وصول انحطاط الدولة الأمنية وثقافتها إلى القعر، بحيث قامت الدولة المستبدة بإلغاء القيم الأخلاقية والاجتماعية، في حفلة جنون جماعية امتدت من هوس القذافي بإعلان نفسه كاتباً وفيلسوفاً، إلى جنون الصدّامية بالقوة والبطش، وقيام الديكتاتور بتأليف الروايات، وصولا إلى الهوس الأسدي بتماثيل الديكتاتور الذي سيبقى إلى «ما بعد الأبد». وقد ترافق ذلك مع تفلّت عصابات السلطة من أي وازع اخلاقي، بحيث انتفى معنى القانون، وتحولت السجون إلى مقابر، واغتصب المجتمع بنسائه ورجاله. فراغ أخلاقي وإفقار شامل دفع بالسوريين والسوريات في بداية انتفاضتهم ضد الاستبداد إلى رفع شعار «أنا إنسان مو حيوان».

جاءت الأصوليات الجديدة في زمن ما بعد الحداثة وأعادت تأسيس الفراغ والإفقار في شكل هيمنة دينية قائمة على فكرة الاستباحة الشاملة لكل شيء، ولكنها استباحة تنضبط ضمن تصوّر قائم على فكرة انبعاث الماضي من رقاده الطويل، عبر اعتبار المجتمعات العربية مجتمعات جاهلية أو مرتدة.

عندما نجمع نصفي الحكاية نصل إلى بداية فهم لهذا المسار الانحداري الشامل الذي يعيشه المشرق العربي اليوم في سواد هذا الليل، الذي لا يخترقه سوى قبس ضوء تونسي، نتمنى أن لا ينطفئ، كي لا تغرق العرب في العتمة الشاملة.

لكن جمع نصفي الحكاية لا يعفي النخب الثقافية العربية من مسؤولياتها عن هذا الانحدار. صحيح ان آلة القمع الاستبدادية ضربت المجتمع الأهلي بلا رحمة، ونجحت عبر اجتماع الاستبداد والبترو دولار في الهيمنة على الهامش الإعلامي، قبل أن تمد يدها اليوم إلى الهامش الثقافي، لكن الصحيح أيضاً هو أن النخب العربية، وخصوصا النخب اليسارية والديموقراطية، لم تمتلك وعياً لخطورة المرحلة ولم تستطع ان تبني قيماً اجتماعية وسياسية وأخلاقية جديدة.

وكم تبدو ساذجة اليوم تلك الموجة الأدبية لتسييد أدب البوح والعودة إلى التراث البورنوغرافي العربي والإصرار على «أيديولوجية الجسد»، والاندفاع خلف إباحية تقليدية، بلا أي أفق فكري أو أخلاقي. أو ذلك اللهاث خلف فكرة إنشاء فنون بصرية هدفها الانبهار والإبهار. لقد جاءنا البغدادي بالعنف والجنس والدين في قالب واحد. وصارت فيديوهات القتل والذبح والسبي والاستباحة، أشبه بمسلسل في تلفزيون الواقع، الذي يخيف ويبهر، يغري وينفّر، مقدماً زاداً «روحانياً» للغرائز.

السؤال الذي يحيرني هو كيف يستطيع الناس تحمّل هذا الواقع الذي وقع عليهم. شيء لا يصدّق لكنه حقيقي، وعيش لا يطاق لكننا نطيقه، وذلّ لا يرحم لكننا نعيشه.

هذا ما يحصل عندما ينقلب التاريخ بالشعوب ويسخر منها. فالتاريخ وحش يحتاج إلى من يروّضه والا افترسنا. إنه يفترسنا اليوم، وعلينا أن نستيقظ من سبات الخوف والعجز، قبل أن نألف العتمة.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى