صفحات الرأي

الأفرع الثلاثة للسلفية.. من يهيمن على الخطاب الإسلامي؟

 

 

ترجمة وتحرير شادي خليفة – الخليج الجديد

في حين أنّ معظم الجهاديين سلفيون، فالعكس ليس صحيحًا. وفي الواقع، تعد السلفية، وهي فرع من فروع الإسلام السني الأصولية التي تشجع على العودة إلى تقاليد المسلمين الأوائل، ظاهرة أوسع بكثير من الجهادية. وتعمل ثلاثة أنواع من الكيانات السلفية على دفع السلفية في اتجاهاتٍ متباينة. وعلى الرغم من أنّ هذا التفسير للإسلام قد لعب دورًا حاسمًا في إنتاج «التطرف العنيف» في العقود الأخيرة، إلا أنّه يحتوي أيضًا على ترياقٍ قد يصلح لمواجهة الجهادية.

مقدمة

في الأعوام الأخيرة، أصبح من الواضح تمامًا أنّ «الإرهاب» لا يمكن القضاء عليه دون التصدي للظاهرة الكامنة وراء التطرف الديني الذي أصبح منتشرًا في المجتمعات الإسلامية في جميع أنحاء العالم. وينبع هذا «التطرف» إلى حدٍ كبير من نمو رافدٍ معين من روافد الإسلام السني المحافظ للغاية والمعروف باسم السلفية أو الوهابية. وترجع الوهابية إلى الاتجاه الفكري الذي بدأه الشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر في المملكة العربية السعودية.

وساعدت الثروة النفطية الضخمة المملكة في محاولة نشر أيديولوجيتها حول العالم من خلال بناء وتمويل المساجد والأكاديميين والكتاب والمدارس والجمعيات الخيرية في البلاد الإسلامية المختلفة، في محاولة للهيمنة وقيادة العالم الإسلامي تحت المظلة السعودية.

وبالنسبة إلى ابن عبد الوهاب وأتباعه، فقد رأى أنّ الأمة قد تشردت وابتعدت عن عقيدتها الأصيلة. وكان الحل هو العودة إلى الإسلام كما كان يمارسه وينشره السلف الصالح. ولكن السلفية اليوم ليست مدرسة فكرية واحدة وفي واقع الأمر فإنه يمكننا على الأقل تمييز 3 مدارس مختلفة ضمن التيار الذي يعرف اليوم في عصرنا بالسفلية.

السلفية الهادئة

أول فروع السلفية هي السلفية الهادئة، وهي الشكل الأصلي للسلفية. وقد نشأ هذا النوع من السلفية مع نشاط محمد بن عبد الوهاب. وقد وجد في البداية مقاومة شديدة من بيئته المحيطة لكنّه وجد المساعدة في النهاية في الدعم الذي قدمه له «محمد بن سعود»، والذي كان أمير حربٍ في بلدة صغيرة تدعى الدرعية. وتمرد «محمد بن عبد الوهاب» ومعه «محمد بن سعود» على الخلافة العثمانية، والتي كانت تسيطر على شبه الجزيرة العربية آنذاك. وبعد نجاحهما في إنشاء الدولة السعودية الأولى (1744-1818)، اتفقا على ميثاقٍ يسمح لآل سعود بتولي القيادة السياسية، وآل عبد الوهاب بتولي القيادة الدينية.

قام العثمانيون باستخدام القوة العسكرية القادمة من ولاية مصر في تفكيك الدولة السعودية الأولى عام 1818، لكن عاد أحفاد «محمد بن سعود» وأنشئوا الدولة السعودية الثانية بعدها بـ 6 أعوام، واستمرت حتى عام 1891، قبل أن يؤسس «عبد العزيز آل سعود» الدولة السعودية الحديثة عام 1932، والتي أصبح للسلفيين فيها الهيمنة الكاملة على المؤسسات الدينية، وقدموا دعمًا هادئًا لحكم آل سعود طوال عقود.

وقد انخرطت السلفية في تكوين الوعي المجتمعي من خلال الوعظ الديني ونشر الأيديولوجية الوهابية في أوصال المجتمع ومؤسسات الدولة. وعمل مجلس كبار العلماء، وهو السلطة الدينية الأكبر في الدولة، على تقديم المشورة للملك في الشؤون السياسية والجيوسياسية. وكانت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي عملت على إنفاذ قانون الشريعة في المجتمع، مثالًا آخر على انخراط السلفيين في نظام الحكم. ويعدّ هذا التناغم بين السلفيين وآل سعود أقوى مثال على كيفية مشاركة السلفية الهادئة في الحكم.

السلفية الجهادية

تعد السلفية الجهادية هي الأكثر شهرة بين فروع السلفية الثلاثة. وعلى الرغم من اشتراكها مع السلفية الهادئة في الهدف، وهو العودة إلى الإسلام التقليدي، إلّا أنّها تختلف معها في الوسائل. ففي حين تستخدم السلفية الهادئة الوعظ الديني، تعتمد السلفية الجهادية على التمرد المسلح.

ويشبه قيام المملكة السعودية على الكفاح المسلح إلى حدٍ كبير قيام الخلافة المزعومة لتنظيم الدولة الإسلامية عام 2014. ويشكل هذا تحديًا أمام السلفية الهادئة التي ترعاها المملكة. فقد بدأت المملكة بسلفية جهادية، لكنّ الملك «عبد العزيز» لم يكن له رغبة في الجهاد الدائم، نظرًا لرؤيته للمملكة كجزء من شبه الجزيرة العربية. الأمر الذي جعله يقيد استخدام السلاح. (الخريطة: انتشار السلفية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)

ظهر على إثر ذلك تمرد حركة الإخوان (لا علاقة لهم بجماعة الإخوان المسلمين التي ظهرت في مصر) في أراضي المملكة، اعتراضًا على تقييد الجهاد. وقام الملك «عبد العزيز» بحشد قواته وسحق التمرد بمساعدة عسكرية من البريطانيين. وقضى على الإخوان عام 1929، وضم بقاياهم إلى الجيش النظامي للدولة.

وفي حين انتهت مشكلة الإخوان، لم تنتهي جذور المشكلة، وساعد اكتشاف النفط عام 1938 على ترسيخ سلطة آل سعود واستغلالهم للسلفية الهادئة في تثبيت أركان الحكم والدولة. لكن عادت المشاكل للظهور في الستينات، عندما شرعت المملكة في حملة تحديث وتطوير، قوبلت باحتجاجات قوية، تصدت لها الشرطة، وقتل فيها ابن شقيق الملك «فيصل» آنذاك والذي كان من بين المعارضين، وهي الأحداث التي تسببت في اغتيال الملك بعدها بـ 10 أعوام على يد شقيق ابن أخيه القتيل.

وأدى صعود النفط إلى تطور سريع في قدرات المملكة المالية، والذي أدى بدوره إلى تغير في النمط الحياتي للمجتمع السعودي، وهو ما وضع تحدٍ كبير أمام آل سعود في محاولة التوفيق بين التطور والحداثة ومواكبة التغير العالمي السريع، والوفاء بالتزاماتها تجاه السلفية والمؤسسة الدينية التي تعارض كل مظاهر الحداثة والتطور.

وظهرت بذور السلفية الجهادية مرة أخرى في السبعينات حين احتلت مجموعة من 500 من أصحاب الفكر الجهادي الحرم المكي بقيادة «جهيمان العتيبي»، الذي درس على يد «عبد العزيز بن باز» والذي أصبح فيما بعد أكبر شيوخ الإسلام في المملكة. ولم تتم تسوية المملكة إلا بعد وقوع الكثير من الخسائر البشرية بين رجال «العتيبي» على يد قوات الأمن السعودية وبعد تدخل قوات الكوماندوز الفرنسية والباكستانية. ومن هنا بدأت السلالات الجهادية بالظهور، لأنها رأت أنّ السلفية الهادئة ليست قادرة على الأنظمة غير الإسلامية في البلاد العربية والمسلمة.

وشهدت مصر صعود عدد من الجماعات الجهادية إبان هزيمتها من (إسرائيل) في حرب عام 1967. وبعدها كانت ذروة السلفية الجهادية، حين دعم النظام العالمي الجهاديين في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي. وكانت القاعدة نتاج هذا الدعم، قبل أن تضرب الولايات المتحدة في هجمات سبتمبر/أيلول عام 2001.

ومع الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة والعالم ضد التنظيمات الجهادية بعد أحداث عام 2001، ومع اضطرابات الربيع العربي عام 2011، ذهبت السلفية الجهادية إلى أبعد من التنظيمات والحركات والجهات غير الحكومية، لتصل إلى النظام القائم من قبل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا عام 2014.

السلفية الانتخابية

في حين شغلت السلفية الجهادية العالم خلال العقدين الأخيرين، وذلك لأنّ أحداث العنف دائمًا ما تغطي على الحركات الاجتماعية الهادئة، لم ينتبه العالم إلى أنّ السلفية الهادئة لا تزال تهيمن على الاتجاه الأكبر. ولم يعر الكثيرون الانتباه إلى الفرع الثالث من السلفية، والذي كان ينمو ببطء، وهو السلفية الانتخابية.

وقد برز هذا النوع في مصر بعد ثورات الربيع العربي عام 2011، حيث اختار جزءٌ من السلفيين الانخراط في الحياة الحزبية السياسية وخوض الانتخابات. لكنّها في الحقيقة لم تكن المرة الأولى، فقد بدأت السلفية الانتخابية فعليًا في الظهور عام 1989 في الجزائر، حين تم تأسيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وكانت الجبهة عبارة عن مجموعات إسلامية مختلفة متحالفة أغلبها من السلفيين، وقد رأى بعضهم جواز العملية الديمقراطية، بينما رأى آخرون فرصةً في التعديلات الحكومية للنظام الانتخابي من أجل الاستيلاء على السلطة.

لم يكن لهذه المجموعة جوهرٌ أيديولوجي واضح وموحد، لذا فقد تفكك الائتلاف بعد الانقلاب العسكري الذي أنهى على التجربة الديمقراطية الوليدة قصيرة الأجل أواخر عام 1991.

وفي عام 1992، ظهرت حالة فريدة أخرى من السلفية الانتخابية، وهذه المرة في الكويت. فبعد انتهاء حرب الخليج الثانية مع العراق، شرع آل الصباح في مبادرة للمشاركة السياسية. وقد ظهرت مجموعتان من السلفيين شاركوا بفعالية في الانتخابات هناك، ولا يزالون عنصرًا رئيسيًا في البرلمان الكويتي حتى اليوم. ورغم ذلك لم تمثل مشاركة السلفيين في الحياة الديمقراطية في الكويت علامةً بارزة، نظرًا لصغر حجم البلاد، لكنّها أعطت برهانًا على إمكانية اندماج السلفيين في العملية السياسية الديمقراطية والتخلي عن كثير من الآراء المتحفظة.

وفي البحرين، دعم النظام الملكي حزب الأصالة السلفي في محاولة لمواجهة الأغلبية الشيعية، وقد فاز الحزب بعدد من مقاعد البرلمان منذ دخوله الانتخابات لأول مرة عام 2002. وفي اليمن اندمج السلفيون كجناح داخل جماعة الإخوان المسلمين، وشاركوا في السياسة العامة في التسعينات وفي الألفية الجديدة.

ولأنّ مصر هي الدولة العربية الأكبر، فقد شهدت التعبير الأكثر حيوية عن السلفية الانتخابية. وبينما تشكلت عدة أحزاب سلفية صغيرة في عهد ما بعد مبارك، يظل حزب النور هو الأبرز، وهو الذراع السياسي لحركة الدعوة السلفية بالإسكندرية، وهي المجموعة السلفية الأكثر تنظيمًا في البلاد. وفي أول انتخاباتٍ برلمانية شهدتها البلاد عام 2011-2012 بعد الإطاحة بـ«مبارك»، حصل الحزب على المرتبة الثانية بـ 123 مقعدًا خلف جماعة الإخوان المسلمين التي حصلت على 235 مقعدًا.

تعاون حزب النور في البداية مع جماعة الإخوان المسلمين، لكنه سرعان ما انقلب عليها حين حاولت الجماعة إضعاف الحزب السلفي. ورغم عدم مشاركته في احتجاجات يونيو/حزيران عام 2013، وقف حزب النور إلى جانب النظام العسكري العلماني الذي يقوده الرئيس «عبد الفتاح السيسي»، ومع ذلك لم يحصل الحزب سوى على 11 مقعدًا في انتخابات عام 2015. لكن لا يزال النور ملتزمًا بطريق السلفية الانتخابية، على أمل الاستفادة من الحيز الانتخابي الضيق في أي تسويات مستقبلية، أو ملئ الفراغ الذي خلفته جماعة الإخوان المسلمين. (الصورة: حزب النور السلفي في مؤتمر انتخابي لدعم السيسي عام 2014)

وتعتمد ظاهرة السلفية الانتخابية على مدى المساحة الديمقراطية المسموح بها في البلاد. وبتوجه البلاد العربية تجاه الاستبداد والحروب الأهلية، لا يوجد الكثير من المساحة للسلفية الانتخابية. لكنّها تظل بابًا محتملًا لبعض رواد السلفية الجهادية اليوم للعودة إلى السياسة العامة، بالرغم من أنّ السلفية الانتخابية حتى اليوم لم تشمل سوى أولئك الذين كانوا سابقًا من السلفية الهادئة.

خاتمة

على الرغم من انتشار السلفية في أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي، يظل انتشارها الأوسع في العالم العربي الذي نشأت فيه. ورغم أنّ المنطقة تعاني من الاضطرابات التي صنعتها السلفية الجهادية، يظل الجزء الأكبر والمهيمن على السلفية هي السلفية الهادئة التي ترغب في إنهاء هذه الاضطرابات، وترى أنّ نشر قيم الإسلام في الفرد والمجتمع مقدم على إنشاء الدولة. وهو ما لا يشاركهم فيه الجهاديون.

لكن في الواقع، وبالرغم من الاختلافات في الرؤى بين السلفية الهادئة والجهادية، فإنها تشتركان في رفض الديمقراطية وما تمثله. وحتّى السلفية الانتخابية، فإنّها تشارك بحذر في العملية الديمقراطية مع الكثير من الحساسية تجاه الكثير من المثل الديمقراطية. ولا يبقى للسلفية الهادئة في النهاية سوى سلوك الطريق الديمقراطي إذا ما أرادت تحقيق أهدافها الدينية والسياسية بشكلٍ سلمي، ويمكن لها أيضًا أن تكون بديلًا مقبولًا للسلفية الجهادية، لكن يظل ذلك غير ممكن بحال في ظل سيطرة الحكومات والأنظمة الاستبدادية.

جيوبوليتيكال فيوتشرز

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى