صفحات الرأي

الأقليات الإثنية في زمن الانتقال الديمقراطي

 

 د. رحال بوبريك

تقديم

عندما نفكر في الأقليات، تواجهنا صعوبات، وهي ليست بالضرورة صعوبات معرفية، بل هي صعوبات ذات طبيعة سياسية. فمع إنشاء الدول الحديثة كانت مسألة السيادة والوحدة هي الهاجس الأول وأي حديث عن أقليات داخل الدولة كان يُنظَر له بحذر بل بشبهة على أنه دعوة انفصالية أو تهديد لوحدة الأمة والدولة. وحتى في الدول العريقة في تقاليدها الديمقراطية في أوربا الغربية (خاصة فرنسا: الدولة ذات التقاليد اليعقوبية في تدبير الحكم) فإن مسألة الأقليات لم تكن مطروحة انطلاقًا من كون جميع المواطنين سواسية أمام القانون ولهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات. هذه الصعوبات والعوائق في التعريف لا تمنعنا من تبني تعريف يكاد يكون عليه إجماع لكونه صادرًا عن اللجنة الفرعية لمحاربة التمييز وحماية الأقليات التابعة للأمم المتحدة، وهو تعريف مفاده أن مجموعات أشخاص يمكن وصفهم بأقلية حين تتوفر أربعة شروط، وهي:

    ضعف عددي مقارنة بالعدد الإجمالي للسكان.

    وضعية غير مهيمنة داخل الدولة.

    ميزات إثنية ولغوية ودينية مشتركة.

    المواطنة في دولة الإقامة.

هذا فضلاً عن كون المواثيق الدولية لا تقف عند تعريف الأقليات، بل تتجاوزه للدعوة إلى احترام حقوقها؛ فالبند السابع والعشرون للميثاق الدولي المتعلق بالحقوق السياسية والمدنية الموقع في نيويورك بتاريخ 16 ديسمبر/كانون الأول 1966، ينص على ما يلي “داخل الدول التي توجد فيها أقليات إثنية، أو دينية، أو لغوية، لا يمكن حرمانهم الأفراد المنتمين لهذه الأقليات من حقهم في حياتهم الثقافية، ونشر وممارسة دينهم أو استعمال لغتهم مع أفراد مجموعتهم”.

الأقليات في بعض التجارب العالمية

قبل تناول مسألة الأقليات في العالم العربي نتوقف عند تجارب بعض الأقليات الإثنية في أوروبا؛ إذ كان لها دور فاعل في مسار الديمقراطية في مراحل انتقالية؛ فمع انهيار الاتحاد السوفيتي وتحرر شعوب هذه الدول من ديكتاتورية الحزب الوحيد وانفتاحها على الديمقراطية، ستعرف أوروبا صحوة للإثنيات اتخذت في بعض البلدان صراعًا دمويًّا مثل حالة يوغوسلافيا سابقًا في الحرب التي خاضها شعوب البوسنة وكرواتيا وكوسوفا في تسعينيات القرن الماضي، والتي انتهت بتفكك يوغوسلافيا وبروز دول على أساس إثني. أي أن الأقليات الإثنية داخل الأغلبية الصربية تحولت إلى دول مستقلة. إنه نموذج انتزعت فيه أقليات حقوقها السياسية عبر العنف. ولكن ما يهمنا في هذا المسار كونه سيحقق حلاًّ ديمقراطيًّا تمكنت على أساسه هذه الأقليات من تملك زمام أمورها وخوض تجربة ديمقراطية جديدة في إطار دول ذات سيادة.

كما عرفت دول أوروبا الوسطى، بعد انهيار النظام الشيوعي بها، انتظام الأقليات في أحزاب وحركات سياسية دخلت معترك الانتخابات مثل “حركة الحقوق والحريات” في بلغاريا (وهي من البلدان داخل الاتحاد الأوربي التي تعترف بالأحزاب الإثنية إلى جانب رومانيا)، التي تدافع عن مصالح الأقليات التركية والمسلمين وحقوقهم السياسية والمدنية. وتتوفر هذه الحركة على مقاعد في المجالس المنتخبة مما يمكِّنها من لعب دور الحكم في مسار المصادقة على إصلاحات جوهرية تهم البلد كله. هذه الأحزاب الإثنية تعرف أن سلطتها في قدرتها على ترجيح كفة طرف على آخر.

فعلى الصعيد السياسي وحقوق الأقليات فإن “حركة الحقوق والحريات” ستلعب دورًا محوريًّا في النقاش الذي عرفه البلد إبان توقيع الاتفاقية الإطارية من أجل حماية الأقليات في المجلس الأوروبي سنة 1997. ولقد دافع زعيم هذه الحركة على ضرورة اعتبار بلغاريا دولة متعددة الإثنيات مع طرح مسألة التمييز. وبعده ستطرح الحركة قضية تدريس التركية في المدارس (1). مع العلم أن دور الحركة لا يقتصر على الحقوق السياسية والثقافية؛ فهي تدافع أيضًا عن المصالح الاقتصادية للأقلية التركية التي تحتكر قطاع التبغ.

وعمومًا فإن مطالب الأقليات في مراحل الانتقال الديمقراطي من خلال التجارب المعروضة، تساهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، إن هي كانت منظمة وذات مطالب سياسية تروم العدالة الاجتماعية وتحقيق المساواة، في بناء لبنة الديمقراطية في البلد بشرط أن لا يتحول خطابها إلى خطاب عرقي يحمل في طياته بذور الانفصال أو الحقد والدعوة إلى العنف على أساس سمو إثني أو تميز عرقي. وهذا ما عرفته أقلية الهوتو في رواندا حينئذ بعد أن عمل بعض ساستها ومثقفيها، الذين كانوا في السلطة، على التحريض على العنف الإثني ضد إثنية التوتسي الذين يشكِّلون أغلبية في البلد. وانتهت دعوات العنف والحقد هذه إلى إبادة جماعية رهيبة ذهب ضحيتها آلاف السكان سواء توتسي أو هوتو، وانتقلت العدوى حينئذ إلى البلد المجاور زائير (الكونغو الديمقراطية حاليًا)؛ مما تسبب في انهيار نظام موبوتو وبداية حرب أهلية على أساس إثني  هددت المنطقة برمتها ( زائير، الكونغو برازافيل، رواندا، بوروندي).

إن الأقليات الإثنية في مطالبها إذا هي تبنت في خطابها مبدأ العنف والحقد والنعرات الضيقة تتحول إلى عائق نحو الديمقراطية بل تؤدي إلى نزاعات إثنية تشن حروبًا أهلية تعود بالبلد إلى الخلف كما هو حال بعض البلدان الإفريقية. ولكن إذا كانت هذه الأقليات الإثنية -كما هو نموذج بلغاريا- تتبنى خطابًا سياسيًّا، وتشارك بفاعلية في معترك الحياة السياسية في البلد، حتى وإن كانت تشكِّل انطواءً هوياتيًّا، فإنها تساهم في الديمقراطية. وهنا كذلك يرتبط الأمر بنظام الدولة المركزية القائم هل يسمح بهذه المطالب، ومدى استجابته لها، وانفتاحه على هذه الأقليات ومنحها مساحة للتعبير عن موقفها سلميًّا وداخل إطار التعددية. ولعل ظهور ما يطلق عليه “أحزاب إثنية” في دول أوروبا الوسطى وأميركا اللاتينية دليل على قدرة هذه الدول على فتح المجال أمام الأقليات كي تدخل معترك الحياة السياسة من خلال ما يُعرف بالأحزاب الإثنية. والأحزاب الإثنية يتم تعريفها على أساس أنها تنظيمات من مجموعات إثنية غير مهيمنة مرخص لها بالمشاركة في الانتخابات المحلية والوطنية وبرنامجها يحمل مطالب وبرامج ذات طبيعة إثنية أو ثقافية. ووجود أحزاب لأقليات إثنية يعني اعترافًا بدورها في الحياة الديمقراطية والسماح لها بالمشاركة بفاعلية فيها وإدماجها في المجتمع.

الأقليات في التجارب العربية (ليبيا نموذجًا)

عرفت البلدان العربية في المدة الأخيرة في إطار ما أصبح يُطلق عليه الربيع العربي ثورات عصفت بأنظمة عتيدة مما أدى إلى دخول هذه البلدان مخاض مرحلة انتقالية عرفت ظهور قوى ونزعات كانت خفية  بفعل القمع الذي كان سائدًا في ظل الأنظمة الديكتاتورية السابقة. إن مرحلة الثورة التي عرفها بعض البلدان العربية كانت فرصة سانحة لعودة الولاءات التقليدية وظهور الأقليات كقوة كانت كامنة في المجتمع. ونتوقف هنا عند حالة ليبيا، فإبّان الثورة على نظام القذافي كانت الوحدة بين المقاتلين يحددها عاملان: العامل الديني والعامل القبلي. لقد وجدت الجماعات التي كانت تنتمي لتنظيمات دينية سياسية محظورة الفرصة سانحة لقلب النظام وشكَّلت تنظيمات مسلحة لكن بقي المحدد القبلي هو الأهم في تحديد التضامن وتشكيل الوعي الجمعي للِّيبيين في مرحلة القضاء على نظام القذافي. فتشكُّل المجموعات القتالية في ليبيا كان يتحكم فيه العامل القبلي. وازداد هذا الدور في المرحلة الانتقالية نظرًا للفراغ الذي عرفه البلد منذ عقود؛ ففي غياب تقاليد أحزاب ونقابات وهيئات المجتمع المدني، وحدها الإطارات التقليدية كانت جاهزة لتمنح الفرد إطارًا يحميه ويوفر له هوية داخل مجتمع في مرحلة انتقالية. بل إنها شكَّلت إطارًا حافَظَ على التوازن والنظام الداخلي للمجتمع في فترة فراغ السلطة وسيادة الفوضى. فلما سقطت الأنظمة انهارت الدولة وأجهزتها الأمنية مما ترك فراغًا أمنيًّا نجحت الأطر التقليدية في ملئه.

فالنظام الليبي في عهد القذافي كان يعتبر القبيلة جرمًا، رغم أن القذافي نفسه استعمل القبيلة في تكريس سلطته من خلال قبيلته القذاذفة ونسج تحالفات مع قبائل أخرى من أجل الحفاظ على سلطته. ولكن مع الثورة ستلعب قوى قبلية دورًا حاسمًا في المعارك في شرق ليبيا وغربها إذ إن المعركة الحاسمة قادتها الوحدات القتالية الأمازيغية بجبل نفوسة. وهي أقليات تكاد لا تتجاوز 10 في المائة من سكان ليبيا عانت في عهد القذافي من التهميش؛ فالخطاب القومي العربي الذي حمله القذافي سنين كوريث لخطاب جمال عبد الناصر يحمل في طياته إقصاءً لهذه الأقليات وحقوقها السياسية والثقافية. وكانت الثورة فرصة مواتية للأقليات الأمازيغية كي تنتصر للظلم الذي لحقها طيلة عقود وأعلن سكان جبال نفوسة التحاقهم بالثورة منذ انطلاقها. وبرز دور الأمازيغ في الشهور الأخيرة من الثورة لما نجح مقاتلوهم، بعد أن حصلوا على الأسلحة من حلف الناتو، في حسم المعركة ضد ميليشيات القذافي وزحفوا إلى طرابلس حيث كانوا من الأوائل الذين دخلوها ونصبوا العلم الأمازيغي فوق بنايات باب العزيزية الحصن المنيع للقذافي.

كان سقوط نظام القذافي فرصة تاريخية للأقليات الأمازيغية المنحدرة في أغلبها من منطقة جبال نفوسة كي تطالب بالحصول على حقوقها. ومباشرة بعد تبني دستور مؤقت في أغسطس/آب 2011 عقدت فعاليات أمازيغية يوم 26 سبتمبر/أيلول 2011 بقيادة أحد أبرز مناضلي الحركة الأمازيغية الليبية الذي عاش سنين في المنفى، فتحي بنيخلف، مؤتمرًا في طرابلس شهد تأسيس تنظيم يدافع عن الأمازيغ بليبيا: “المؤتمر الليبي للأمازيغ”. وخرج المؤتمر ببيان (2) يبرز موقفه من وثيقة الدستور المؤقت الذي اعتُبر عنصريًّا لكونه لا يعترف بالتعدد الثقافي واللغوي والاجتماعي في البلد، ولأنه جعل من اللغة العربية لغة رسمية دون الإشارة للغة الأمازيغية. واعتُبرت وثيقة الدستور الجديدة عمومًا دون مستوى تطلعات الأقلية الأمازيغية لأنه حسب بيانها هذا، دستور ضد أسس بناء مجتمع ديمقراطي مدني متعدد وعادِل، وضد حقوق الإنسان والمواثيق الدولية. وأدان البيان أيضًا غياب الأمازيغ عن تشكيلة الحكومة الانتقالية المؤقتة. هذا البيان الأول يعكس ولادة وعي وحركة أمازيغية تعلن أن زمن إقصاء الأمازيغ قد ولَّى وأن ليبيا الجديدة يجب أن تعترف بالحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للأمازيغ، ويجب أن تؤسَّس على مبادئ المواطنة والشراكة المواطنة العادلة بدون أي تمييز بين المواطنين على أساس الأصل الإثني أو الجنس أو اللغة أو الدين. واللافت للنظر هنا أن الأقلية الأمازيغية في ليبيا التي يمثلها المؤتمر الليبي للأمازيغ لا تطالب بالانفصال ولا تدعو حتى إلى قيام نظام فيدرالي مثل الجهة الشرقية (بنغازي)، بل تدرج نضالها في إطار وحدة ليبيا الترابية؛ فهي تخوض نضالها في إطار سياسي من خلال عملها من داخل المؤسسات القائمة والتي لا تتردد كذلك في اتخاذ مواقف سياسية، منها مثلاً مقاطعة المؤتمر الليبي للأمازيغ للمجلس الوطني الانتقالي في نوفمبر/تشرين الثاني 2011 احتجاجًا على تغييب تمثيل الأمازيغ في الحكومة الانتقالية التي شُكِّلت حينئذ. وحتى هذا الموقف لا يُعتبر خارجًا عن العمل السياسي بل هو من صميم قواعد اللعبة السياسية. فالمعارضة حتى في شكلها الراديكالي ليست في آخر المطاف إلا وسيلة للعودة للاندماج في المنظومة والنسق السائد بامتيازات. إنها وسيلة “للمزايدة” وليست قطيعة مع النظام ولا رغبة أكيدة في الخروج منه والانفصال عنه.

وعلى الواجهة الدولية نجح التيار الأمازيغي الليبي حديث النشأة في تقديم مرشحه فتحي بنيخلف ليُنتخب رئيسًا للمؤتمر العالمي الأمازيغي بالدورة المنعقد في جربة بتونس 2011. وهو المؤتمر الذي يضم ممثلين عن الأمازيغ بالمغرب والجزائر وتونس وجزر الكناري والمهجر. ولقد شهد هذا المؤتمر في دورته الأخيرة رفع تمثيلي أمازيغ ليبيا من مقعدين إلى خمسة مقاعد.

إن الأقلية الأمازيغية في ليبيا، من خلال أنشطتها منذ سقوط نظام القذافي، عازمة على انتزاع حقوقها الثقافية في هذه المرحلة الانتقالية؛ فعلى الواجهة السياسية والثقافية يخوض المؤتمر الليبي للأمازيغ النضال في الداخل والخارج. وهو يعبّر في كل مناسبة عن مواقف الأمازيغ من المستجدات التي تعرفها الساحة السياسية الليبية. هذا النضال السياسي يصاحبه ضغط على المستوى العسكري، فلا يزال مقاتلو جبل نفوسة يحتفظون بترسانة كبيرة من الأسلحة التي غنموها من ميليشيات القذافي. وهي ورقة يستعملونها في الضغط على الحكومة في التفاوض من أجل الحصول على امتيازات والمشاركة في تدبير البلد مثلها مثل ورقة سيف الإسلام بن القذافي الذي ما زال معتقلاً لديهم.

وإذا كانت القبائل الليبية التي تستوطن على طول الشريط الشمالي للبلد سارعت لجني ثمار الثورة فإن مجموعات إثنية وقبلية تشكِّل أقلية في البلد ستظل خارج حلبة الصراع من أجل اقتسام الغنيمة، وهي أساسًا الطوارق وخاصة القبائل الزنجية في الجنوب مثل التوبو. وهي مجموعات حتى على مستوى الحقوق المدنية مقصية، فلا يمكن لها ممارسة حقها في الانتخاب، لأن جزءًا من أفرادها لا يتوفرون على الوثائق الرسمية نظرًا لأن نظام القذافي حرمها منها لاعتبارات سياسية وعنصرية. لكن هذا لا يعني أن لا دور لها في مستقبل البلد، فهي تحتل مواطن إستراتيجية على الحدود الجنوبية والغربية للبلد وهي مناطق تعرف توترات وانفلاتًا أمنيًّا دائمًا نتيجة الحركات التي تنشط في بلاد الساحل والصحراء (القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وحركات الطوارق المسلحة، والحرب الأهلية في دارفور). ولا يمكن في أية حال من الأحوال تهميش دور هذه الأقليات إلى ما لا نهاية، وأية سياسة إقصاء لها سينتج عنها عواقب وخيمة لقدرة هذه الأقليات على الحركة وتماسك أعضائها وتوفرهم على وعي جمعي إثني أو قَبَلي قوي مع محافظتهم على نظام حياة بدوي ترحالي ساهم في تكريس هذا الوعي وجعلهم في نفس الوقت بعيدين عن المراقبة المباشرة لأجهزة الدولة.

حقوق الأقليات والبناء الديمقراطي

إن الثورات التي عرفتها بعض الدول العربية ساهمت بشكل كبير في عودة الانتماءات الجماعية المبنية على الهوية التقليدية وأواصر تضامن ما قبل الدولة القُطرية. فالفرد عاد، في لحظات الأزمة والشك وعدم اليقين وعدم الثقة في المستقبل، إلى ما يضمن له نوعًا من الحماية والاطمئنان. إنها أنظمة حكمت المجتمع بيد من حديد على مدى عقود مكرِّسة الفكر الأحادي، مما خلق فراغًا في الوعي السياسي لغياب أحزاب حقيقية ونقابات ومجتمع مدني يساهم في بناء هوية سياسية مبنية على علاقات تحددها برامج سياسية ومصالح مشتركة بين المنتمين إليها مع تكريس لتقاليد ديمقراطية. ولما انهارت هذه الأنظمة وجد الفرد نفسه وحيدًا في مواجهة المجهول لذا سيعود إلى الهويات التقليدية الجاهزة: اجتماعية (إثنية-القبيلة)، أو دينية (السلفية وغيرها من الحركات الدينية أو الصوفية). ومن الطبيعي في مثل هذا المناخ ستطفو على السطح الأقليات القبلية والإثنية التي ستحاول الدفاع عن مصالحها وسط مرحلة انتقالية غير واضحة المعالم.

فرغم أن الدولة الوطنية في جُلِّ البلدان العربية منذ نشأتها كانت تهدف إلى تقويض البنيات التقليدية، فإن هذه البنيات الإثنية والقبلية لم تمت حتى و إن تم إعلان تشييعها بسرعة. فهي إما تأقلمت مع نظام الدولة الوطنية المركزية أو كُبِتت وبقيت فاعلة في الخفاء. أحيانًا يتم تفعيلها من طرف الفاعلين السياسيين والاجتماعيين من أجل خدمة مصالحهم سواء في مواجهة الدولة أو في خدمتها، وأحيانًا تقوم الدولة نفسها بإعادة إحياء واستعمال القبيلة كأداة في وجه معارضيها أو ضد أي تغيير في غير صالحها. وحضور الإثنيات لا يعني بالنسبة لنا نكوصًا أو تعبيرًا عن ضعف الوعي السياسي في المجتمع المعني. هذا التفسير السائد في تأويل هذه الظاهرة يرتكز على كون المجتمع لم يعرف بعدُ تطورًا في بنياته السياسية والاقتصادية تمكنه من الوصول إلى نسج علاقات أفقية تحددها المصالح السياسية والاقتصادية ويتحكم في تحالفاتها علاقات تتجاوز رابطة الدم والقرابة التي تميز المجتمعات التقليدية.

إن هذا الفهم الذي يهيمن على التأويلات حول الإثنية أو القبيلة في إفريقيا والعالم العربي يرى في هذه المجتمعات ديمومة للأطر والبنى التقليدية القديمة، ويرجح قوة هذه البِنى مقابل الوعي الذي من المفترض  أن يصاحب النمو الحضري (وعي وطني أو طبقي أو مهني…). إنه فهم ينخرط في رؤية تعود إلى المرحلة الاستعمارية التي ترى في هذه المجتمعات بنية ثابتة ومجتمعات غير ديناميكية. فحاضرها ما هو إلا استمرار للماضي والقبيلة هي جوهر غير قابل للتغيير. هذه النظرة السلبية للقبيلة تعود إلى النظرة الدونية التي طبعت الأيديولوجيات والفلسفات السياسية الكبرى التي سادت في القرن العشرين كما أوردنا في دراسات أخرى (3). فالعلاقات القبلية والإثنية اعتُبرت قبل دولاتية في رؤية أحادية الخط لتاريخ الإنسانية. ولا يزال يُنظر إلى القبيلة على أساس أنها تنظيم بدائي عتيق نقيض للحداثة والعقلانية وخاصة أمام العولمة التي أصبحت الأيديولوجية السائدة. فأشكال التنظيم السياسي والاجتماعي أصبحت منمطة وموحدة وأي اختلاف ناتج عن الخصوصية وما هو محلي ونابع من البنيات الأصلية والتقليدية أصبح لا يعدو كونه ظاهرة ضد التطور والتقدم ومسيرة التاريخ الإنساني في تصور قاصر ومقصود مؤطَّر بالفكر الأحادي المهيمن حاليًا في وسائل الإعلام ولدى نخبة من المثقفين.

ومقابل الرؤية التي ترى في كل ما هو قَبَلي بُعدًا ماضويًّا سلبيًّا، لا يرى بعض الأنثروبولوجيين في ديمومة القبيلة مثلاً نوعًا من التقليدية والمحافظة بل ينظر إلى هذه الديمومة من زاوية التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. فنجاعة ومطاطية القبيلة يجعلها أكثر آنية وتأقلمًا مع التغيرات. ومن الباحثين من يعتبر أن الديمقراطية القبلية يمكن أن تحل محل الديمقراطية الغربية. ويذهب بيير بونت Bonte بعيدًا حين يتساءل عن أصول الديمقراطية الغربية التي توجد جذورها في اليونان القديمة أي في مجتمع قبلي تراتبي وعبودي. ويرى أن القبيلة يمكنها أن تمنح للمخيال السياسي الغربي مرجعيات من أجل بناء نمط ونموذج يتعايش فيه الفرد والمجتمع بانسجام (4). بل إن بعض الباحثين لم يترددوا في تمجيد المجتمعات القبلية معتبرين إياها مجتمعات ديمقراطية حيث تسود المساواة بين الأفراد والتضامن والتقسيم العادل للثروات، وما استمرارها إلا شكل من أشكال مقاومة المجتمع لتسلط الدولة. فبيير كلاستر في كتابه “المجتمع ضد الدولة” (5) يدافع عن هذا الطرح الذي نجد امتدادًا له كذلك في كتابات الأنثربولوجيين الذين تبنوا النظرية الانقسامية حيث رأوا في المجتمعات القبلية شكلاً من التنظيم الذي ابتدعته هذه المجتمعات في مواجهة  عنف وهيمنة الدولة.

ففي زمن الأزمات وضعف مؤسسات الدولة التي تضمن للفرد العيش الكريم والحماية والتضامن وقت الشدة، فإن الملاذ الأخير والوحيد يبقى القبيلة فهي توفر للأفراد ضمانًا ماديًّا ونفسيًّا وشعورًا بالأمان والحماية أمام عجز الدولة عن توفير ذلك؛ فالجماعات القاعدية (مثل القبيلة والإثنية) كانت في الماضي تضمن لأفرادها النسب والأرض والمال وحق الزواج والأمن، وهنا يكمن سر استمراريتها وحيويتها. فهذه الامتيازات وهذه الشروط غائبة حتى الآن في جُلِّ الدول الناشئة؛ فالفرد يجد نفسه في مواجهة حياة تزداد تعقدًا بدون توفر شروط مادية ومعنوية لمواكبتها. وتفعيل رابطة الدم والقرابة من طرف الأفراد يتم بشكل واعٍ ومدروس من أجل ضمان استمرار العيش. فالهوية الأولى والأساسية يحددها ما هو قرابي لأنها هوية ملموسة يوميًّا ولها مردودية ونتائج آنية على حياة الأفراد أما الهويات الأخرى بما فيها الهوية الوطنية فإنها تظل وهمية وعاطفية وأحيانًا مفقودة مادام هدا الوطن-الدولة لا يوجد له تجسيد مادي في الحياة اليومية بل لا يمثل في أغلب الأحيان سوى أجهزة سلطة رادعة قامعة وكابحة ومصدر لجمع الضرائب.

وعمومًا لا يمكن أن نحكم على الأقليات حكمًا سلبيًّا فإن دخولها معترك السياسة قد يساهم في بلورة فكر سياسي متعدد قائم على احترام الخصوصيات والتنوع الثقافي والإثني والديني للأقليات داخل البلد في مرحلته الانتقالية شريطة أن لا ينتج خطاب الأقليات أيديولوجيا عنصرية حاقدة ضد الفئات التي تعتبر أغلبية.

فلا يمكن لأي مجتمع ديمقراطي أن يتأسس على فكر أحادي يرى في كل خصوصية محلية أو أقلية تهديدًا لوحدته وانسجامه لأن نموذج الدولة السائد في البلدان العربية هو نموذج الدولة اليعقوبية المركزية التي لا تقبل بحقوق الأقليات، وهو نموذج ورثته هذه الدول من الفترة الاستعمارية أو أنتجه نظامها الاستبدادي. تدريجيًّا احتلت أجهزة الدولة ما بعد الاستقلال مواقع السلطة ومدت سلطتها أكثر عمقًا في نسيج المجتمع التقليدي، معتمدة على أطر وموظفين من خارج المجال ومنهم محليون مجبرون على تطبيق قوانين ونظم مستوردة. إن الدولة الحديثة لا تعترف بالخصوصيات لأنها ترى فيها تهديدًا لوحدتها أو بالأحرى لاحتكارها لجميع الصلاحيات. ومن أهم ذلك القبيلة، ففي دراسة بورديو للدولة، لا يحصر دورها في احتكار الرأسمال المادي بما فيه العنف الجسدي الشرعي، بل في احتكار جميع الرساميل: الرمزية والثقافية وغيرها. فالدولة لا تقبل أن يشاركها أي طرف في المجتمع وتعمل على سلب صلاحيات الأجهزة التقليدية في تدبير الشأن العام . وفي هذا السياق يصعب على الأقليات لعب دور في إطار الانتقال الديمقراطي في بعض الدول لأن الثقافة السياسية السائدة رغم الثورات التي عرفتها هذه الدول لا تزال محكومة بالحذر بل مبنية على الإقصاء تجاه الأقليات.

استنتاج

على الدول العربية أن تمر إلى مرحلة بناء ثقافة سياسية قائمة على التعدد الثقافي واللغوي والديني الذي حتمًا سيعطي لكل الأقليات حقوقها ويعترف بخصوصيتها دون أن يكون في ذلك تهديد لوحدة البلد.  وحتى إذا كنا لا نعتبر المجتمع في الوقت الحالي مؤهَّلاً للأحزاب الإثنية على شاكلة ما هو قائم في أميركا اللاتينية أو بلغاريا فإن الاعتراف الدستوري بالتنوع اللغوي والثقافي والحرية الدينية كفيل بضمان حقوق الأقليات مع العمل على نشر قيم التسامح والحوار بين مكونات المجتمع.

إن الحركات المعبرة عن مطالب الأقليات الإثنية ورغم انطلاقها من قاعدة إثنية لا يجعل منها تعبيرًا عن انطواء هوياتي ضد الديمقراطية. كما أن الطابع السياسي الذي تتخذه المطالب المؤسسة على الإثنية ليس ضدًّا على الديمقراطية والحداثة بل قد يُعتبر عنصرًا مهمًّا في مسار الديمقراطية فاسحًا المجال أمام اعتراف الدولة المركزية بحقوق جزء من سكان البلد ومنحهم مواطنة كاملة. إن الأقليات بدعوتها ونضالها في سبيل انتزاع حقوقها اللغوية والثقافة والسياسية والمدنية تساهم في تقدم مسيرة الديمقراطية في البلد. كما أن انخراط الفرد في الهوية الإثنية في مواجهة الدولة ليس أمرًا سلبيًّا دائمًا بالنسبة لتقدم الديمقراطية، بل يمكن أن تكون الوسيلة الوحيدة لبناء ذاته. فالانطواء الهوياتي يشكِّل أحيانًا وسيلة لبناء ذات الفرد كفاعل اجتماعي قادر على المبادرة والاحتجاج والمشاركة والتفاوض ودمجه داخل النسق العام للدولة.

________________________________________

د. رحال بوبريك – أستاذ علم الاجتماع، جامعة محمد الخامس-أكدال، الرباط.

المصادر

1-  Antonela Capelle-Pog?cean et Nadège Ragaru, En quoi les « partis ethniques » sont-ils « ethniques » ? Les trajectoires du MDL en Bulgarie  et de l’UDMR en Roumanie, Centre d’études et de recherches internationales, Sciences Po, Questions de Recherche / Research in Question, N° 25 – Juin 2008,

2- للاطلاع على البيان http://tamazgha.fr/Le-Congres-national-amazigh-libyen.html

3- رحال بوبريك، زمن القبيلة، السلطة وتدبير العنف في المجتمع الصحراوي، دار أبي رقراق، الرباط، 2012.

4- Voir la préface de P. Bonte au livre de M. Villasanté-de Beauvais, Parenté et politique en Mauritanie, l’Harmattan, Paris.

5- Claster, P., La société contre l’Etat, Minuit, Paris, 1974

  Bourdieu, P., La raison pratique, Paris, Seuil, 1994ة p. 109.

الى الأعلى

 المصدر: مركز الجزيرة للدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى