صفحات الرأيعبدالناصر العايد

الأقليات في العالم العربي: بين الخوف والقلق!


عبد الناصر العايد

مهدى للأب باولو داليلو

وُجدت إشكالية الأقليات في كل زمان ومكان، بين الجماعات المتخالفة وداخل كل جماعة، حتى في القبائل متحدة الجذر, حيث وجدت فروع صغيرة وأخرى كبيرة. وهي إشكالية ديناميكية متبدلة لارتباطها بقضية الهوية, المعقدة والمرتبطة بدورها بعامل الزمن. لكن الشعور الأقلوي محدد وموصوف منذ القدم، وقد يعيشه المرء في أي مرحلة من مراحل حياته حتى لو لم ينشأ في بيئة أقلوية، ويمكن أن يختبره على نحو عابر في سياق حياته اليومية. وهو شعور مؤلم، قابض، مشنج، موتر، يبعث عواطف عديدة، تبدأ من الشعور بعدم الراحة، وتنتهي بالرعب من فكرة الاستئصال البيولوجي.

لم تعش الأقليات في العالم العربي منبسطة الأسارير، لكنها أيضا لم تتعرض قط لخطر الإبادة المادية. ولم تعان من سطوة غريزة الخوف على البقاء, المعطلة لكافة أنواع الفعاليات الواعية، أو التفاعل الايجابي مع المحيط العام. لكنها أيضا لم تفارق منظومة المشاعر الأقلوية. ونستطيع القول إن الأقليات في المنطقة العربية حظيت في معظم الأحيان بأفضل أنواع المشاعر الأقلوية: القلق.

حين يأمن الأقلوي على حياته يفارقه الخوف، لكن القلق لا يفتأ يساوره من ضآلته الكمية، ويبدأ بصناعة ضخامة نوعية تعوضه وتشدُّ من أزره أمام الأكثرية، ومع ضعف إمكانياته المادية لا يتبقى له من سبيل للتضاخم سوى الإبداع، الذي يعتبر القلق محركه الأساسي. لكن ماء الأقليات الضحلة لا تستطيع أن تؤوي كائنا كبيراً، لذلك يبحر المبدع الأقلوي إلى ماء الأكثرية، وهناك يُحتفي به غالباً، لما يمتلكه المختلف والغريب من جاذبية، ولأن مستوى إبداعه أعلى بكثير من مستوى نضيره الأكثروي، المسترخي والمنبسط.

يعج تاريخ منطقتنا منذ أن أصبح العرب المسلمين أغلبيتها، بأمثلة لا تقع تحت الحصر لمبدعين من مختلف الأقليات لعبوا في زمانهم أدواراً بارزة في ميادين الفكر والحرف والإدارة والتجارة والفنون. وانتهى الأمر إلى أن يكون المبدعون في مجتمعنا من الأقليات، نمطياً. وهو انطباع لايزال قوياًًً مع حضور الأقلويين البارز في المشهد الإبداعي العربي اليوم، وخاصة في ميادين الثقافة والفنون. وقد وفرت هذه الحالة نوعاً من الاندماج الطرفي، وشكل المبدعون نوعاً من الضمانة, حمت الأقليات من عسف الأكثرية المحتمل.

لكن المشاركة في السلطة السياسية بقيت عقدة عصية على الحل، وحالت دون تحقق اندماج الأقليات الكامل بمجتمع الأكثرية. ووقف مفهوم الولاية الإسلامي حاجزا عظيماً دون ذلك. لكن نُخب الأقليات لم تسقط هذه القضية من تفكيرها نهائياً. وحدث منعطف كبير في هذا الشأن بعيد اتصال الغرب بالأقليات المسيحية في الشرق، وتحولها إلى مُستقبل نوعي لحضارته، وحاضنة لمصالحه، إذ ظهر بالتزامن مع ذلك ما يمكن تسميته بأقلية غير تقليدية انبثقت من الجسد الإسلامي العربي المديني، اتخذت من الغرب مرجعية لها، ولم تكن أقل تناقضاً مع المتن من الأقليات التقليدية. وبتحالف هاتين الأقليتين ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر، ظهرت مشاريع سياسية نهضوية مشتقة من حداثة ذلك الزمان، تتضمن حلاً لمشكلة المشاركة السياسية للأقليات، أبرزها المشروع النهضوي القومي والمشروع التحرري الإنساني العام، وكلاهما يسلك سبيلاً بعيداً عن الدين.

ربما كان سيكتب للمشاريع السياسية للأقليات، أو أحدها، النجاح فيما لو قيض لها أن تنضج بهدوء وبالطاقة الذاتية، ولفتحت الباب للاندماج المجتمعي والمشاركة في السلطة، وربما تقلدها في مرحلة من المراحل. لكن تدخل الغرب الخارجي إبان المرحلة الاستعمارية لفرض إشراك الأقليات في الحكم قسراً، بما فيها الأقلية المتغربة، أجهض فرص النجاح تلك. لقد ضمن الغرب مصالحه المستقبلية من خلال تمكين الأقليات من سلطة منبتة عن الواقع ومعتمدة على دعمه، وخرَّب صيغة الاستقرار عبر القلق التي ترسخت عبر الزمن بين الأقليات ومحيطها الأكثروي، دون أن يقترح ما يؤصل تلك السلطة، ويمنع الانقلاب العنيف عليها، كما يحدث اليوم، لينكفئ الأقلويون الى كهف الخوف الغريزي البدائي.

المنعطف الذي تواجهه قضية الأقليات في المنطقة في مرحلة الربيع العربي، وهو ليس مأزقاً كما يظنُّ البعض، لم يأت من الفراغ؛ إن له أساساً واقعياً مادياً هو نواتج الموجة الحضارية الثالثة، ثورة المعلومات والاتصالات، التي أتاحت للأكثرية المغيبة فرصة الظهور والتعبير عن نفسها. إن أخذ هذا الأساس بعين الاعتبار عند البحث، هو الخط المستقيم الذي يوصلنا إلى التصور الأدق لما يمكن أن تؤول إليه الأمور مهما تشعبت الرؤى والتكهنات.

لن يكون وارداً أن ترضى الأقليات بوظيفة المبدع الذي يعمل لدى الحاكم الأكثروي، فموجة الوعي بالحقوق الإنسانية العامة والقدرة على المطالبة بها, ليست حكراً على الأكثرية. سيكون صوت الأقليات عالياً في الحقبة القادمة ومسموعاً بفضل أدوات العولمة وثقافة ما بعد الحداثة التي تبشر بصعود ما يسمى بالمجتمعات المحلية الأهلية الصغرى. وستحصل على الحق بممارسة السياسة والحكم، خاصة عندما تتحالف سياسياً, الأقليات التقليدية وتلك الحديثة التي ستنتزعها العولمة من المتن الأكثروي، والتي يحتمل أن تفوق بمجموعها الأكثرية.

المشروع السياسي للأكثرية ليس الإسلام السياسي، إن المشروع النهائي للأكثرية في كل مكان من العالم هو الديمقراطية والمواطنة المتساوية. ومنحى التطور في عالمنا العربي على الرغم من كل الشكوك والعماء الذي يحيط به، لا يبدو أنه سيشذُّ عن هذه القاعدة. لكننا نذكر أيضاً ولكي لا تؤخذ الأمور بالنتائج العاجلة، أنه ليس بمقدور فئة سوى الأكثرية الواثقة بنفسها والمتمكنة من سلطتها أن تنهض بمشروع الديمقراطية، وهذا قد يعني فيما يعني انفرادها بالسلطة حيناً من الزمن.

([) كاتب وروائي سوري

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى