محمد تركي الربيعومراجعات كتب

الأكاديمي الإيراني حميد دباشي: لم نعد مخلوقات ما بعد كولونيالية/ محمد تركي الربيعو

 

 

في كتابه الجديد «هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟» الصادر قبل فترة قصيرة عن (دار المتوسط، ميلانو، ترجمة عماد الأحمد)، نجد الأكاديمي الإيراني/الأمريكي حميد دباشي كعادته مشاكسا ومجددا الرؤية حيال الرحلة الفكرية والإرث النظري لجيل كامل من مفكري مرحلة ما بعد الاستعمار، حيث يرى دباشي في هذا الكتاب، الذي بدى لنا من خلال مدخله الأساسي الذي اعده دباشي كما يقول تحت «وطأة الإلحاح الرهيب للحاضر، وكشكل من أشكال الشهادة على التاريخ، خاصة في ظل الآثار المجتمعة للحركة الخضراء في إيران والثورات العربية التي لم تتحمل بعد اليوم ملل هذه التشعبات التافهة مثل «الإسلام والغرب»، و»الغرب وبقية العالم»، بمثابة استكمال لمقولات ومراجعات دباشي حول النقد والارث الفكري لمنظري ما بعد الاستعمار الذي طرحه في كتابه «ما بعد الاستشراق: السلطة والمعرفة في زمن الإرهاب» الصادر كذلك نهاية العام الماضي عن دار المتوسط..

من هنا بدت المقدمة التي أعدها الكاتب بمناسبة صدور هذا الكتاب، تختلف بعض الشيء عن متنه الذي يضم عددا من المقالات حول إيران والسياسات الأمريكية تجاهها أو حول ذكرى وفاة إدوارد سعيد، كان قد كتبها الكاتب في فترات زمنية مختلفة تمتد من عام 2007- 2012. مع ذلك فإن هناك فكرة أساسية سواء في المقدمة أو في المقالات بقيت تسيّر مجمل أفكار دباشي، هذه الفكرة عبر عنها دباشي في المقدمة عبر القول «إن المرحلة الفكرية التي ولدتنا فكريا – بدءا من فانون مرورا بإدوارد سعيد – أخذت مجراها. وأن النظام المعرفي الذي ولد تلك الرؤية لم يعد ينتج معرفة ذات مغزى. ولذلك لم تعد كلمة «نحن» وفق دباشي تعني الشعوب المجتمعة في جنوب العالم، خاصة بالنسبة للبعض منا، الذين هاجروا إلى شمال العالم مطاردين رؤوس الأموال بحثا عن فرص عمل، وذهبت رؤوس الأموال – بالتأكيد – عبر الحدود لتطارد عمالتنا الرخيصة في جنوب العالم. من هنا يعتقد صاحب كتاب «ما بعد الاستشراق» أن كلمة «نحن» لم تعد متعلقة باللون أو بالقارة، بل أخذت تشمل جميع أولئك المحرومين من العملية العالمية لرأس المال سواء في شمال كوكب الأرض أو جنوبها»، كما «أن خطوط التحالف والتضامن قد تخطت منذ فترة طويلة الثنائية الزائفة القائمة على الغرب وبقية العالم».

ولتوضيح رؤيته هذه، يشير دباشي في هذا السياق، إلى الردود التي جلبتها مقالة له كان قد كتبها لموقع الجزيرة نت بنسخته الإنكليزية في يوليو 2012، حيث انتقد فيها نيكولاس كريستوف كاتب العمود في صحيفة «نيويورك تايمز»، بسبب سلسلة من المقالات التي كتبها الأخير حيال الداخل الإيراني، والتي برأي دباشي كانت مفعمة ومشبعة بالكليشيهات والأفكار النمطية حول المجتمع الإيراني. غير أن هذه المقالة سرعان ما أثارت ردود فعل ودفعت كاتبا في صحيفة «جيروزاليم» إلى الرد على دباشي من خلال اتهامه بإساءة استخدام مصطلح «الاستشراق» واستعماله للاستقواء على السيد كريستوف. وبحسب كاتب المقال سيث فرانتزمان، فإن مصطلح الاستشراق الذي استخدمه دباشي، أو بشكل أكثر تحديدا الاتهام القائل بأن شخصا ما «مستشرقا»، يجب استئصاله من الخطاب، مضيفا بأن هذا المصطلح أصبح «لا معنى له تطبيقيا». كما يعتقد فرانتزمان أننا بانتقادنا للكليشيهات الاستشراقية، نقوم في الحقيقة على تضليل العالم «إنها محاولة لجعل العالم جاهلا، بحيث أن يتحدث عن الصين للغرباء. وعلينا – كما هو مفترض – الاعتماد على إسلاميي مالي: ليشرحوا لنا لماذا يقومون بتدمير «الأصنام الكاذبة» الموجودة في المقابر الصوفية».

ورغم النبرة والمنطق غير الناضج الذي ميز هذا الرد (خاصة على مستوى تجريد كاتب المقال لدباشي من الجنسية الأمريكية التي يحملها رغم أصوله الإيرانية، في حين يمكنه هو في الوقت نفسه أن يكون مواطنا أمريكيا ومستوطنا إسرائيليا)، فإنه وفقا لدباشي يبقى المقال يتضمن فكرة مشروعة، تتمثل في إساءة الاستخدام المنتشر لمصطلح «الاستشراق» في الكتابات الصحافية، وهو الأمر نفسه الذي بقي يُشعِر إدوار سعيد بحالة من الاستياء إلى يوم وفاته، حيث لم يكن لكتابه ومفهومه عن «الاستشراق» تأثير كبير، وحسب، كما يستحقان، بل حظيا أيضا باساءة استخدام كبيرة، وعلى نطاق واسع أيضا. ويستمر هذا الاعتداء متواصلا حتى يومنا هذا. ويرى دباشي أن مفهوم «الاستشراق» أصبح اليوم مجموعة من الكليشيهات، أو الأفكار النمطية الصحافية. وتكمن المشكلة مع الاستخدامات والانتهاكات الصحافية، في أن الكتاب يميلون إلى توثين المصطلح من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء معرفته وشرحه، ونقل ما يعنيه، وكيف يمكن له – كمفهوم- أن يتطور، وأن يحظى، بحياة عضوية. كما أن العديد من هؤلاء الكتاب لا يرغب في أن يعترف بأن طريقة عمل إنتاج المعرفة التي نصنفها باسم «الاستشراق» والتي كانت موضع النقد الرزين لإدوارد سعيد قد تفككت الآن، ووصلت إلى مرحلة الانحلالية التي عرفتها. فقد كان الاستشراق نتاجا للحظة معينة، في تاريخ الاستعمار الأوروبي، وأنه – نتيجة لذلك- أخذ يتغير ويتداعى مع مصير الإمبريالية. أما اليوم فإنه علينا السعي إلى صياغة للاستشراق مختلفة من الناحية التاريخية، خاصة أن الوضع الحالي، أخذ يشهد وضعا غير منتظم للإنتاج المعرفي، أو حالة من حالات التناضح الداخلي المعرفي، لم يعد فيها التشكيل العدواني لأحد حقول المعرفة العامة عن المسلمين يفضي إلى التشكيل المعاكس لذات، تتمتع بالسيادة (أوروبية أو أمريكية) وذات عارفة بكل شيء (كانطية)، بل أن هذا التحول تمثل في الانتقال من دراسات الاستشرق الكلاسيكي إلى دراسات المناطق، ومنها إلى المعرفة التي تستعمل لمرة واحدة، عبر بعض مراكز البحوث الأمريكية والأوروبية، كما ترافق هذا التحول بالتزامن مع صعود امبراطورية من دون هيمنة. هذا التناضح الداخلي المعرفي، أخذ يفضي إلى الأوضاع المتنوعة لإنتاج المعرفة القابلة للاستخدام، لمرة واحدة، وغير المبنية على أي معرفة دائمة، أو متماسكة، ولكنها في واقع الأمر على غرار السلع الاستهلاكية التي توفر المتعة اللحظية، ثم يتم التخلص منها بعد استخدامها لمرة واحدة فقط. إنها «المعرفة السريعة» التي يتم إنتاجها، على غرار الوجبات السريعة مع أكواب بلاستيكية، وسكاكين بلاستيكية، وشوكات بلاستيكية، وفائدة غذائية سيئة وإشباع كاذب. من هنا – فإننا لم نعد– بعد الآن شهودا على التشكيلات التأديبية المستمرة للاستشراق، أي في المرحلة التي أحسن ادوارد سعيد تشخصيها. وبالتالي، لم يعد يظهر في الأفق أي مستشرق رئيسي وفقا للنموذج الذي نعرفه من القرنين التاسع عشر، إذا قارنا الدراسات الأكاديمية الرائعة لشخص مثل أغناتس غولدتسهير (1850-1921) على سبيل المثال مع آلة النسخ الدعائية المتكدسة في الصحف والمعروفة باسم برنارد لويس (1916).

سياسات خطابية جديدة:

بناء على ذلك، يدعونا دباشي إلى الكف عن توجيه نقد آثار الاستشراق إلى العديد من الصحافيين ومراكز البحث الغربية العاملة اليوم في حقل دراسات الحياة اليومية للمسلمين، خاصة أننا في العالم الإسلامي نعيش مخاض العبور إلى جغرافية تحريرية جديدة، تحتاج منا إلى استعارات جديدة، وتحول جذري لنظام المعرفة الذي يعد جزءا لا يتجزأ من شعار الساحات العربية «الشعب يريد إسقاط النظام». لأنه عندما صرخ الناس في كامل العالمين العربي والإسلامي ذلك الشعار، فإنهم لم يعنْوا من خلاله إسقاط النظام السياسي فحسب، بل كذلك نظام المعرفة السائد بكليشياته التقليدية وثنائياته ما بعد الاستعمارية. وهذه الإستراتيجية الخطابية الجديدة تتطلب تغيير هندسة الحوار تماما، ومخاطبة المحاور الوحيد الذي تبقى لنا جميعا: العالم الممزق الذي يدمر الذات. وبمجرد قبول هذه الهندسة التحررية سوف نجد عوالم بديلة تظهر في ما وراء «الغرب وبقية العالم». تلك العوالم موجودة، وتمتلك إمكانيات مختلفة هنا والآن، ولا تقع في الماضي. من هنا فإن أي تأجيل لإعادة التشكل الجذرية لهذا النظام المعرفي الذي نقرؤه في الثورات العربية والإسلامية، سيبقينا تحت رحمة هواة من المتخصصين في الشرق الأوسط أمثال برنارد لويس المفضل لدى صحيفة «جيروزاليم بوست» الذي يعتمد على مفرداته المفضلة، في قراءته لهذه الثورات، من خلال مفهومه العارض والعجوز للجنس وبيوت الدعارة، حيث يقول في إحدى مقابلاته «لديك هذه الأعداد الهائلة من الشباب الذين يترعرعون من دون وجود المال، للذهاب لبيوت البغاء، أو لدفع المهور، مع الرغبة الجنسية المستعرة. فمن جهة، يمكن أن تؤدي إلى الانتحاري الذي تجذبه عذارى الجنة – الفتيات الوحيدات المتاحات أمامه. ومن جهة أخرى، الإحباط المحض».

في سياق آخر، يلفت دباشي نظرنا إلى مفارقة أخرى حيال مصطلح «الاستشراق»، تتمثل في حالة التشابه بين موقف الممسكين بزمام السلطة في إسرائيل من مصطلح «الاستشراق»، وحالة الإعجاب والإساءة لهذا المصطلح من قبل القابضين على السلطة في الجمهورية الإسلامية. فالشيء المشترك بين الدعائيين الإسرائيليين ونظرائهم في الجمهورية الإسلامية أنهم جميعا في السلطة. ليس هناك مقدار ذرة من الفرق الأخلاقي بين الصهاينة على شاكلة فرانتزمان الذين يريدون إسكات الفلسطييين، وبين موظفي الدعاية في الجمهورية (مثل محمد مارنداي) الذين يرغبون في كتم أصوات خصومهم. فمثلاً تمول الجمهورية الإسلامية طلاب الدراسات العليا الفقراء في أي مكان من العالم الإسلامي لينضموا لاحقا إلى أفواج قوات المؤسسة الدينية الحاكمة للترويج لقراءاتها المتشددة للمذهب الشيعي، التي تتفق مع المصالح السياسية للأيديولوجيا الحاكمة، يطلق هؤلاء الدعائيون على أنفسهم اسم «الأساتذة» ويعملون في جامعة طهران. كما يقومون بكتابة ونشر المقالات على موقع الجزيرة ليعادوا حمولة الاستشراق في الغرب، وليطلقوا تهمة مستشرق على معارضي التيار المحافظ أمثال كروبي وحسين موسوي، وهو سلوك مثالي عن حالة التعايش بين السلطة/المعرفة التي تحدث عنها كتاب «الاستشراق».

وبناء على هذه المقارنة يخلص دباشي إلى نتيجة مفادها، أن تعريف مصطلح الاستشراق اليوم بوصفه يتعلق بالقوة الأوروبية والمعرفة التي تحتاجها لحكم العالم لم يعد دقيقا، وقد تجاوزته الأحداث بدءا من الثورة الخضراء في إيران مرورا بالربيع العربي، اللذين أعلنا البحث عن مستقبل هذه الشعوب فيما وراء الخيال الأوروبي. وبدلا من ذلك، فحسب دباشي، علينا النظر إلى هذا المصطلح بوصفه مشروعا غير مكتمل بعد، وباعتباره لم يعد يفسر الأمور وفق ما يرتئيه الرجل الأبيض الوهمي الذي جلس في عقل إدوارد سعيد طوال الحياة، بل عبر صياغة تعريف جديد لهذا المصطلح كونه يمثل العلاقة بين المعرفة والقوة التي احتاجتها كل السلطات في العالم لإنتاج المعرفة المتوافقة مع مصالحها، كما حدث مع العرب والفرس والمغول والرومان.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى