صفحات الثقافة

الأميّة المقنّعة/ خيري منصور

 

 

حين شاع استخدام مصطلح البطالة المقنعة سرعان ما خلعه الهواة من غير الاختصاصيين من سياقه الاقتصادي، ليتم توظيفه في مجالات أخرى وعلى نحو مجازي، والبطالة المقنعة ليست اقتصادية فقط، وقد تكون سياسية بامتياز، أو ثقافية بالمعنى الأشمل للثقافة، باعتبارها المرادف للحضارة، كما قال ت. س. أليوت.

وأذكر أن الراحل صادق جلال العظم نشر في كتابه النقد الذاتي بعد الهزيمة إحصائية عن عدد ساعات العمل في الوطن العربي، فكانت أقل من ساعة واحدة، وهذا ما كان الناس يتداولونه على سبيل الدعابة في اربعينيات القرن الماضي، حين كان الموظف في الدولة البيروقراطية يضع سترته أو طربوشه على المكتب في الصباح ويعود إليهما عندما يأزف وقت الانصراف.

وإذا كانت للبطالة أقنعة عديدة، منها التظاهر بالعمل أو الانهماك على طريقة أم العروس، كما يقال في الأمثال، فإن أقنعة الأمية من طراز آخر، وسأتوقف عند ثلاثة منها في هذا المقام:

القناع الأول أكاديمي سواء كان بالحصول على لقب، أو السعي نحو الارتقاء الوظيفي بأبحاث تقليدية، وهنا يجب التذكير بجذر مصطلح الأكاديمية، وهو قبر المحارب الأغريقي أكاديموس الذي كان يتحلق حوله المشتغلون في الفلسفة والباحثون عن المعرفة. ولم يكن أكاديموس نفسه أكاديميا، تماما كما أن ماركس لم يكن ماركسيا كما يقول التوسير، والسيد المسيح لم يكن مسيحيا كما يقول برنارد شو، وتلك بالطبع إحدى مفارقات التاريخ التي يبسّطها البعض بالمقولة المعروفة، وهي أن هناك من هو كاثوليكي أكثر من البابا أو ملكي أكثر من الملك.

القناع الثاني للأمية مزخرف وملفق من عبارات ومأثورات مخلوعة من سياقاتها الأصلية، وقد يكون مصدرها الثقافة الشفوية كما تتجلى في المقهى، أو أمكنة تجمع المشتغلين في الثقافة كالنقابات والاتحادات التي تضم أعدادا غفيرة من المتأدبين لا الأدباء والمتثاقفين لا المثقفين، لأسباب معروفة في مقدمتها الانتخابات ذات البوصلة السياسية وليس المهنية.

والقناع الثالث للأمية هو التقاط ما تبثه الفضائيات ووسائل التواصل على مدار الساعة، خصوصا البرامج الحوارية، لكن مثل هذا الالتقاط أشبه بقناع شمعي كجناحي أيكاروس، فما أن تشرق الشمس حتى يذوب.

وإذا كان الاعتراف بالجهل هو الخطوة الأولى على طريق المعرفة، فإن الاعتراف بالفقر أيضا هو أول السطر في سفر الثورة والحراكات التي تنشد العدالة، لكن التشوه النفسي الذي لحق بمجتمعات عانت من فائض الكبت والازدواجية، حوّل الفقر إلى عورة يجب التستر عليها والجهل أيضا كذلك، لهذا أشك في جدية ونتائج معظم استطلاعات الرأي التي تنشر، لأن العينات رهائن لأعراف وعادات ونظم سياسية متسلطة، بحيث تصبح عبارة أولي الأمر قناعا لأولي الزجر والقهر.

وللمثال فقط اذكر أن حليم بركات اصطحب فريق عمل من تلامذته بعد حزيران/يونيو عام 1967 إلى مخيم زيزياء في الأردن، وكانت أسئلة الاستطلاع ذات صلة مباشرة بالنزوح وأسبابه، ثم اكتشف بركات وفريقه أن الإجابات كانت مضللة وتفتقر إلى الصراحة، لأن العينات التي طرحت عليها الأسئلة كانت تفكر ألف مرة بصدى ما ستقول لدى الأقارب والجيران، لهذا تجنب الجميع الإجابات الصريحة والدقيقة.

أما التفريق بين المثقف والمتعلم في عالمنا العربي فقد أصبح سلاحا ذا حدين، وتوهم البعض ممن حرموا من التعليم والثقافة معا أن ادعاء الثقافة هو الملاذ، بل التعويض الاجتماعي عن الأمية، وحين يجازف الهواة وصيادو المصطلحات باستخدامها بعيدا عن دلالاتها يصل الالتباس ذروته. وعلى سبيل المثال، هناك ساسة يرددون عبارة أصبحت متداولة حتى على الصعيد الشعبي، هي أن الفساد اصبح ثقافة سائدة، تعبيرا عن اليأس من الإصلاح، ودعوة إلى التأقلم مع ثقافة الرشوة والوساطة، بحيث يصبح من يصر على عدم التأقلم مع هذه الثقافة أشبه بمن لم يشرب من نهر الجنون، كما في الحكاية التي أعاد صياغتها توفيق الحكيم. لقد أدت البطالة المقنعة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا، إلى استنقاع أتاح لكل ما هو عديم الجذور واشبه بالأشنات أن يطفو على السطح، والآن تواصل الأمية المقنعة إفرازاتها، بحيث يصعب فرز الشحم عن الورم، إذ يكفي للأمي ذي القناع المزخرف أن يحفظ عناوين كتب من خلال الإنترنت، وقراءة كلمة الناشر على الغلاف، أو بضعة سطور تلخص الكتاب، وهذا وحده يكفي لنسج قناع عمره نصف ساعة على الأكثر، وهذا ما تحتاج إليه الفضائيات ذات الفواصل والمساحات الزمنية المحدودة على طريقة تبقى لنا من الوقت نصف دقيقة.

الأمية العارية والصريحة قابلة للعلاج، لأنها بريئة، لكن الأمية المقنعة أشبه بجرح نازف ومتعفن يتوارى خلف ضماد أنيق أو تحت الثياب. ومن محاصيل الأمية ذات الأقنعة هذا الركام من الورق، الذي يصل وزنه إلى اطنان، ويحتاج فرز زؤانه عن قمحه إلى ألف غربال من طراز غربال ميخائيل نعيمة. والأرجح أن فقه البدائل وإحلال الأشباه مكان الأصول شمل الأمية أيضا فابتكر لها علاجا يضاعف من خطورتها. إن إسقاط الأقنعة عن الأمية بمختلف تجلياتها يدفعنا إلى إعادة النظر في كل ما ينشر من إحصاءات ونسب مئوية عنها في العالم العربي.

٭ كاتب أردني

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى