صفحات الرأيعمر قدور

الأواني المستطرقة بين الديكتاتوريّة والأصوليّة

 


عمر قدور *

ليس مستغرباً أن تلجأ أنظمة الاستبداد العربيّة في لحظات انهيارها إلى فزّاعة الأصوليّة، تُرهب بها الخارج وبعضاً من الداخل، حتّى إن بدت هذه المناورة مبتذلة ومكشوفة إذ قيل الكثير سابقاً عن ترويج هذه الأنظمة لفكرة كونها البديل الوحيد لأصوليّة تتحفّز للإمساك بالمنطقة وزرع الرعب والإرهاب في العالم. لقد كان التجاذب بين الطرفين دائماً هو الحلّ الأنسب لتغييب قضايا الحرّيّة والديموقراطيّة عن المجتمع، وعلى رغم الصراع الذي دار بينهما في أكثر من بلد أو بقعة جغرافيّة، إلا أنّ تتبّع الظاهرة قد يكشف لنا عن نمط أو نموذج من التقارب الفكريّ يضعهما في مرتبة واحدة متكاملة.

لننحِّ موقّتاً ذلك النزاع السياسيّ بين الاستبداد والأصوليّة الذي شهدناه في بلدان عدّة، فالنماذج المتوافرة لدينا تدلّ على التواطؤ الذي حصل بين الطرفين كلّما لاحت في بلد ما بشائر تغيير جذريّ. وسيكون من الاختزال والتبسيط أن نضع التواطؤ المُشار إليه في مرتبة المصلحة السياسيّة العابرة، لأن تكرار الظاهرة لا يدلّ على تشابه الظروف في بلدان متقاربة وحسب، وإنّما يلفت بقوّة إلى حجم المصالح المتبادلة بين الطرفين المعنيّين، بينما يدلّنا النزاع السياسيّ بينهما على حجم التنافس الذي يرتكز على أحقّيّة كلّ منهما بقطاف ثمرة الوضع القائم في ظلّ الإبقاء على مرتكزاته الأساسيّة.

قد تكون تجربة شاه إيران هي التجربة الأسبق زمنيّاً، فالشاه استعان بالملالي في مستهلّ خمسينات القرن الماضي من أجل الانقضاض على تجربة حكومة مصدّق التي أتت بإرادة شعبيّة. ومن السهل أن نلاحظ أنّ الشاه الذي يفتقد، كأيّ مستبدّ، الشرعيّة الدستوريّة قد استنجد بالجهة التي يُعتقد أنّها تتمتّع بالشرعية الشعبيّة، مع أنّ الأخيرة أيضاً لم تنل شرعيّتها وفق الأسس الديموقراطيّة المعروفة. بل إنّ الطرفين، وهذا ما يجدر بنا ملاحظته جيّداً، عملا في شكل حثيث على مصادرة الإرادة الشعبيّة المدنيّة، ولعب الملالي الدور الأخطر إذ استُخدمت الغرائز الدينيّة واستنفرت ضدّ إرادة التغيير التي أوشكت على الإطاحة بالنظام.

في الواقع لا تكفي وحدها وضعيّة الحرب الباردة، والانحيازات المعروفة للأطراف السياسيّة حينها، لتبرير التحالف بين الاستبداد والأصوليّة، ولا يكفي التصوّر الكلاسيكيّ عن استخدام الدين لمواجهة قوى اليسار الصاعدة آنذاك، مع أنّ هذا التصوّر حظي بالجانب الأكبر من الاهتمام لوقت طويل، وأعطت الحرب الباردة مشروعيّة سياسيّة للتحالف المذكور. في سبعينات القرن الماضي قام الجيش التركي، الحامي الدستوريّ للعلمانيّة، بتشجيع المدارس الدينيّة في البلاد، ومع أنّ النظام السياسيّ في تركيا يعتمد الانتخابات البرلمانيّة الديموقراطيّة، إلا أنّ سلوك الجيش التركيّ ترافق مع إجراءات تشجيعيّة مماثلة للتيّار الأصوليّ اتخذها أنور السادات في مصر، وما يمكن أن نسمّيه غضّاً للبصر أبداه الحكم في سورية عن نشاط «الطليعة المقاتلة» (الجناح المسلّح للإخوان المسلمين)، في وقت كانت تُحارَب فيه الحركات السياسيّة الأخرى بلا هوادة.

إذا أردنا استخدام التعابير الكلاسيكيّة، ففي وسعنا القول إنّ البلدان المشار إليها، وبلداناً أخرى انضمّت إلى الظاهرة لاحقاً، افتقدت جميعاً قوى اليمين التي تحظى بقوّة اجتماعيّة راسخة، أي بشرعيّة مستمدّة من التعبير عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي، وهذا ما أدّى إلى خلوّ الساحة للحركات التي لا تبدو بحاجة إلى شرعيّة دستوريّة بما أنّها تستمدّ شرعيّتها من المقدّس.

لكنّنا إن ذهبنا أبعد قليلاً في التحليل فسنجد القوى الأصوليّة ذاتَ مصلحة أكيدة في وجود أنظمة تفتقد الشرعيّة، لأنّ غياب الاختبار الشعبيّ هو ما يمكّن الأصوليّة من ادّعاء الشرعيّة، وهو أيضاً ما يمكّن الأصوليّة من احتكار تأويل الدين أسوة بما تفعله الديكتاتوريّة من احتكار للسلطة. من جهة أخرى نرى الديكتاتور العربيّ، وإن تلفّع بغلالة حداثيّة من التوتاليتاريّة، أقرب إلى إرث الملك المستبدّ الذي يستمدّ شرعيّته من السماء لا من الأرض، ولنا في مظاهر التبجيل التي يُحاط بها الحاكم دلالة فاقعة على ذلك. والحقّ أنّ الجذر المعرفيّ المشترك بين الطرفين يجعل تحالفهما تارةً، وتنازعهما على الأحقّيّة تارةً أخرى، يدور في حقل الأحاديّة التي تقصي أيّ تعدّد محتمل تأتي به الديموقراطيّة.

بالتأكيد ليس من شأن ما سبق أن ينفي تماماً التمثيلات الاجتماعيّة للديكتاتوريّة وللأصوليّة، ولن تكون الديموقراطيّة هي الحلّ السحريّ الذي ينهي الاثنتين دفعة واحدة، أو حتّى ينهي الأصوليّة تماماً على المدى المنظور. لكنّ من شأن الحلّ الديموقراطيّ أن يختبر ادّعاء الشرعيّة الشعبيّة التي تنسبها الأصوليّة الى نفسها، وتساعدها الديكتاتوريّة على ترويجه عندما تهوّل من الخطر الأصوليّ القادم، والمحمول على إرادة شعبيّة غير واعية أو ناضجة. وإذا كان لا بدّ من الاستدلال بتجارب مماثلة، فإنّ ديكتاتوريّة ضياء في الباكستان هي التي عمّمت الأصوليّة في البلاد، بينما انحسرت إلى نطاق شعبيّ وجغرافيّ أضيّق في ظلّ انتخابات حرّة. على الصعيد ذاته؛ لم يتمكّن الإسلاميّون من الحكم في تركيا إلا مع حزب العدالة الذي تخلّى عن الكثير من الأيــديـولوجــيا ليقدّم نفسه كحزب وسط ديموقراطيّ.

إنّ استعراض تجارب المنطقة يؤشّر إلى أنّه كلّما طال أمد الديكتاتورية كبرت فرصة التطرّف والأصوليّة في الانقضاض على السلطة والمجتمع، وعلى الأساس الفكريّ ذاته الذي يجمع بينهما، أمّا ظاهرة تكفير الحكّام التي راجت خلال مدّة من الزمن فهي دلالة بالغة الأهمّية لجهة محاسبة الحكّام على مظاهر تقلّ أهمّيّة عمّا يجب محاسبتهم عليه فعلاً. لقد كشفت الانتفاضات العربيّة زيف الادّعاءات ومحاولات التمويه على المطالب الشعبيّة الفعليّة، كما كشفت حجم التمثيل الحقيقيّ للتيّار الإسلاميّ بلا تهويل أو مبالغة، ولنا في التجربة المصريّة دلالة على أكثر من صعيد، فميديا النظام المصريّ السابق صوّرت حجم الإخوان المسلمين أكبر بكثير ممّا لمسناه أثناء الانتفاضة، أمّا توافق الأخوان مع الحزب الوطنيّ في التصويت على التعديلات الدستوريّة فهو أبلغ دلالة. مع ذلك لم تُستنفد فكرة التهويل بالخطر الأصوليّ القادم كبديل للأنظمة المستبدّة، ولعلّ من الطريف أنّ الأنظمة صاحبة هذه الفكرة تطرح نفسها كخيار أقلّ سوءاً مقارنة بالأسوأ. ولكن، ماذا لو قلنا إن استمرار السيئ هو الذي كان دائماً ينذر بالأسوأ؟

* كاتب سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى