صفحات المستقبل

الأوديسّة السّورية/ سيناء دبّاغ

 

 

عالم الملاحم الشّعرية تملؤه المغامرات والمعارك وحكايات الهزائم والانتصارات، أبطاله أسطوريون، جابوا عرض البحار، وقارعوا قوى الشّر والسّحر، وزاروا عالم الأموات والفناء، و قابلوا آلهة العالم القديم المخلّدين، وسافروا في الأصقاع، بحثاً عن الذات أو الخلود أو الوطن.

مرّت مئات الأعوام على الأوديسّة الإغريقية (اليونانية)، ولا تزال كتبها الأربع والعشرون تجذبنا، فنقرأها بشغفٍ، ونعيش عوالمها الخياليّة. لكن، هل يمكن للإنسان المعاصر أنّ يعيش رحلة الأوديّسة في العالم الحقيقي؟ هل يمكن له أن يقدم على السفر في خارطة طريق مشابهة محفوفة بالمخاطر، مستخدماً وسائل نقل بدائيّة في عصرٍ، يمتلك أحدث وسائل النقل؟ وهل يمكن لأوديسة القرن 21 أنّ تتحول رحلة بحث عن منفى؟

نعرف الجواب، عندما نتسمّر أمام الشّاشات لنشهد الآلاف من الأمهات والآباء السوريين، الذين يُسميهم الإعلام الغربي “اللاجئين”، وأحياناً “المهاجرين”، قد تركوا وراءهم بيوتهم ومدنهم وقبور أحبتهم، ومن بقي من أهلهم بحثاً عن منفى. أليس هولاء الناس كأدوسيوس؟ أليسوا أبطالاً يسلكون طريق الموت من أجل الحياة، ويركبون قوارب الرعب للوصول إلى شواطئ الأمان، حاملين معهم أحلاماً صغيرة عن مستقبل أفضل، وآلاف الحكايا عن بحور الخوف والظلام مع مهربي البشر.

إذا كانت الأوديسّة (الإغريقية/اليونانيّة) تبدأ من طروادة (يعتقد مؤرَخون كثيرون أنّها تقع في الأناضول إلى الشمال الشرقي من تركيا قريباً من جبل إيدا) إلى شواطئ الوطن في إيثاكا اليونانية، فخارطة طريق الملحمة السّورية تمر بتركيا واليونان، من أجل البحث عن وطن من نوع آخر، وطن بديل، مغترب، منفى، لتصبح أوروبا الغربية الغاية المنشودة لشريحة واسعة من اللاجئين.

هنا، قد تتباعد الملحمتان بالطرقات والخرائط، لكنهما تتقاطعان بعزم أبطالهما للوصول إلى نقطة النهاية، بغض النظر عن مسمياتها.

لم يعد الإنسان المعاصر اليوم بحاجة لأن يجول في عالم الخيال، ليستحضر مغامرات أودسيوس، فشاشات التلفاز والمواقع الاجتماعية تزخر بآلاف الصور والفيديوهات عن رحلات في البحر المتوسط إلى أوروبا، فنشاهد التاريخ يوثّق نفسه، ويسجّل أرقاماً قياسيّةً، تخجل أمامها البشرية جمعاء، أرقام لبشرٍ عبروا مسالك المستحيل، لتحقيق الممكن لأطفالهم، فتحولوا في الإعلام لأعداد وإحصائيات.

سيشاهد أولادنا وأحفادنا هذه الصور في البرامج الوثائقية، ليرددوا، في سمع الزمان، السؤال الأزلي: لماذا أدار العالم ظهره لهم، ومن المسؤول؟ إنه سؤال بآلاف إشارات الإستفهام. لكن، من دون إجابةٍ واحدةٍ وافية.

لم يعد السوريون يبحثون عن إجابات، فأهوال الحرب مزّقت قلوبهم وعائلاتهم، حتّى ظنّوا أنّ العالم تخلى عنهم، فكان قرارٌ صامتٌ جماعيٌ غير معلنٍ بأخذ زمام المبادرة والزحف الجماعي باتجاه السلم والحياة. لا يعرف أحدٌ منهم متى سيرحل الدكتاتور وكلّ المجرمين، لكنهم على يقين بأنّ الأوديسّة السّورية لن توقفها حدود ولا حواحز ولا وثائق سفر ولا هروات ولا خراطيم مياه.

إنّه نزوح شامل من أجل العلم والعمل والحياة الكريمة، ومن أجل السّلم والحرية. هجرة جماعّية لا مثيل لها في التاريخ المعاصر، ابتلع فيها البحر مئات الضحايا، وكأنه يردد على مسامعهم شعر محمود درويش: “لا ليس لي منفى لأقول لي وطن…اللّه يازمن”.

إنها الأوديسة السورية: رحلة من الواقع المرير إلى المنفى، وقصة ستسرد وقائعها الأجيال المقبلة، وكأنها ضرب من الخيال.

(سورية)

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى