صبحي حديديصفحات مميزة

الإخوان المسلمون والإنتفاضة السورية: واقع يجبّ الخرافة


صبحي حديدي

مؤتمر ‘الإنقاذ الوطني’، في شطره الذي احتضنته مدينة اسطنبول التركية تحديداً، أعاد التشديد على موقع الإسلاميين ضمن تيارات المعارضة السورية بصفة عامة، وداخل مختلف التنسيقيات التي تدير حراك الإنتفاضة بصفة خاصة.

ورغم أنّ ‘جماعة الإخوان المسلمين’ شاركت في، أو أطلقت المبادرة إلى، مؤتمرات سابقة عقدتها أطراف سورية معارضة في اسطنبول ذاتها، وفي أنطاليا وبروكسيل؛ فإنّ المؤتمر الأخير شهد التئام عدد كبير من الإسلاميين غير المنتمين إلى الجماعة، من المتعاطفين مع خطّها السياسي الراهن على نحو إجمالي، أو حتى أولئك الذين يختلفون مع الخطّ في كثير أو قليل، ولكنهم ينطلقون من الحساسية الإسلامية ذاتها تجاه حاضر ومستقبل سورية.

ولعلّ فضيلة هذا المؤتمر الأبرز (والتي لا تطمس، بحال، مثالبه الكثيرة التي انتهت به إلى ما يشبه الفشل المعلَن) أنه أتاح للسوريين أينما تواجدوا، ولكن في الداخل أساساً، التعرّف أكثر، وأوضح من ذي قبل ربما، على واحدة من الخرافات الكبرى التي اقترنت بالإنتفاضة، وبأنساق وأطوار الحراك الشعبي المعارض طيلة عقود حكم حافظ الأسد، مثل وريثه بشار الأسد: أنّ الإسلاميين، و’جماعة الإخوان المسلمين’ أوّلاً، هم بديل النظام. تلك الخرافة صنعت، كما معروف، واحدة من ذرائع الولايات المتحدة، وغالبية الديمقراطيات الغربية، في تبرير تفضيل شرور النظام السوري على مخاطر مستقبل مجهول يهيمن عليه الإسلاميون.

الأسباب الخفية ذات طبيعة مختلفة، بالطبع، لأنها انطلقت على الدوام من الخدمات الممتازة التي أسداها الأسد الأب، مثل الأسد الابن، للمصالح الأمريكية والغربية في المنطقة، ولأمن إسرائيل في المقام الأوّل. وتلك خدمات لا تنتهي عند استمرار سلام الأمر الواقع الذي يسود الجولان المحتلّ، منذ اتفاقية سعسع سنة 1973، أو التزام النظام بمدوّنة السلوك الحسن في ضبط الحدود السورية ـ العراقية، لصالح الإحتلال الأمريكي. كما أنها خدمات أبعد أثراً من حرب النظام ضدّ الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وحصار المخيمات، أواسط السبعينيات؛ أو التفرّج على الغزو الإسرائيلي للبنان، سنة 1982، رغم أنّ العدوان الإسرائيلي استهدف القوات السورية بدورها، وسقط من الشهداء ضباط وأفراد كثر؛ أو الإنضمام، فعلياً، إلى تحالف ‘حفر الباطن’ ووضع الوحدات العسكرية السورية تحت إمرة جنرالات أمريكا. وما خلا المساندة اللفظية لـ’حماس’ خالد مشعل، والاتجار السياسي والمالي بإمدادات السلاح الإيراني إلى ‘حزب الله’، فإنّ الوريث واصل نهج أبيه في خطب ودّ الغرب، والبحث عن أقنية التفاوض مع إسرائيل، سرّاً أو علانية أو عبر وسطاء.

من جانب آخر، ومثلما التجأ المنافقون من ‘الممانِعين’ العرب، وعلى رأسهم عدد من الإسلاميين بالطبع، إلى شعار الحرص على النظام السوري من منطلق الحرص على المقاومة؛ كذلك تذرّع عدد من المنافقين ‘العلمانيين’ العرب بأخطار انقضاض الإسلاميين السوريين على السلطة، لكي يواصلوا السكوت عن استبداد النظام السوري، بل الذهاب إلى حدّ التغنّي بنعيمه، في موازاة ما سيحلّ بسورية من جحيم إسلامي! ولم تكن مصادفة، البتة، أنّ فريقَيْ النفاق اجتمعا على هدف مساندة النظام منذ أسبوع الإنتفاضة الأوّل، وتولّى كلّ فريق تجميل موقفه بدمعة حزن هنا، على شهداء سورية؛ أو رسالة مناشدة هناك، تستصرخ القيادة السورية ‘الممانِعة’ أن ترأف قليلاً بحال الشعب!

من جامعة ماريلاند الأمريكية، ولكي نذهب إلى صوت عربي وسط المعمعة ذاتها، أعطى شبلي تلحمي أقصى ما يمكن أن تبلغه مخيّلة في تشريح المسألة إياها: ‘سورية موطن الأخوان المسلمين’! صحيح أنه استند إلى احتمال أن تكون ‘الفوضى العميمة’ هي الحال السائدة في أعقاب أيّ غزو عسكري أمريكي، وأنّ الإدارة الأمريكية قد تعلمت بعض الدروس من غزو العراق، بينها أنّ تلك الفوضى هي ‘أمّ الإرهاب’. ولكن… هل سورية هي حقاً، على أيّة شاكلة محتمَلة أو حتى متخيََلة، ‘موطن الإخوان المسلمين’؟ وبالتالي، ما الذي أبقى هذا الموطن بمنأى عن أيّ حكم إسلاميّ الطابع، لكي لا نقول: إخوانيّ الهوية، طيلة عقود طويلة، قبل الإستقلال وبعده، وخلال مختلف العهود التي سبقت استيلاء حزب البعث على السلطة سنة 1963؟

مثل هذه التقديرات، وسواها كثير في الواقع (أكثرها إدهاشاً، ومدعاة للأسف، تلك التي تصدر عن بعض المعارضين السوريين أنفسهم!)، تتكىء إلى مقولات قديمة أحادية الجانب وناقصة وانتقاصية، تمّ ترويجها على هيئة كليشيهات مسبقة الصنع، وتنميطات مطلقة مجرّدة. إنها، أيضاً، تعيد إنتاج خطاب سلطة استبدادية عائلية مافيوزية، سعيدة تماماً لأنّ العالم يُبقي عليها، أو يطيل في عمرها، أو يكتفي بضرورة ضربها على يديها (كما في عبارة مدهشة أطلقها دنيس روس ذات يوم)؛ لا لسبب آخر سوى أنّ جماعة الإخوان المسلمين هي بديل التغيير، الوحيد!

ويحضر، هنا، تعليق قديم، ولكنه يظلّ ساري المفعول، صدر عن المعارض السوري الأبرز رياض الترك، عضو قيادة ‘حزب الشعب الديمقراطي’، حول موقع الحركة الإسلامية في العمل الوطني السوري، وذلك في الحوار المطوّل الذي أجراه معه محمد علي الأتاسي مطلع عام 2000. الأتاسي سأل الترك عن موقفه من الإسلام السياسي ودور ‘الإخوان المسلمين’ ومكانتها كحركة سياسية في المستقبل السياسي لسورية، فأجاب: ‘أنا أعتبر أنّ للإخوان المسلمين كحزب سياسي الحقّ في الوجود والعمل السياسي، ولكن عليهم أن يعيدوا النظر في السياسات التي سلكها بعض أطرافهم في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات، وأن ينبذوا طريق العنف ويسيروا في الاتجاه الديمقراطي. وأرى أنه يجب ألا تكون موانع من وجود تيار سياسي يستلهم التراث الديني، لكن شرط ألا يستغلّ ولا يحتكر الدين، وألا يكفّر الناس. وأعتقد بأنّ التجربة الأخيرة لا بدّ أن تدفع بالعقلاء من الإخوان إلى أن يؤسسوا سياسة جديدة أكثر انفتاحاً وديمقراطية’.

والإنصاف يقتضي التذكير بأنّ الجماعة، قبل أن تطرح مشروع’ ميثاق الشرف الوطني’ في أيار (مايو) 2001 ولكن بصفة خاصة بعد مؤتمر لندن الذي عُقد أواخر آب (أغسطس) 2002 وعدّل ثمّ تبنى الميثاق؛ أنجزت ما يشبه الإنتفاضة الداخلية، أو الإنقلاب السلمي على الذات، لجهة التنازل عن ثوابت كبرى في عقيدتهم: اعتماد خطاب معتدل تماماً، نبذ العنف المسلح، اعتناق معظم المطالب الديمقراطية التي أجمعت عليها الأحزاب السورية المعارضة وممثّلو منتديات المجتمع المدني، وتبنّي مبدأ التعددية السياسية (الأمر الذي كان يعني عملياً إغفال، أو بالأحرى إسقاط، اشتراط الدولة الإسلامية، وتطبيق الشريعة تالياً).

الإنصاف ذاته يقتضي التذكير بأنّ خصائص المجتمع السوري الأصيلة، أي تلك التي اقترنت بالمحطات الكبرى الفاصلة في تطوّره السياسي والمجتمعي والثقافي في الأطوار الحديثة، تضع البلد على نقيض صريح من تلك الأطروحة الأحادية التي تجعل ‘الإخوان المسلمين’ بديل التغيير الوحيد. هذا أمر لا يحتاج السوريون، في غالبيتهم الساحقة، إلى إمعان التفكير فيه أو ترجيحه كاحتمال ملموس. غير أنّ مبدأ التعددية السياسية، في ذاته أوّلاً وفي ضوء تطوّرات الفكر الإخواني وما يقترن به من سياسات ثانياً، لا يمكن أن يغلق الباب مسبقاً أمام أيّ فصيل يقبل بالمبدأ ويقرّ بقواعده الأخرى، بما في ذلك الاحتكام إلى صندوق الإقتراع، وفصل السلطات، وإقرار العلمانية، وترك الدين لله وإبقاء الوطن للجميع. أكثر من هذا، هل يمكن لأيّ ائتلاف ديمقراطي معارض للإستبداد والدكتاتورية، أن يُسقط من حسابه ضرورة اجتذاب معارضة إسلامية مستنيرة؟ وفي الأساس، هل يمكن لأية معارضة أن تكون فعالة في أيّ بلد ذي أغلبية شعبية مسلمة، دون إسلام مستنير؟

والإنصاف ذاته يقتضي، ثالثاً، عدم ‘مراعاة’ ذلك الإسلام المستنير بذريعة اجتذابه إلى صفوف المعارضة، خصوصاً في المسائل الجوهرية الكبرى ذات الطابع التشريعي والحقوقي والثقافي، كأن تتمّ محاباة الإسلاميين في أية صياغة ـ سيّما إذا كانت غامضة، ركيكة، تلفيقية، وتوفيقية ـ تنصّ على دور أعلى تفوّقي أو تمييزي للإسلام على سواه. فالأمر هنا ليس سلاحاً ذا حدّين فقط، بل هو في الأغلب سلاح ذو حدّ واحد يرتدّ إلى نحور الغافلين عنه. كذلك، في المقابل، فإنّ مسخ العلمانية إلى كاريكاتور محض يحيل إلى سلّة المهملات جميع الجوانب الإنسانية المضيئة لثقافات مختلف الأديان والعقائد، هو بدوره سلاح ارتدادي من النوع المماثل، إذا لم يكن أسوأ وأشدّ ضرراً وأعظم عاقبة.

وهكذا، فلا الإخوان هم اللاعب الوحيد، ولا سورية هي ملعبهم وحدهم؛ وهم ليسوا خارج صفوف المعارضة، ولا خارج مشروع النضال من أجل سورية الديمقراطية، ولا هم البديل الوحيد عن سورية الإستبداد والنهب والمافيات وحكم العائلة. ولهذا فإنّ مؤتمر ‘الإنقاذ الوطني’، ورغم فشله تنظيمياً وسياسياً، زوّد الداخل السوري، والعالم الحريص على منظور موضوعي وملموس، بنموذج ساطع على السقوف الوطنية والديمقراطية التي أرستها الإنتفاضة السورية؛ ولم يعد في وسع أيّ فريق أن يُنقصها، أو ينتقص من ركائزها السياسية والأخلاقية، ويزعم في الآن ذاته انه جزء منخرط في صناعة سورية المستقبل. في عبارة أخرى، أياً كانت التكتيكات المبطنة، أو حتى ستراتيجيات العمل والتفكير، التي تخصّ هذه المجموعة الإسلامية أو تلك، فإنّ البيان الختامي لجلسة اسطنبول استعاد الخطاب ذاته، بمفرداته الأدقّ، الذي كانت جلسة دمشق ستعتمده لو لم تستخدم السلطة أقصى العنف للحيلولة دون انعقادها.

وجلسة اسطنبول انعقدت تحت شعار ‘من أجل سورية مدنية ديمقراطية تعددية’، بادىء ذي بدء؛ كما أجمع المشاركون على الأهداف الرئيسية التالية: 1) تصعيد النضال السلمي الديمقراطي، بمشاركة اطياف المعارضة وفصائلها كافة، ورفض التدخل العسكري الخارجي؛ و2) نقل السلطة سلمياً إلى حكومة وطنية مؤقتة، تتولى تفكيك الدولة الأمنية، وتأسيس حياة دستورية، وتنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية؛ و3) بناء دولة مدنية ديمقراطية تعددية أساسها المواطنة، تستند إلى دستور عصري؛ و4) المساواة التامة بين أبناء الشعب السوري، واحترام خصوصياته الدينية والعرقية. وللمرء أن يميل إلى ترجيح صدقية، وصدق، الموافقين على هذه الأهداف، دون استبعاد احتمالات أخرى يفرضها في العادة انقلاب الحسابات تارة، أو تبدّل التحالفات طوراً، أو تناقض الأجندات الخافية مع تلك المعلنة، وما إلى هذا وذاك من تقلبات السياسة وطبائعها.

وليس بخافٍ على أحد أنّ تنسيقيات الإنتفاضة تضمّ العلمانيين والإسلاميين، الليبراليين والمحافظين، النشطاء المتمرسين والنشطاء المتدربين، أنصار رياض الترك وأتباع الشيخ العرعور… ولكن، أهذا عيب في التنسيقيات، واعتلال، أم مظهر عافية واغتناء؟ وكيف للتنسيقيات أن تمثّل الأطياف الأعرض من المجتمع السوري، في مستوى الخطّ السياسي أو الفكري أو الثقافي مثل الموقع الاجتماعي أو السنّ أو الإنتماء الإثني أو الديني، إذا كانت لا تتصف بكلّ ذلك التنوّع، ولا تسعى إلى سواه أيضاً؟ ليس خافياً، من جانب آخر، أنّ البيانات والأدبيات التي أصدرتها لجان التنسيق المحلية لم تخرج، حتى في أصغر التفاصيل، عن مفردات شعار الإجماع: سورية وطنية، ديمقراطية، مدنية، تعددية، عصرية.

وهنا لا ينتصر الواقع على الإستيهام والتضليل والخديعة والذريعة الزائفة، فحسب؛ بل يجبّ الخرافة أيضاً.

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى