حسين عبد العزيزصفحات الرأي

الإرث السياسي في التجربة الإسلامية/ حسين عبد العزيز

 

 

في كل حضارة يشكل الموروث جزءاً من حياة الناس وثقافتهم، ويبلغ تأثير الموروث مبلغاً كبيراً حين لا تستطيع الأمة إعادة بنائه وفق متطلبات الحاضر، وهذا هو حال الموروث الإسلامي، لا سيما المتعلق بالكينونة السياسية للبشر.

وقد تحول هذا الإرث إلى تقليد ألقى بظلاله على مجمل التجربة السياسية الإسلامية، وما زال تأثيره حاضراً إلى اليوم. لا يعني ذلك بطبيعة الحال أن هذا الإرث يمارس تأثيره مباشرة على عقولنا، وإنما المقصود هو تأثيره غير المباشر في الوعي، فالعقل السياسي كممارسة وكأيديولوجيا، كما يقول الجابري، هو في الحالتين ظاهرة جمعية، إنما يجد مرجعيته في الخيال الاجتماعي وليس في النظام المعرفي، فالخيال الاجتماعي هو منظومة من البداهات والقيم، إنه ليس ميداناً لتحصيل المعرفة بل هو مجال لاكتساب القناعات.

لم تشكل التجربة السياسية في التاريخ الإسلامي سنداً للانطلاق منها لتشكيل نظرية سياسية لاحقة ترقى إلى مستوى القطيعة الإبيستيمولوجية، فقد كانت التجربة الإسلامية محكومة بواقعها السياسي غير المنفصل عن العقيدة في بعض جوانبها. بعبارة أخرى، لم توجد نظرية سياسية تبحث في أصل الحكم، فقد كان هذا الأمر خارج المفكر فيه، وكان منتهى السياسة البحث في غاية الحكم وممارسته، وقد ترتب على ذلك أن ذهب الفقهاء إلى ترسيخ الأمر الواقع والدفاع عنه، فيما اتجه الفلاسفة وجهة مثالية تعوض النقص الحاد في الواقع القائم.

يعود أصل التفكير السياسي الإسلامي إلى التقليد الفقهي الذي كان على ثلاثة مستويات، السياسة الشرعية التي تنشغل بما بات يعرف بالجانب المدني من حياة المسلم، فيما اهتمت الأحكام السلطانية بالجانب السياسي للدولة، أما مرايا الأمراء فكانت مخصصة لنصح الملوك، وهذا تقليد قديم في فارس واليونان.

لقد شرّعت الأحكام السلطانية طوال قرون لنظام الضرورة، أي لنظام لحكم القائم، فالخشية من العصيان والفوضى دفعت الفقهاء إلى تطوير نظرية للشرعية تؤدي إلى إدراك السياسي ضمن الإطار الشرعي، أي الحفاظ على الأمة، طالما أن إمارة الاستيلاء والتغلب تحقق أمرين: الكفاية وتعني العدالة، والشوكة وتعني التصدي للعدو الخارجي، وفي هذا التقليد لا أهمية للطريقة التي توصل إلى السلطة طالما أن السلطة الجديدة قادرة على تحقيق الهدفين اللذين يحفظان وحدة الأمة.

وقد أسس لهذا التقليد كبار العلماء والفقهاء السنّة، بدءاً من ابن حنبل وانتهاء بابن تيمية مروراً بالماوردي والجويني والغزالي، الذين حددوا الحكم بمقاصده لا بطبيعته وأصوله.

وقد اتفق الفقهاء على أن مبدأ الخروج على الحاكم الجائر يدخل في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي أن جور الحاكم هو نوع من أنواع المنكر الذي تجب إزالته، لكنْ لمّا كان الخروج يؤدي إلى الفتنة، فالأفضل التعايش مع الأمر الواقع واستخدام أساليب لا تؤدي إلى الفتنة تحت عنوان «درء المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة».

ووفقاً للتقليد الإسلامي، يجب تحمل مساوئ الحكم طالما أن الحاكم حقق الكفاية والشوكة، في حدود الواقع لا في حدود الشرع، ولما كان هذا التحقق مستحيلاً على مستوى مطابقة الممارسة للمثال الإسلامي، فقد اعتمد الفقهاء الاعتراف بالواقع القائم أو ما يسمى نظام الضرورة. ووضع كثير من الكتب والنظريات الفقهية عن مسألة التعايش مع الحاكم الباغي لمنع الخروج عليه وإدراك الفتنة التي هي أشد من القتل، ولم يشذ عن هذه القاعدة سوى الجاحظ وبعده الأفغاني.

لاحظ رضوان السيد، أن الفكر السياسي للماوردي على سبيل المثال محكوم بالنظرية الفقهية، ولا مكان فيه للبعد القانوني، بمعنى أن ما يحرك الماوردي هو الحكم المعياري للممارسة السياسية ومدى مطابقتها المثال الديني.

يميز السيد مفهومين للشرعية في الإسلام: الأول تأسيسي وسماه المشروعية، والثاني شرعية المصالح.

هيكل الشرعية التأسيسية ثلاثة أمور، وحدة الأمة ووحدة الدار ووحدة السلطة، وهذا الفهم للمشروعية موجود في أقدم التعريفات عند أبي حنيفة والشافعي. أما شرعية المصالح، فيقصد بها السيد الاختلالات المخلة بالشرعية، مثل طريقة الوصول إلى السلطة وتجاوز حد السلطة من جانب ولي الأمر ثم انقسام السلطة.

ويؤكد السيد أن اختلال شرعية المصالح لا يخل بالشرعية التأسيسية في نظر الفقهاء، لأن الشرعية التأسيسية مرتبطة في النظرة الإسلامية الكلاسيكية بمفهوم السيادة وليس بالتطورات الداخلية، والسيادة في هذا المنظور تعني أولاً النظام الداخلي الذي يتضمن صون الدين، وثانياً الاستقلال عن الخارج.

هذا التقليد الفقهي مستمر إلى الآن، ومثاله الأبرز على مستوى الثقافة العالم محمد البوطي في سورية، وشيخ الأزهر أحمد الطيب في مصر والصادق الغرياني والمدني الشويرف في ليبيا وجمعية علماء اليمن، كما نجد هذا التقليد مستمراً على مستوى الثقافة الشعبية لدى جزء كبير من الشارع العربي الذي وجد في الثورات فتنة تهدد الأمة، والإبقاء على الوضع القائم أفضل بكثير من التغيير الثوري.

والواقع إن مشكلة الخروج على الحاكم هي مشكلة عامة في كل المجتمعات البشرية، طالما هناك حاكم ومحكومون، وقد كانت محل نقاش في اليونان، وازدادت في فترة الإصلاح الديني في أوروبا، حيث كان مارتن لوثر ضد الخروج على الحكام، لكن سرعان ما تم تجاوزه على يد الكالفينية الراديكالية، التي شرّعت قتل الحاكم إذا خالف مبادئ العقد الاجتماعي ومبادئ الدين.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى