راتب شعبوصفحات مميزة

الإرهابي هو الإرهابي/ راتب شعبو

 

حين نعرّف شخصاً بأنه “شيوعي” مثلاً، نحيل المتلقي على اعتناق هذا الشخص مجموعة من الأفكار والاقتناعات المعروفة التي تزيل الإبهام عنه وتعرّفه من زاوية فكرية وسياسية. كذا الحال حين نقول “قومي” أو “إسلامي” أو “ليبيرالي”… الخ. تتسم هذه الصفات أو التعريفات، إلى جانب كونها مفهومة ومحدِّدة، بأنها متحركة وقابلة للتبدل والتغيّر مع تبدل اقتناعات الشخص وخياراته الواعية. فمن الممكن أن تجد من كان شيوعياً في الأمس، إسلامياً اليوم وليبيرالياً غداً. هذه التعريفات تتصف بأنها مفهومة أولاً واختيارية ثانياً وهي لذلك قابلة للحركة والتبدل ثالثاً. أي أنها بذلك أقرب إلى المدنية وأنسب لضرورات تطور المجتمع.

كانت هذه التعريفات سائدة في فترة الحرب الباردة، حيث انقسم العالم حول قطبين في مركز كلٍّ منهما نظرة متكاملة إلى العالم تتعارض أو تقع على تضاد مع النظرة الأخرى. الشيوعية في مقابل الرأسمالية، الاقتصاد المركزي المخطط في مقابل الاقتصاد الحر. وكان الصراع الفكري “الإيديولوجي” جزءاً مهماً في الصراع العام بين القطبين. وكان هذان القطبان يتوازعان، بفعل ثقلهما، الانتماءات الفكرية والسياسية الأخرى.

بعد انتهاء الحرب الباردة بشكلها القديم وتنحي الفكرة الشيوعية التي كانت تتصدر الجبهة الفكرية (الإيديولوجية) المواجهة للرأسمالية، سادت الفكرة الرأسمالية وباتت الصراعات السياسية تنضوي جميعها تحت مظلة الفكر الرأسمالي وحده. على ذلك فقدت الصراعات التحررية غلفها “الفكرية” القديمة وارتدت غلافاً جديداً اسمه الديموقراطية. في المجتمعات التي أرهقها الاستبداد المزمن، فتحت فكرة الديموقراطية السياسية، التي حيّدت في طريقها أفكاراً مثل الوطنية والتحرر والعدالة الاجتماعية والاشتراكية…الخ، الباب أمام بروز روابط اجتماعية طائفية أو اثنية وصعود هذه الروابط إلى مستوى سياسي مؤثر. هنا بتنا في مجتمعاتنا أمام تعريفات “سياسية” جديدة مثل مسلم ومسيحي، أو سنّي وشيعي، وما إليها. تختلف هذه التعريفات عن التعريفات السابقة في كونها مبهمة سياسياً وفكرياً، فضلاً عن كونها غير اختيارية، فهي ثابتة غير متبدلة (عضوية)، الأمر الذي يردّ الصراع السياسي الذي يفترض به أن يكون عقلانياً وخصباً إلى صراع قبائلي طائش وعقيم.

في المرحلة التي نعيشها اليوم، اكتمل الانحطاط السياسي فجرى ابتكار توصيف جديد هو “الإرهابي”؛ وهو توصيف غامض لا يمكن أن يزيل الإبهام أو أن يُعرِّف الأفراد والجماعات التي تُرمى به. هكذا نصل إلى الدرك “السياسي” الأسفل. نحن هنا أمام توصيف مقطوع تماماً عن جذوره السياسية ومنسوب فقط إلى أفعال عنيفة يقوم بها “الإرهابيون”. تجتهد العقول القانونية والسياسية اليوم في تعريف “الإرهاب” بطريقة تجعل منه ظاهرة سلوكية مستقلة عن الدوافع والأسباب، ويصبح الإرهابي كائناً بشرياً ذا ميول “إرهابية” لا أكثر ولا أقل. وتصبح مشكلة العالم مع “الإرهاب” مشكلة سلوكية، مثلها في ذلك مثل مشكلة شغب الملاعب ونزعة تخريب الممتلكات العامة والتحرش الجنسي …الخ.

على هذا يتساوى “الإرهابيون”، بصرف النظر عن دوافعهم وعن تطلعاتهم. يصبح ناشطو توباك أماور في البيرو ومقاتلو منظمة التحرير الفلسطينية و”مجاهدو” داعش وجبهة النصرة في خانة واحدة اسمها الإرهاب، خانة تسقط عمّن تكتنفه أيّ ملامح سياسية أو فكرية وتقدّمه إلى العالم على أنه “إرهابي” فقط، ويترتب على دول العالم من ثم محاربته تحت طائلة الاتهام بدعم الإرهاب.

التركيبة السياسية والأمنية والإعلامية للعالم اليوم باتت مُحكَمة إلى حد يغلق السبل السلمية أمام حركات التغيير سواء الساعية إلى التحرر القومي أو العدالة الاجتماعية أو الديموقراطية السياسية، مما يجعل العنف سبيلاً مرجحاً أمام الجماعات المغبونة الساعية إلى التغيير، فتقع هذه الجماعات في مصيدة “الإرهاب” المعدّة سلفاً بغرض تجريد أي حركة من بعدها السياسي وحشرها في خانة “جنائية” مدانة أخلاقياً.

فمن التوصيف الفكري والسياسي إلى التوصيف الطائفي والمذهبي إلى التوصيف الإرهابي المعزول بالكامل عن أسبابه، يواصل الفكر السياسي المسيطر على عالم اليوم تهافته.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى