مراجعات كتب

«الإرهاب الإسلامي في أوروبا» للنرويجي بيتر نيسر: جدل الجهاد وجذوره الأوروبية/ إبراهيم درويش

 

 

في السابع من كانون الثاني/يناير 2015 هاجم مسلحان مقر المجلة الفرنسية الساخرة «تشارلي إيبدو» وقتلا عددا من محرريها والعاملين فيها وشرطيا مسلما جاء للتحقيق في الحادث، وفرا قبل أن تتمكن الشرطة من ملاحقتهما وقتلهما. ودارت في الوقت نفسه معركة قام فيها الفرنسي من أصول مالية أحمدو كوليبالي بمهاجمة متجر يهودي في باريس، واحتجاز رهائن فيه، وقتل هو الآخر على يد الشرطة مثل الأخوين سعيد وشريف كواشي، مهاجما المجلة الساخرة، وجاء الحادث عقابا لها على نشرها لصور مسيئة للنبي محمد، وصورة عن الحالة الجهادية واستمراريتها في أوروبا، وهي حالة تشكلت نتيجة لعدد من العوامل الداخلية والخارجية، شارك فيها لاعبون محليون ومن خارج أوروبا، متعللين بالكثير من المبررات وباسم مظالم يتعرض لها المسلمون في كل أنحاء العالم.

وكما يقدم كتاب بيتر نيسر «الإرهاب الإسلامي في أوروبا: تاريخ»،الذي صدر قبل عامين عن دار هيرست أند كومباني، فإن تاريخ الجهاد الإسلامي في أوروبا متعدد الوجوه، وتتداخل فيه العوامل الخارجية والداخلية، وتتمايز الدوافع مع أنها تلتقي في الكثير من ملامحها.

يقدم الكاتب تاريخ الإرهاب الذي نفذه إسلاميون أو الجهادية الإسلامية في أوروبا على مدار عقدين من الزمان. من أول محاولة لاختطاف طائرة فرنسية على يد جهاديين من الجماعة السلفية المقاتلة الجزائرية عام 1994، إلى عملية «تشارلي إيبدو» عام 2015. وعبر عشرين عاما حاول لاعبون وفاعلون إسلاميون من كل التنوعات الجهادية السلفية استهداف أوروبا لمعاقبتها على أدوارها في العالم الإسلامي، أو مشاركتها في «الحرب على الإرهاب»، التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش بعد هجمات إيلول/سبتمبر 2001.

ويقدم نيسر خريطة شاملة للجهادية الإسلامية في أوروبا، كما يقدم في النهاية صورة شاملة عن المحاولات والشبكات التي خططت للقيام بعمليات ونجحت، وتلك التي أحبطت بسبب خطأ في التصرف أو انتباه السلطات الأمنية.

والكاتب هنا ليس معنيا بدراسة الإستراتيجيات والسبل التي يجب على الدول الغربية متابعتها للحد من موجات التشدد داخل الأقليات المسلمة، التي تعيش في معظمها على هامش المجتمعات الغربية، وتعاني من مشاكل تتعلق بالاندماج داخل البنى الغربية العلمانية، وأزمة هوية، ولكنه يقدم دراسة شاملة حول هويات وسير الجهاديين والعوامل التي دفعتهم، والأيديولوجيين والمنظرين الذين كانوا في قلب كل شبكة. فهو يرى أن كل خلية جهادية كانت فيها شخصية محورية يطلق عليها «المقاول- المتعهد» الذي يعمل كمحرك لها،مثل الفرنسي الجزائري جمال بيجال الذي أدار شبكة إرهابية لـ»القاعدة» عام 2001 وظل مؤثرا في سجنه على الأجيال الجديدة من الجهاديين. وكذا محمد صديق خان الذي قاد الشبكة البريطانية لـ»القاعدة»التي نفذت هجمات لندن في 7 تموز/يوليو 2005. ويتبع المتعهد «المعاون» الذي يتولى تفاصيل العملية مثل كمال داوودي، الذي ساعد بيجال وشهزاد تنوير معاون خان. وهناك «الهامشي» الذي قاده سوء الحظ للشبكة لظروف شخصية، كحالة لاعب الكرة التونسي السابق نزار طرابلسي الذي شارك في شبكة بيجال. وحسيب حسين الذي انضم لشبكة المفجرين في لندن.

أما الفئة الأخيرة في تصنيف الجهادي فهم الجنود الراجلة أو الشخص «الجوال» الذي ارتبط بشبكات الجهاديين بسبب علاقته مع واحد من أفرادها. ويظل المتعهد والتابع له أهم شخصيتين في الشبكة، لأنهما يندفعان للعمل بعقيدة جهادية قائمة على فهم لمظالم المسلمين حول العالم ورغبة في الانتقام والعقاب. أما الهامشي فهو يندفع للشبكة بدوافع شخصية أو نتيجة لأزمة نفسية وعائلية.

من هو الإرهابي

ومن هنا ينشغل الكاتب في قراءته للتهديد الجهادي على أوروبا، بمحاولة فهم «الإرهابي» ولماذا ينضم للشبكة الإرهابية وعلاقة هذا بالأيديولوجيات الجهادية المحلية والخارجية ودور الجهاديين الأجانب. كما يقدم نيسر صورة عن تشكل الخلية وطبيعتها الهيكلية، وكيف تتجادل مع الفاعلين المحليين والخارجيين،وإن كانت تقوم باتخاذ قراراتها بنفسها؟ أم بتوجيه من الخارج؟ ويلاحظ الباحث أن المؤامرات الإرهابية هي نتاج للتفاعل بين شبكات المتطرفين المحلية، وتلك الخارجية. ويعتقد أنه بخلاف التفاصيل أن العوامل نفسها طبعت عمل الخلايا التي أقامتها الجماعات الجهادية الجزائرية، في عز الحرب الأهلية التي اندلعت بعد إلغاء الانتخابات التي فازت فيها جبهة الإنقاذ. وشبكات «القاعدة» في مرحلة ما بعد 9/11 وتلك التي نفذت في فرنسا وبقية أنحاء أوروبا في الأعوام الأخيرة.

كما يلتفت الكاتب هنا للأماكن التي كانت حاضنة للتفكير الجهادي، المساجد والسجون والمراكز التعليمية والمنظمات غير الحكومية. فأعضاء خلية سورلاند الألمانية عام 2007 شكلوا ميولهم المتطرفة داخل مسجد للمتشددين، أما مجموعة هوفستاد الهولندية، التي قام أحد أفرادها باغتيال المخرج ثيو فان غوخ، فقد اجتمعوا في مقاهي الإنترنت وبحثوا في مواقع الجهاديين. وتحول مهدي نموش الذي هاجم مركزا يهوديا في بروكسل عام 2014 إلى متشدد بعد فترة سجن قضاها. وستصبح مواقع الإنترنت مراكز لقاء الجهاديين، حيث ستحل محل المساجد التي باتت تحت رقابة شديدة، ولم يعد يسمح فيها للجهاديين الأيديولوجيين بالنشاط، خاصة في مرحلة ما بعد 9/11 في أمريكا و7/7 في بريطانيا. ويرى الكاتب أن الدوافع وراء الهجمات تظل متعددة، إلا أن فلسطين كانت في مركز كل العمليات. وفي بعض الحالات كان الجهادي يقوم بالعملية ردا على هجمات إسرائيلية وقتل للمدنيين الفلسطينيين. وهناك عامل العراق والبوسنة وسوريا مع أن الأخيرة مهمة من ناحية تحولها لساحة تدريب وتثقيف وإعداد للجهاديين من كل أنحاء أوروبا. ولا ننسى الرسوم المسيئة للرسول في صحيفة «يلاند بوستن» الدنماركية التي كانت وراء عدد من المحاولات الإرهابية.

الفاعلون

في قراءته لتواريخ وحيوات الفاعلين في العمليات الجهادية ضد أوروبا يقدم الكاتب هنا توليفة من الفاعلين الأجانب وأبناء الجيل الثاني من المهاجرين، متعلمين وغير متعلمين. ويلاحظ أن غالبية الناشطين في العمليات الفرنسية والأوروبية هم من أبناء العائلات الفقيرة، مقارنة مع الجهاديين البريطانيين الذين تميزوا بمستويات جيدة من التعليم كمحمد صديق خان. وفي حالة استثنائية تميز التونسي سرحان بن عبد المجيد فخيت، من شبكة مدريد التي فجرت القطارات عام 2004 فقد ترك دراسة الدكتوراه للتفرغ والعمل مع الجهاديين، وكذا الطبيب العراقي الذي حاول تفجير مطار غلاسكو عام 2007. تكشف دراسة نيسر عن تباين في الشخصيات الجهادية- القوية والكاريزماتية والضعيفة، بالإضافة للتباين في مظاهر التشدد والعوامل التي أدت لها، فهي قد تكون متأخرة الظهور، كما في حالة قتلة الجندي البريطاني لي ريغبي عام 2013. وفي قراءته للسير والشخصيات، يثير الكاتب أسئلة حول دور المسلمين الجدد والنساء. ودور المنظرين الجهاديين مثل، عمر بكري محمد وأبو قتادة وأبو مصعب السوري، الذي تسيدت نظرياته عمليات الجيل الثاني من الجهاديين، حيث أصبحت فيها العمليات لامركزية نتيجة لخسارة «القاعدة» موقعها في أفغانستان وباكستان. ودور أنور العولقي كداعية على الإنترنت الذي كان وراء عملية نضال حسن في «القاعدة» العسكرية فورت هود عام 2009.

موقع أوروبا

يكشف الكاتب أن أوروبا كقارة لم تكن ضمن ترتيبات «القاعدة» ولم تظهر على رادارها، فكل الأدبيات القاعدية ظلت تركز على ضرورة مكافحة الأنظمة الديكتاتورية في الدول العربية والإسلامية، واتفق المنظرون الأيديولوجيون من أبو قتادة إلى أبو حمزة المصري والعولقي، وبتفسيرات مختلفة، أن مسلمي أوروبا مرتبطين بعقد أمان مع الدول التي يعيشون فيها، ولا يجوز والحالة هذه استهداف هذه المجتمعات. إلا أن الوضع تغير خاصة في تنظيرات أبو مصعب السوري حول فكرة الجهاد اللامركزي، وتنفيذ عمليات تقوم بها خلايا تتصرف بنفسها أو من خلال فروع للتنظيم المركزي. ولكن ما هو هدف الهجمات الإرهابية؟ ويعتقد أن حرب العراق عام 2003 تركت أثرين مهمين على الظاهرة الجهادية الأوروبية، فقد دفعت الجهاديين إلى معاقبة بلادهم التي شاركت فيها من جهة، وقوت التعاون بين جبهة العراق والجبهة الأفغانية- الباكستانية حيث تتمركز «القاعدة».

أهداف

يرى نيسر أن تنظيمات مثل «القاعدة» و»الدولة الإسلامية» تهدف من عملياتهاإلى نشر الرعب وتوصيل رسالة سياسية أيضا. وتكشف الدراسة أن أشكال الإرهاب تعددت، من التفجيرات التي ميزت عمليات الجماعة الإسلامية المقاتلة في الجزائر في منتصف العقد الأخير من القرن الماضي، إلى تعدد أساليب الهجمات من استخدام البنادق والسكاكين والسواطير. وتساوقت حملة الجماعة الجزائرية مع حرب البوسنة التي لعبت دورا في تجييش الشبان المسلمين في أوروبا. إلا أن الفترة ما 1996- 2000 تميزت بالهدوء، لتعود من جديد وإن بشكل تدريجي في الفترة ما بين 2003- 2004 وهي الفترة التي تبعت غزو العراق وهجمات 9/11 وكانت عملية مدريد عام 2004 الأكثر فتكا.

وشهد عام 2004 أول هجوم مبرر بإهانة الإسلام عندما قام شاب من أصول مغربية باغتيال ثيو فان غوخ في أمستردام. ويلاحظ الكاتب أن الزيادة في الهجمات تساوقت مع الانتفاضة الفلسطينية (2000-2005) وشهدت الفترة ما بعدها انخفاضا في الهجمات مع أن «القاعدة» ضربت لندن في 7/7/ 2005 وشهد عام 2006 محاولة في مطار غلاسكو ومحاولة أخرى لتفجير قطار في ألمانيا. وفي عام 2007 تحول اهتمام «القاعدة» للعمليات في باكستان- أفغانستان، حيث عانت قيادتهامن الملاحقة. ومن عام 2008 بدأت فروعها بالنشاط، خاصة فرع التنظيم في اليمن. ثم تراجعت وتيرة العمليات ما بين 2010 – 2011 أي مع اندلاع الربيع العربي ومقتل زعيم «القاعدة»اسامة بن لادن. ولكن الهجمات ازدادت عام 2012 وهذا مرتبط بالحرب في سوريا. وفي دراسة مسحية للعمليات التي استهدفت أوروبا في الفترة ما بين 1995- 2013 وشملت 122 عملية، وجدت أن «القاعدة» كانت الأكثر تهديدا على أوروبا. وعكست العمليات خارج المنطقة التقليدية التي خسرت معاقلها بسبب «الحرب على الإرهاب» الحاجة إلى الشرعية والتعاطف، من خلال القيام بعمليات قتل جماعي في الدول التي تقود الحرب عليها. ويلاحظ أن معظم العمليات استخدم فيها المنفذون القنابل المصنعة محليا، أي بنسبة 78٪ ولم تستخدم السكاكين إلا في عملية واحدة، قبل هجمات 2001. ومن هنا اعتمدت معظم العمليات ضد أوروبا على التفجيرات، خاصة في التفجيرات التي سبقت عام 2008 (بنسبة 80٪) وشكلت التفجيرات نسبة 65٪ في الفترة ما بين 2008- 2013. ولم تشهد الفترة ما قبل 2001 سوى محاولة اغتيال واحدة، ولكنها زادت بنسبة 4.9٪ في الفترة ما بين 2001- 2017. ولم تحتو خطط الجهاديين إلا على عدد قليل من الخطط لأخذ الرهائن. ففي الفترة ما بين 1994- 2013 سجلت ثلاث مؤامرات فقط من هذا النوع. ويشير الكاتب إلى أن طبيعة الأهداف التي اختيرت عكست بالضرورة استراتيجية التنظيمات الجهادية ونشاطها في البلد المعني، مثل ألمانيا أو فرنسا. كما أنها تشير إلى أولوياتهم، ففي الفترة ما بين 1994- 2013 لم يكن هناك اهتمام لدى قيادة «القاعدة» بتوجيه هجمات ضد مصالح الولايات المتحدة في أوروبا، إلا أن الوضع اختلف في الفترة ما بين 2001- 2003 بشكل عبر عن رؤية «القاعدة»للجهاد العالمي. وتميزت العمليات التي نفذتها «القاعدة»بتمويلها محليا وتنفيذها من قبل أشخاص لديهم خبرة في القتال سابقا كالمشاركة في الجهاد الأفغاني. وقد مثل الجهاد الأفغاني حاضنة لكل ما سينشأ من تنوعات جهادية في الغرب، وأسس الشيخ عبدالله عزام لمنظومة الجهاد اليوم وفكرته بين المسلمين. وعندما انتهت الحرب الأفغانية تحول «العرب الأفغان» إلى مقاتلين عابرين للحدود. فبعد فشل تجاربهم في بلدانهم الأصلية، وجد الكثيرون منهم العواصم الأوروبية مكانا للعيش ومواصلة جهادهم. ومن هنا بدا دور لندن التي أطلقت عليها المخابرات الفرنسية «لندستان» نظرا لعدد الجهاديين الذين مروا منها ونشطوا فيها. ويبدو أن تسامح السلطات الأمنية مع العناصر الجهادية جاء من أجل وضعها تحت الرقابة، ولاعتقاد بدا ساذجا لاحقا أن هؤلاء يمثلون خطرا خارجيا لا داخليا. ستنتهي لندنستان فعليا بعد هجمات 7/7 حيث سيسجن معظم المنظرين مثل، أبو قتادة الذي خاض معركة طويلة ضد ترحيله للأردن، فيما غادر بكري إلى لبنان ولم يسمح له بالعودة ورحل المصري إلى الولايات المتحدة. ولكن التنوعات التي ظهرت من نشاطهم خاصة حركة المهاجرين ستواصل نشاطها تحت قيادات محلية مثل، انجم تشاودري الذي حكم عليه العام الماضي بالسجن لمدة 10 أعوام. ومع زيادة الضغط على المشهد الجهادي اضطرت الجماعات هذه لتغيير هويتها بمسميات جديدة مثل، «إسلام 4 يو كي». تظل دراسة نيسر مهمة من ناحية قراءتها للتواريخ وفهمها للعوامل التي دفعت جهاديين نشأوا في ظل دول علمانية للانقلاب عليها. وأهميتها تنبع من رفضها حصر الجهادية العابرة للحدود بين كونها تهديدا أو حركة اجتماعية وكونها حركة «بدون قيادة» أو «مركزية « القيادة.

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى