مراجعات كتب

الإرهاب لم يسقط من السماء/ محمد. م الأرناؤوط

 

على الرغم من أن المؤرخ علي محافظة اشتهر بمؤلفاته المرجعية عن تاريخ الأردن الحديث والمعاصر (من “العلاقات الأردنية- البريطانية من تأسيس الإمارة حتى إلغاء المعاهدة 1921-1957” الصادر في 1973 إلى “الديموقراطية المقيدة: حالة الأردن 1989-1999”)، إلا أنه معروف خارج الأردن، منذ حوالي أربعين سنة، بمؤلفاته التي تناولت حركات الإصلاح والتجديد الديني، وذلك منذ كتابه الأول “الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798-1914″ (بيروت 1980 وطبعات كثيرة بعدها صحيحة ومزورة)، و”حركات الإصلاح والتجديد في الوطن العربي والتحديات التي تواجهه في مطلع القرن الحادي والعشرين” (بيروت 2011)، وصولا إلى كتابه الجديد “الحركات الإسلامية المتطرفة في الوطن العربية: الجذور الفكرية والتحول إلى العنف والإرهاب” (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2018).

وهكذا من لا يعرف د. محافظة داخل الأردن يُخيّل له أنه طارئ على هذا الموضوع وهو المعروف باتجاهه ومواقفه القومية. ولكن لو دققنا في هذه المؤلفات الثلاثة لوجدنا أن كل واحد منها يعبّر عن لحظة تاريخية في المنطقة، وهي في مجملها تعبّر عن مسار بحثي متصاعد مع تطور الأوضاع في المنطقة خلال نصف قرن ونيف.

ففي كتابه الأول “الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة 1798-1914” يبدو من العنوان أنه ينطلق من الحملة الفرنسية على مصر كمنطلق للأفكار الإصلاحية الجديدة، إلا أنه في الواقع ينطلق من الحركات الدينية الإصلاحية كالوهابية والسنوسية وغيرها. وفيما يتعلق بالوهابية فقد اعتبرها حركة إصلاحية من حيث إنها نادت بالتخلص من الشعوذة من ناحية ودعت إلى إعادة فتح باب الاجتهاد من ناحية أخرى. ولكنه ركّز أكثر على الاتجاهات الجديدة، سواء التي حملت بذور الإسلام السياسي (الجامعة الإسلامية والرابطة العثمانية) أو الاتجاهات التي ميّزت تاريخ القرن العشرين (الوطنية والقومية العربية).

وإذا كان هذا الكتاب غلب عليه الطابع المدرسي (اعتُمد عدة عقود في الجامعات التي كانت تدرّس مساق “اليقظة وحركات الإصلاح” بمسميات مختلفة)، فإن كتابه اللاحق “حركات الإصلاح والتجديد في الوطن العربي والتحديات التي تواجهه في مطلع القرن الحادي والعشرين” الذي صدر في 2011، فيه جانبان جديران بالتوقف عندهما ويعبّران عن اتساع رؤية المؤلف للقضايا المطروحة سابقا. أما الأول، فهو استعادة تجربة الإصلاح في الدولة العثمانية (التي كانت تحكم المنطقة العربية) على يد عدة سلاطين سقطوا ضحية المعارضة الممثلة في التحالف بين رجال الدين المحافظين والانكشارية، منذ السلطان عثمان الثاني 1618-1622 وحتى سليم الثالث 1789-1807، وصولا إلى تجربة محمود الثاني (1809-1839) الذي استفاد من تجربة محمد علي باشا الناجحة في مصر. وأما الجانب الثاني، فهو استعراضه النقدي لتجارب الإصلاح التي جاءت عن طريق الانقلابات العسكرية (العراق وسورية ومصر.. إلخ) وحكمت بشعارات قومية، أو التي “أخذت الشكل وأهملت الروح” في الملكيات العربية، كما أنه لم يوفر مشاريع الإسلام السياسي الجديدة، منتقدا انشدادهم للماضي، ومطالبا إياهم بـ”تطوير فكر جديد يلائم المستجدات”.

يمكن القول إن النقد المبكر الذي وجهه د. محافظة لانشداد الإسلاميين للماضي جاء في وقت انفجرت فيه الأوضاع في المنطقة تحت مسمى “الربيع العربي” 2011-2017، الذي أصبح فجأة حاضنة للإسلام السياسي الجديد (داعش وجبهة النصرة.. إلخ) والذي أصبح يمثل “التحول إلى العنف والإرهاب”، كما ورد في عنوان الكتاب الجديد الذي اشتغل عليه د. محافظة، طيلة أسوأ السنوات التي مرّت بالمنطقة (2011-2017)، والذي يمثل مقاربة أكثر نقدية في محاولة البحث عن “الجذور الفكرية” له، وبالتحديد في تحولات السلفية من إصلاحية تجديدية إلى سلفية محافظة وسلمية، ثم أخيرا إلى جهادية وتكفيرية تمارس السبي والقتل والإرهاب باسم الإسلام.

صحيح أن د. محافظة خصّص حوالي ثلث الكتاب لـ”الجذور الفكرية للحركات السلفية في الوطن العربي” من أحمد بن حنبل وأحمد بن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وصولا إلى الجماعات السلفية الجديدة التي استلهمتهم في الظروف الجديدة التي استجدت في المنطقة، في النصف الثاني للقرن العشرين، إلا أنه يمكن القول إن د. محافظة لم يربط تحوّل هذه الجماعات نحو العنف والإرهاب بالسماء، بل بالتحولات في الأرض والتدخلات من الخارج.

ففيما يتعلق بالجانب الأول كان د. محافظة قد انتهى في كتابه السابق إلى نتيجة مهمة تقول إن الإصلاح السياسي هو الأساس والمنطلق لكل إصلاح في أي ميدان من ميادين الحياة، “ومن دونه تبقى كل محاولات الإصلاح عرجاء” (ص 123)، ومن هنا فإن تعثّر الإصلاح، سواء الذي جاء بشعارات قومية مع الانقلابات العسكرية أو في الملكيات العربية وانسداد الأفق أمام الشباب، جعل الجماعات السلفية الجديدة (التكفيرية والجهادية) تجتذب مثل هؤلاء الشباب إلى تبني التغيير بالعنف لإسقاط الأنظمة القائمة، بدعوى أنها لم تعد تحكم بما أمر به الله.

أما فيما يتعلق بالجانب الثاني أو دور الخارج الذي لم يعد مجهولا، فقد ركّز د. محافظة على دور الحرب الباردة بين الشرق والغرب، خاصة بعد الاجتياح السوفييتي لأفغانستان في 1979، في احتضان وتجييش “الجهاد الإسلامي” لـ”تحرير أفغانستان من الحكم الشيوعي” الذي شاركت فيه أنظمة استخباراتية غربية وعربية، يوضحها بالتفصيل د. محافظة في الباب الثالث للكتاب، تحت عنوان “القوى الغربية والحركات الإسلامية المتطرفة” (481-511). ومن المعروف أن هؤلاء الذين دربتهم هذه الأجهزة للقتال في أفغانستان (الأفغان العرب) عادوا إلى بلادهم لاحقا بخبرة قتالية ونزعة جهادية عالية لينغمسوا في حركات وجماعات مختلفة، وصولا إلى “الربيع العربي” الذي وجدوا دورا جديدا لهم فيه.

في الفصل الأخير من الكتاب “الحركات الإسلامية إلى أين؟”، الذي كتبه بعد إعلان تحرير الموصل والرقة من حكم “دولة الخلافة الإسلامية” في نهاية 2017، يؤكد د. محافظة، أنه كما أن الإرهاب لم يسقط من السماء بل جاء من الأرض (من الداخل والخارج)، فإن نهايته أيضا لن تكون بواسطة القوة العسكرية للتحالف الدولي الذي يجمع الداخل والخارج، لأن دولة الخلافة وأمثالها “لا تزول من النفوس والعقول بالهزائم الحربية وإنما تزيدها هذه الهزائم تشددا وإيمانا بسلامة عقيدتها وصحة توجهها”، و”كلما تعنتت أنظمة الحكم العربية بالتمسك بالاستبداد السياسي واحتكار السلطة والمال، وعمّ الفساد في مفاصل الدولة، طال وجود هذه الحركات المتطرفة بيننا” (ص 513).

ومع الإشارة إلى “غياب التفكير العلمي الناقد” والدعوة إلى استعادته في المؤسسات العلمية وفي الخطاب الديني السائد، وضرورة الفصل بين الدين والدولة “لأن دمج الدين في الدولة يعني تقديس القوانين التي تسود الدولة وتعذر تعديلها أو تغييرها”، لا يخفي د. محافظة في الصفحات الأخيرة من الكتاب تفاؤله في أن “حركات التطرف الجهادية الإسلامية إلى زوال خلال السنوات القليلة المقبلة”، ولكنه يربط ذلك “بقطع المعونات المالية والعسكرية عنها من الدول التي تمدها بالمال والسلاح” و”الخلاص من الاستبداد السياسي والحكم الفردي المطلق” في المنطقة العربية “بعد أن انتهى إلى غير رجعة في معظم دول العال وأممه” (ص 521).

مع كل هذا، يبدو لنا أن هذا الكتاب الأخير لـ د. محافظة، الذي اعتمد فيه على مراجع كثيرة في العربية والإنكليزية، يحتاج إلى مراجعة بعض المعلومات المأخوذة من مراجع أجنبية تعبّر عن وجهة نظر مؤلفيها. ففي الفصل الأول من الباب الثالث “القوى الغربية والحركات الإسلامية المتطرفة” يمكن التسليم بما جاء في القسم الأول تحت عنوان “الدور الأمريكي في إنشاء وتنظيم القاعدة في أفغانستان” (ص 481-485)، ولكن القسم الثاني المعنون “التعاون الأمريكي مع تنظيم القاعدة في البلقان” يحتوي على معلومات غير دقيقة أو مبالغات مصدرها كتاب مايكل سبيرغمان “تأشيرات لأجل القاعدة” (واشنطن 2014). ففيما يتعلق بحرب البوسنة 1992-1995 يرد أن “تنظيم القاعدة تعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية واتخذ تنظيم القاعدة زغرب عاصمة كرواتيا مقرا لعملياته وتولى قيادته أيمن الظواهري، وبلغ عدد المتطوعين المسلمين الأجانب نحو أربعة آلاف مقاتل، لمساعدة البوسنيين لصد العدوان الصربي عليهم” (ص 485-486). وفي الواقع أن المجازر الجماعية التي حدثت في البوسنة استثارت ردة فعل واسعة في العالم الإسلامي ودفعت بالفعل مئات الشباب إلى القتال في البوسنة، وهو ما رحبت بهم حكومة سراييفو التي كانت في حالة حصار خانق، ثم تمّ ترحيلهم بعد نهاية الحرب.

وفيما يتعلق بكوسوفو، تبدو المبالغات أكثر، حيث يرد أنه “في كوسوفو التقت مصالح الولايات المتحدة الأميركية مع مصالح تنظيم القاعدة، وساعد عملاء وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في تدريب جيش كوسوفو، قبل أن تبدأ قوات حلف شمال الأطلسي بقصف يوغسلافيا.. وشارك العديد من المجاهدين المسلمين السابقين في أفغانستان في حرب تحرير كوسوفو” (ص 485)، وهو لا يمّت للواقع بصلة، لأن خلايا “جيش تحرير كوسوفو” كانت في الأصل ماركسية- لينينية، ثم اتخذت صبغة قومية علمانية واضحة خلال 1998-1999، وهو ما انعكس على القوى السياسية التي حكمت كوسوفو بعد 1999. ولكن يمكن الحديث عن دور ما للخارج في تمويل وتصعيد التيار السلفي في كوسوفو، ثم تجنيد مئات الشباب للقتال مع “داعش” و”جبهة النصرة” في العراق وسورية، خلال 2012-2017، وهو ما لم يشر إليه المؤلف.

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى