صفحات الرأي

الإرهاب وأزمة خطاب الطبقة السائدة/ إبراهيم غرايبة

 

 

 

لا يمكن الفصل بين حالة الإرهاب والتطرف والكراهية المنتسبة إلى الدين، وبين الخطاب الديني السائد والمتّبع في الدول والمجتمعات والمدارس والحوزات والمؤسسات الرسمية والمجتمعية، وبالتالي لا يمكن التفكير في مواجهة الحالة من غير مراجعة هذا الخطاب ونقده، ثم إعادة موضعته في الحياة والتشريع والتطبيقات الحكومية والمجتمعية. وبغير ذلك، لن يتقدم عالم الإسلام اليوم في مواجهة التطرف من خلال هجائه أو عقد المؤتمرات والندوات التي تحولت إلى برامج سياحية ومقاولات وهمية، حتى أنه لم يعد النظر إلى مكافحي الإرهاب سوى أنهم تجار حروب! وأنه في اللحظة التي يتوقف فيها الإرهاب، فإنهم سيتبخرون أو يتحولون إلى عاطلين من العمل…

هناك نظرية مفادها أن الأفكار السائدة ليست سوى أفكار الطبقة السائدة، فالنظر في مصادر التطرّف الفكرية والاجتماعية يبدأ بمراجعة سلوك الطبقة السائدة وأفكارها، بما هي بطبيعة الحال السلطات الحاكمة والنخب المتحالفة معها، وفي ذلك فإن الخطاب الديني السائد والذي أنتجته السلطات السياسية في التطبيقات العملية والتشريعية وفي المناهج التعليمية والمؤسسات الدينية الرسمية والمجتمعية، والتي تديرها وتنفق عليها من الموارد العامة، هو المسؤول الأول عن الحالة الدينية السائدة.

وفي المعاينة العملية للحالة الدينية العامة، يصعب التمييز بين الخطاب الديني الرسمي والسائد في المجتمعات والمؤسسات والذي يقدم في المدارس والجامعات أو مؤسسات الدعوة والإفتاء والقضاء، وبين خطاب الجماعات الدينية السياسية سواء المعارضة أو المناهضة والمتمردة على السلطات، فلسان حال المتطرفين أننا نمثل الشرعية الدينية التي تدعو إليها المؤسسات الرسمية.

الخطاب الديني السائد بما هو منظومة التعبير التطبيقي عن الدين في الحياة والفكر والسياسة والتشريع والإدارة والاقتصاد والتعليم والإعلام والثقافة والتنشئة، وسائر مجالات الحياة والثقافة والعلاقات الاجتماعية، وكما يقدم في المؤسسات التعليمية والرسمية، لا يختلف عما تقدمه الجماعات الدينية السياسية أو المتطرفة والقتالية، ولا يؤمن المتطرفون بغير ما نؤمن به. ذلك أنه في سعي السلطات والنخب إلى الهيمنة والاحتكار، احتكرت أيضاً الدين والثقافة وقدمت التراث والتاريخ والفقه والتفسير في قراءته السلطوية والاحتكارية على أنه دين ومقدس، والتبس على الناس الديني بالإنساني، وكانت في مرحلة طويلة ممتدة قادرة على ذلك، لكن الخطاب انقلب اليوم على أصحابه، وصارت الطبقة السائدة تعمل ضد نفسها، ولم تعد قادرة على الخروج من مأزقها الذي صنعته بنفسها.

الخطاب الديني ليس هو الدين، وإن كان ناتجاً من فهم الدين والعمل على تطبيقه والرجوع إليه، لكنه مجهود بشري يخطئ ويصيب، ويستلهم المرحلة والبيئة المحيطة به ويتأثر بها سلباً أو إيجاباً، وقد يكون متقدماً مبدعاً أو عاجزاً، ناجحاً أو فاشلاً، معتدلاً أو متطرفاً، وهو ليس خطاباً واحداً كما الدين، لكنه متعدد وفق قراءة النصوص والتجارب الدينية وفهمها، وما يؤثر في هذه القراءات من بيئة محيطة، ومحددات إنسانية، مثل اللغة والعلم والاتجاهات الفكرية والفلسفية والتحيز والنزاهة والأهواء والمصالح، فهو خطاب ينتسب في الحقيقة إلى أتباع الدين أكثر من نسبته إلى الدين، وإن كان الاستدلال على الدين من غير أتباعه يشبه الاستدلال على الحياة من غير الأحياء! فالخطاب الإسلامي هو «خطاب المسلمين»، والنظام السياسي الإسلامي، هو النظام السياسي للمسلمين، وكذا الدول والمؤسسات والأفكار والبرامج.

وسيكون الخطاب بما هو مجهود إنساني نسبياً وغير يقيني، بمعنى أنه لن يكون صواباً مطلقاً، لكنه يسعى الى الاقتراب من الصواب، وليس مقدساً أو حقاً نزل من السماء، وإن كان مستمداً من الدين الذي يؤمن أتباعه بأنه نزل من السماء، وليس ثابتاً فهو متغير قابل للمراجعة والتصحيح على نحو مستمر ودائم.

لكن السلطة والنخب المهيمنة بطبيعتها الاحتكارية، لن تقبل النسبية، حتى في تقديمها خطاباً دينياً معتدلاً وتنويرياً (لم تقعل ذلك بعد سلطة سياسية)، وهذا ما يجعل مواجهة الإرهاب ليست سوى النضال ضد هيمنة السلطة والطبقة السائدة واحتكارها الموارد والفرص ووصايتها على المجتمعات والدين والثقافة، وأن تتخلى عن سلسلة من التطبيقات التي مارستها لتكرس الاحتكار والوصاية، مثل نزع الفلسفة والفنون والموسيقى والمنطق والفكر الناقد من المناهج التعليمية، وإضعاف المدن والمجتمعات وتهميش المرأة والشباب والأقليات. الاعتدال ولشديد الأسف، ليس سوى محصلة لسياسات وأفكار لا تعمل لمصلحة السلطات والنخب المهيمنة.

* كاتب أردني.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى