صفحات الرأي

الإرهاب وسيكولوجيا التدمير الذاتي/ خيرى منصور

 

 

يُروى عن الفيلسوف الألماني شوبنهاور انه كان يتردد على مطعم انجليزي، وبعد تناول الطعام يُخرج قطعة نقدية من جيبه ويضعها على الطاولة ثم يعيدها الى جيبه قبل مغادرة المكان، وحين سئل عن السبب قال انه رهان يَعْقِده مع نفسه، وهو ان زبائن المطعم الانجليز لا يتحدثون إلا في أمرين،

الخيل والنساء، وكان سيترك قطعة النقود لو انه سمع منهم اي حديث آخر، والآن بامكان اي كائن حتى لو لم يكن فيلسوفا أن يكرر هذا الرهان، لكن على نحو آخر، وليس في مطعم او مقهى بل من خلال كل ما يكتب في الصحف ويبث عبر الشاشات، فما من مقالة او مداخلة تخلو من مفردات مُشتَقّة او مرادفة للعنف، لأن المناخ اصبح مُشبعا برائحة الدماء، ونشرات الاخبار على مدار الساعة لا تخلو من احصاءات عن عدد ضحايا العنف والارهاب على امتداد خطوط الطول والعرض السياسية والدينية لهذا الكوكب، لهذا حين كتب «جون كين» عن العنف والديمقراطية ـ وهو درءا للالتباس بسبب تشابه الاسماء ليس السيناتور جون ماكين ـ لم يجد مدخلا لأطروحته افضل واكثر ايحاء مما قاله ادم ميخنيك عام 1998 وهو: «ان الديكتاتوريات قد تضمن شوارع آمنة ورهبة لجرس الباب لكن الديمقراطيات قد تكون الشوارع فيها غير آمنة بعد حلول الظلام إلا أن الزائر الاكثر احتمالا في الفجر هو بائع الحليب .» وهذه عبارات تلامس لدى القارىء العربي وترا بالغ الحساسية بسبب ما تراكم في لا وعيه من فوبيات عن زوار الفجر سواء تعلّق الأمر بمعالجات أدبية او بفيلم عربي شهير، حوّل اسم زائر الفجر الى مصطلح اقرب الى الشيفرا . والمثير بالفعل ان الميديا المُعَوْلَمة غالبا ما استخدمت عبارة «ما يسمى الارهاب» إما هربا من تحديد معناه وتضاريسه او لأنه يمارس بعدة صيغ وتحت عناوين مُضَللة، والحقيقة ان الارهاب بمعناه الدقيق يتلخص في احتكار الحقائق لدى طرف ما، وبالتالي إقصاء الآخر بعد تجريمه وتأثيمه وتكفيره، واستخدام القوة لتحقيق هذا الهدف، والمفارقة هنا هي ان من يلجأ الى الارهاب انما يعلن عن افلاس مزدوج، سياسي واجتماعي معا لأنه رهان الإرهاب شمشوني، وعلى طريقة عليّ وعلى اعدائي يا رب، لهذا ما من ارهاب كانت معركته ظافرة، لأنه من حيث لا يدرك يضاعف من عدد خصومه، ويصبح حتى من ليس لهم ناقة ولا جمل في النزاعات من اعدائه دفاعا عن الحدّ الأدنى من الشعور بالامان وممارسة الحياة اليومية بمتطلباتها العسيرة دونما قلق او خوف غامض، فالارهاب مجاله الحيوي ليس خصما سياسيا او ايديولوجيا او نظاما بل الناس جميعا، ما دامت بنادقه عمياء وكذلك سياراته المفخخة، فهو غالبا ما يستهدف الخاصرات الرخوة للمجتمعات، فيكون المدنيّون العزّل ومنهم نساء وأطفال وعجائز من ضحاياه، على الأرصفة او في المقاهي، وحين نقرأ عبارة تجفيف منابع الارهاب نادرا ما نجد في استراتيجيات التّجفيف البُعدَين التربوي والثقافي، وكان المقصود بهذا التّجفيف هو المال او السلاح فقط، وحقيقة الأمر ان الارهاب يجد في الجهل خصوصا ما يسميه اوليفييه روا الجهل المقدس المادة الخام النموذجية التي يصنع منها ادواته، وكذلك في البطالة والفقر، لهذا فهو يتغذّى على الأميّة ببعديها السياسي والمعرفي لأنها تُتيح له اصطياد بشر ضعفت لديهم المناعة الأخلاقية، وبذلك يكون كالقط الذي لحس مبردا من الحديد واستمرأ مذاق دمه حتى الموت .

الارهاب شروع في قتل الآخر بقد ما هو تشريع للانتحار، وأذكر ان احد رسامي الكاريكاتير الانجليز نشر ذات يوم في الجارديان رسما بالغ الايحاء والدلالة عن ارهابي يستخدم بندقية لها فوهتان واحدة تتجه الى ضحيته والاخرى مصوبة الى عنقه !!

ان عقب آخيل الارهاب الذي هو مَقْتله وانتحاره يتلخص في نقطتين الاولى : الفرار من المواجهة واستبدال الابواب بالنوافذ او أسْطح البيوت كما يفعل اللصوص الذين يكرهون الكهرباء والقمر وحتى النجوم، والثانية تحقيق انتصارات وهمية لإشباع كاذب، فحين يكون حصاد عملية ارهابية عددا من المدنيين او المارة الابرياء فمعنى ذلك ان المهزوم الحقيقي هو الارهابي، لأنه يقدم برهانا ميدانيا على تناقض اطروحته، فهو يقتل الآخر بذريعة انقاذه او تحريره، تماما كما حدث ذات ظهيرة اسيوية سوداء في الحرب الفيتنامية عندما أمر ضابط امريكي بابادة قرية بكل من فيها وحين سأله احد الجنود عن السبب اجاب انه يُبيدُها لينقذها، تلك هي فلسفة القتل من اجل الإحياء، والاغراق من اجل الإغاثة والسطو من اجل العدالة، وهناك من المقاربات العلمية والمنهجية التي تسعى الى تفكيك ظاهرة الارهاب من خلال علم النفس والاجتماع ومنها معالجة جون كين التي اشرنا اليها تستحق التأمل وسط هذا الضجيج الاعلامي الذي يتعامل مع الظواهر سطحيا، واهم ما في هذه المقاربات المفارقة للسائد الاعلامي ان ضحايا الارهاب ليسوا فقط من يسقطون برصاصه او قنابله، بل هم ايضا من الذي اجتذبهم وسخرهم كأدوات لتنفيذ اهدافه، سواء كان ذلك من خلال غسيل الأدمغة او العزف العاطفي على الغرائز بحيث لا يبقى لدى أداة الإرهاب البشرية غير ما يسميه العلماء الخلايا الزواحفية في الدماغ، ولو شئنا العودة ولو قليلا الى جذور الارهاب خصوصا في شكله الراهن لوجدنا انه زراعة شيطانية بقدر ما هو تصنيع، فما يحدث الآن ليس وليد اللحظة، وعلى سبيل المثال فإن حروب القرن العشرين الذي يصنفه المؤرخون على انه اقصر قرون الألفية الثانية وأقساها كان القرن التاسع عشر الذي يسميه هنري ايكن قرن الايديولوجيا قد حَبِل بها وبالمقياس ذاته فإن العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين هي التي حبلت وانجبت هذا المولود المسخ المسمى ارهابا خصوصا ان الدول العظمى التي تعلن الحرب على الارهاب هي التي أنْتَجَتهُ لكن السحر انقلب على الساحر .

اخيرا، ما من استراتيجية ناجعة لتجفيف منابع نهر الدم اذا كانت بمعزل عن معالجات تربوية مضادة للثقافة الشمشونية فالارهاب ينتج موته البطيء في كل انتصار وهمي او اشباع كاذب لشهوته السادية!

الاهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى