صفحات الرأي

الإســـلام قـــادم


عباس بيضون

الإسلام قادم بل هو في الأبواب، في تونس والمغرب ومصر. لم تعقه علمنة تونس الطويلة العمر ولا ملكية المغرب ولا التحديث المصري. ثم انه أيضاً في صميم الحدث السوري وقد يكون قرار الحدث الليبي وعمقه. الإسلام قادم مع الربيع العربي. يقول البعض انه أخرج الليبراليين من الجادة وألحقهم بالهوامش، يقول البعض ان الآتي لن يكون أرحم. فمحل الاستبداد العسكري لن تكون الثيوقراطية القادمة أرفق بطوائف المجتمع وتبايناته وأجنحته. إذا عدنا إلى الحدث الليبي فإن وعد عبد الجليل بأربع زوجات قد يكون فضيحة الثورة، وقد يكون وعداً بمزيد من الاضطهاد لا نعرف له تناهيا. يقول البعض ان آلاف الضحايا وعشرات آلاف المصابين على امتداد رقعة هذا الربيع سيكونون بلا ثمن. إن خسارة عظيمة تحدق بالأمة وهي أفدح من سابقاتها، سلمية الثورات لن تمنعها في اللحظة المؤاتية من أن تنقلب دموية حمراء. ديموقراطيتها قد تبطن العسف. حرياتها أغنية يوم واحد فربما هي عطوب قصيرة. الإسلام كما قام في أذهان الإسلاميين دين ودولة، والإسلام دين يولي الحكم لله وإن تولاه في الحقيقة بشر فانون فإن ذلك يلقي على السلطة، أيا كانت، ظلاً إلهيا ودعوى إلهية وذلك مرشح لأمد طويل لا مكنة خلاله من تميز الخيط الأسود البشري من الخيط الأبيض الإلهي ولا مجال فيه للتفريق بين حكم البشر وحكم الله. ترانا حقاً جازفنا من أجل نتيجة كهذه، أو أننا دفعنا ما دفعناه في سبيل خسارة محققة، في سبيل أن ينهض طغيان يقيم الفرد في مقام الله، ويقيم الحكم في مقام الشرع، ويقيم العسف في مقام الفريضة.

تحملت التنظيمات الدينية ما تحملت من عسف السلطة فبقيت لذلك على حدها وزادت في حرفيتها وتصلبها كلما أوسعتها السلطات اضطهاداً وشدة. إذا كانت هذه التنظيمات تمسكت بحبل السلف الصالح أو الحرف اللدني أو الموروث أو الدوغم فإن ذلك ما اضطرتها إليه سلطات ظالمة. إذا كانت هذه التنظيمات آثرت البعد عن العصر فإن هذا ما أدت بها إليه تجارب تحديث خائبة وطغم حاكمة، وقد كان الإصلاح الديني ممكناً لولا هذا الضيق الذي افتعلته حكومات قاسية. قامت الأنظمة العسكرية بمحاولات للهيمنة والاحتواء لم تجد ما يجابهها فيها سوى التنظيمات الدينية فنصبت لها المشانق والسجون. كانت قوة هذه التنظيمات هي خلاصة هذه السياسات. لقد أنشأت الطغم العسكرية أنظمة برانية تركت الشعب لتراثه ولآبائه الروحيين ولموروثه وهذه جميعها تتصل بالدين وبأهل الدين بأواصر وقربى. إذا كان للتنظيمات الدينية هذه الصولة فإن هذه هي العاقبة الفعلية لأنظمة العسكر وطغمها.

مع ذلك لا يسعنا ان نَطمئنّ ولا أن نُطمئن. النموذج التركي هو ابن تجربة أخرى ولا يشكل ضمانة لشيء. تصل التنظيمات الاسلامية إلى السلطة وهي لا تزال ساخطة على العلمنة، وما تزال تضع الخصوم أو المخالفين في صف العلمانية، نسمع هذا من أكثرها اعتدالاً. ها هو الغنوشي، على سبيل المثال يتكلم عن التحالف مع العلمانيين وكأنهم شيء آخر. العلمانية وحدها ضد الثيوقراطية وإذا كانت التنظيمات الدينية لا علمانية فذلك يعني ان مبدأ الدولة الحديثة مهدد في أساسه. الدين الحاكم هو موقف من الفرد والمجتمع والأقليات والمرأة لا يبشر بمساواة. والحكم الديني لن يذهب إلى ما تذهب إليه الآية التي تقول بأن لا أكراه في الدين وإنما تتخطاها إلى إكراه السياسة وإكراه الدولة وإكراه المرشد أو الولي وإكراه أولي الأمر. ذلك يعني، في جملة ما يعني، أن لا قيام لدولة بالمعنى الحديث للكلمة وأن ما يقوم ليس سوى نسق من الطغيان أو ترتيب للعسف أو طغمة أخرى.

لا يسعنا أن نَطمئنّ أو أن نُطمئنْ. النموذج السعودي ماثل لنا وقد يكون، شأنه في ذلك، شأن النموذج التركي، مثالاً وإذا صح ذلك لم نبتعد عن تأسيس سعوديات أخرى وعن إيجاد محور سعودي فاعل. هذا أمر لا يستحق أن تقام من أجله ثورات، ولا يستحق آلاف الضحايا والشهداء، لن نجني عندئذ سوى الخسارة والخسارة الفادحة.

لا نَطمئنّ ولا نُطمئن لكن ثمة علامات أخرى على الطريق، فأولاً رسم الديموقراطيون والليبراليون حدود هذه الثورات ومجالها وهي حدود ومجال الديموقراطية، وإذا لم تستطع القوى الديموقراطية في هذا الوقت القصير أن تربح الانتخابات فإن الحدود التي رسمتها لن تنهار بسبب ذلك ولن تسقط فوراً مهما كانت القوى التي ترفعها الانتخابات إلى الحكم، لن يكون سهلاً تأسيس دكتاتوريات ثانية ما دامت النخب الديموقراطية في الشارع وما زالت ساهرة على اقامة الديموقراطية ومتنبهة لكل خلل في هذا المجال ومستعدة للمحاسبة والتحرك الفوري في سبيل ذلك. لقد أجبرت المجلس العسكري الذي لا يقل طمعاً في السلطة عن أي قوة إسلامية على التراجع، ومن المؤكد ان سعي القوى الإسلامية للانفراد بالحكم، إذا صحت فرضيته، سيواجه اعتراضا تظهر فيه القوى الديموقراطية حجمها في الشارع الذي لا يقاس بثقلها الانتخابي، ولربما وجدت هذه القوى حلفاء فاعلين في معركة من هذا النوع.

ومهما يكن من أمر فإن الإسلاميين لحقهم عشرات السنين اضطهاد فعلي ونصبت لهم المشانق وأعملت فيهم المجازر وحشروا في السجون، ذلك جعلهم محل عطف من الجمهور ثم ان برانية السلطة واقتصارها على العسف وعجزها عن الهيمنة الفعلية والتغلغل في الطبقات الشعبية أفسح للإسلاميين ان يتحولوا إلى لسان الشارع وأن يتغلغلوا بانتظام فيه. من الطبيعي ان لا تطالب ثورة ديموقراطية بإبعادهم من جديد، وسياستهم بالعنف والعسف. ومن الطبيعي ان يجازوا على ثقلهم الانتخابي بما يقابله من السلطة. ذلك أمر لا مناص منه، لا مناص من ان يغدو الإسلاميون أحراراً في مجتمع حر، ولا مناص من ان يكون لهم نوابهم وأن يمثل هؤلاء بحق، ثقلهم الشعبي. لا مناص من انتخابات حرة بنتائج نزيهة، لا يهم ان ترضي أو لا ترضي. آن أن يرفع العسف عن الإسلاميين، ولا تستحق سلطة أن تتسمى بالديموقراطية إن هي أوقعت عليهم الاضطهاد والعنف. ذلك أمر لا خيار فيه، ثم ان ممارسة الاسلاميين السلطة ستحولهم من إلهيين إلى دنيويين، ومن مجاهدين إلى رجال سياسة، ومن شهداء ومساجين إلى أهل سلطة ونفوذ. ذلك خيار لن يكون الاسلاميون فيه غير الناس. سيحاسبون كما يحاسب سواهم، وسيخسرون من هالتهم وعصمتهم ما يخسره الجميع. للشعب، كما نعلم، مطالب ملحة ودائمة وليست الامكانات المتوافرة قادرة على التلبية الفورية. سيكون شأن الاسلاميين في الحكم شأن الجميع. سيوسخون أيديهم بالمال وبالنفوذ وبالإثره فهم ليسوا نساكاً ولا قديسين. لن يقاسوا عندئذ بمواعظهم ولكن بأفعالهم. لقد آن الأوان لكي يختبروا. طالما قالوا ان الإسلام هو الحل وأن يختبر الحل الإسلامي ولن يبقى هذا إلهيا إذا قيس بالأرقام وقيس بالنتائج العملية وقوبل بسواه من الحلول. سيخوض الإسلاميون في السياسة والاقتصاد وسيكون شأنهم فيهما شأن الجميع وستجر عليهم ممارساتهم فيها ردوداً شتى. سيكون عليهم ان يتنازلوا وأن يتكيفوا وأن يسلكوا سياسة لينة. لن يعودوا عندئذ المجاهدين والإلهيين فحسب، سيكونون الساسة والمشرعين وسيراهم الشعب بشراً وأناساً واقعيين لا مجرد رموز وكنايات للماضي الذهبي وملائكة في سوية البشر وشهداء في سوية الأحياء. من حق الاسلاميين ان يطالبوا بنصيبهم من السلطة ومن حق الناس، عندئذ ان يعاملوهم كساسة وكسلطات. لا يمكن للدعوى الإلهية ان تجعلهم معصومين وأن تعفيهم من النقد او تضعهم فوق البشر. سيكونون عندئذ بسوية الناس، خطائين كما هم الناس، أصحاب هفوات ومغالط كالجميع، بشراً كالبشر وأناساً كالناس.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى