صفحات الثقافة

الإسكندرية.. الأميرة والعاهرة/ أسامة فاروق

 

 

في أكتوبر 1977 أقنعت “هيئة الإذاعة البريطانية” الأديب البريطاني لورانس داريل بالعودة إلى الإسكندرية لتصوير فيلم بعنوان “روح المكان”. تردد داريل كثيرا، كان يخشى أن تكون “ثورة عبد الناصر” قد أفسدت المدينة التي عرفها، وأبدع في تصويرها. لكن خوفه الأكبر كان من أن يخون خياله، وأن تتكشف أمامه مدينة أخرى غير مدينة أحلامه التي سجلها في رباعيته الشهيرة.

تمثلت مهمة داريل في اصطحاب طاقم التصوير في جولات بالمدينة التي يحفظ تفاصيلها، في البداية كان يسير شريدا على غير هدى، ثم بدأ يلتقط الخيوط إلى الطرقات التي عرفها، بدت المدينة في عينيه جامدة وكئيبة، الميناء لم يتجاوز كونه مقبرة، ومقاهيها الشهيرة لم تعد تصدح بالموسيقى أو تتلألأ بالأضواء “تلاشت الملصقات والإعلانات الأجنبية، وأصبح كل شيء مكتوبا باللغة العربية، في أيامنا كانت ملصقات الأفلام تعلق بلغات عديدة مع إعلان باللغة العربية”.

عودة داريل سجل تفاصيلها مايكل هاج ضمن ما سجله في كتابه “الإسكندرية مدينة الذكرى”(*) يحكى هاج كواليس تأليف أعظم ما كٌتب عن المدينة. استعان بعشرات أو ربما مئات الكتب والشهادات ليسجل تاريخ المدينة عبر أشهر من كتبوا عنها: داريل، وكفافيس، وفورستر وآخرين. تتبع تاريخهم وحكاياتهم ونزواتهم التي كانت في ثناياها تاريخاً سرياً للمدينة نفسها.

وصل داريل للإسكندرية لأول مرة في ربيع 1941، وكان قد أتم للتو عامه التاسع والعشرين، بعدما اجتاح الألمان الأراضي اليونانية؛ هرب مع زوجته نانسي وابنتهما الرضيعة إلى مصر، وقتئذ كانت في الإسكندرية خمسة أعراق مختلفة، يتحدثون خمس لغات، وأكثر من عشر ملل دينيه، وخمسة أساطيل بحرية تتحرك خلف بوابة الميناء.

هدد روميل مصر وتم إجلاء نانسي وابنتها إلى فلسطين، رحلت زوجته الأولى ولم ترجع أبدا وبدأت رحله داريل الحقيقة في مصر. التقى داريل بعدها مع إيف كوهين وأصبحت زوجته الثانية وأهداها “جوستين”، الجزء الأول من رباعيته “رباعية الإسكندرية” التي كتب عنها لصديقه هنرى ميللر يقول: “إنها قصيدة نثر من نوع ما، إلى واحدة من أحب عواصم القلب، عاصمة الذكريات تحمل صورا لاذعة لسيدات الإسكندرية، هن بالتأكيد أحب النساء إلى نفسي وأكثرهن كربا وحزنا في العالم”.

تتبع طاقم التصوير داريل في شوارع الإسكندرية، تاه في بعضها، وأخذه الحنين في شوارع أخرى، تذكر بصعوبة منزل زوجته الثالثة (بعدما سافرت إيف أيضا)، كلود فينسندون، ابنة أحد أعيان الإسكندرية “أفضل أمراه تزوجتها” كما قال.

بالقرب من مفترق طرق لما كان يعرف بالمدينة الأوروبية، دخل داريل شارعا ضيقا، يسمى “شرم الشيخ” لكن الاسم الحقيقي للشارع كما يعرفه هو “حارة ليبسوس” نسبة إلى عالم

المصريات الألماني كارل ريتشارد ليبسوس وفى الطابق الثاني من المنزل الذي يحمل الرقم 10 (حاليا يحمل رقم 4) عاش قسطنطين كفافيس آخر سنوات عمره من العام 1907 وحتى بداية العام 1933 فترة نضجه الشعري، في شقة فوق بيت دعارة!

عاشت أسره كفافيس أولاً في شارع توفيق، الموازي لشارع شريف باشا، وإن لم يكن على طرازه نفسه، ثم في شارع محطة الرمل الذي كان يتمتع بحسن السمعة رغم انه على حد وصف المؤلف “كان يعج بتجار المتعة من الجنسين، حيث كانت الإناث تصطف على أحد جانبي الشارع، بينما يعرض الذكور أنفسهم على الجانب الآخر منه”!

عندما كان كفافيس في العشرينات والثلاثينات من عمره، ويعيش مع أمه في محطة الرمل، كان يدفع رشوة للخادم ليقلب له السرير ليبدو أنه قضى ليلته في البيت، في الوقت الذي كان ينسل فيه إلى حي العطارين ليراقب الشباب اليونانيين المهاجرين هناك على أطراف المدينة يقومون بأعمال شاقه لساعات طويلة، يقول هاج إنه كان مفتوناً بجمال أولئك الشبان الفقراء، وكان يود أن يعوضهم عما يفتقرون إليه، “لم يحاول استغلالهم لكنه كان فقط منجذبا لقدراتهم” وربما من هنا بدأ يفقد محبته للمدينة التي لم تتقبل مثليته، يقول إن الإسكندرية أصبحت ترى المثلية الجنسية فساداً كبيراً، أما في الماضي “في الإسكندرية العظيمة” كان أمرا طبيعيا، بل كان يحتفي به النحاتون والرسامون ويهتف له الشعراء.

يقول هاج إن كفافيس كان ينشر أشعاره الجنسية منذ العام 1912 ولكن كان من الممكن ألا تعتبر لوطية أو حتى مبدية لأفكاره ومشاعره الخاصة، لأن ضمير المتكلم لم يكن ضروريا في اليونانية، ولأن كفافيس كان كثيرا ما يحذفه!

في تلك الأيام وخلال العقدين الأولين من القرن العشرين، كانت المدينة تتربع على عرش الأدب اليوناني “في حين لم تكن أثينا سوى قرية ريفية كادحة تدور في ظل دولة حديثة العهد ولها تطلعات قومية”، وكان يرتاد شقة كفافيس، شعراء وكتّاب وممثلون وموسيقيون وفنانون ومبدعون، واعتبر اللقاء بين كفافيس والأديب الانكليزي إى إم فورستر حينها أهم لقاء أدبي في القرن العشرين، كتب فورستر”أظن أنه من حسن حظي أنه في ظروف الحرب الرهيبة التي كنا نعيشها أتيحت لى الفرصة للقاء أحد أعظم الشعراء فى عصرنا”.

كان فورستر في السادسة والثلاثين من عمره عندما رست سفينته في ميناء بورسعيد العام 1915 ركب القطار بعدها عبر الزقازيق وطنطا متجها إلى الإسكندرية، عاش هو الآخر حياة متقلبة في الإسكندرية، وكما يبدو من الكتاب كان الجنس محوراً رئيساً حتى لانطباعاته العابرة عن المدينة، يقول المؤلف إن صاحب كتاب “الإسكندرية .. تاريخ ودليل” الذي يعد من أهم الكتب التي كتبت عن هذه المدينة الساحرة، كان يقيم بالإسكندرية خلال معظم فترة الحرب العالمية الأولى “نبت الحضارة الأوروبية يترعرع في رفاهية على الساحل الإفريقي”، كانت الإسكندرية بالنسبة إليه ملاذاً آمناً ونقطة ارتكاز وأدة يفتح بها طلاسم الحاضر في خضم الكارثة التي تجتاح القارة الأوروبية وكتب فورستر وقتها “أدركت تماماً سحر المدينة وعبق التاريخ وغموضه وقررت أن أكتب عنها كتيبا إرشاديا يتحدث عن نفسه”، ولم يكن هذا الكتاب ليكتب أبداً لو لم يجد فورستر لأول مرة في حياته الطريق إلى الحب والمجون في الإسكندرية.

يحكى هاج في ثلاثة فصول تقريبا تفاصيل قصة حب فورستر ومحمد العدل منذ اللقاء الأول في مايو 1917 وحتى رحيل محمد وانتهاء فورستر من كتابة الضخم عن المدينة.

يرى هاج أن داريل لم يكن وحده الشخص غير الحاسم في استجابته تجاه الإسكندرية، بل كانت تلك أيضا سمة يتصف بها كفافيس وفورستر أيضا كانت المدينة تطاردهم جميعا “فالمدينة العالمية قد أعيد تشكيلها على خيوط هشة من الذاكرة”.

تلاشت المدينة الكوزموبوليتانية ولم يبق منا سوى أشلاء، وبدلاً من أن يلتقط فريق التصوير الذي صاحب داريل صوراً لفيلات فخمة، التقطت عدساتهم صوراً لمبان مهجورة ومخربة، لبوابات حديدية صدئة وفسقيات وتماثيل مهشمة تشهد على ما كانت تحمل هذه الفيلات من عظمة في الماضي، ورغم ذلك يؤمن هاج بأن المدينة لن تتغير أبداً “الإسكندرية، الأميرة والعاهرة، والمدينة الملكية. لن تتغير هذه المدينة أبدا، ما دام استمر هياج الأعراق هنا مثل العفن في وعاء التخمير”!

(*) صدرت ترجمته العربية مؤخراً عن المركز القومي للترجمة في مصر، وأنجزتها فضيلة محجوب، في سرد جميل (600 صفحة تقريباً)…

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى