صفحات الرأيياسين الحاج صالح

الإسلام، الإسلاميون، والعنف/ ياسين الحاج صالح

 

 

في التداول عقيدتان واضحتان وفرضية غير موضّحة حول العلاقة بين الجماعات العنفية الإسلامية والإسلام. تقول عقيدة أولى منتشرة إن هذه الجماعات هي الإسلام أو التعبير الصحيح عنه، وتقول عقيدة ثانية منتشرة بدورها إن الإسلام من ذلك براء. وندافع من جهتنا عن فرضية ترى أن داعش وشبيهاتها تنتج في شروط لا تمتنع عن التوضيح، سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية، محلّية ودولية، وأن عملية إنتاجها تتضمن أيضاً إنتاج الإسلام الذي «تستنتج» هي نفسها منه استنتاجاً ضرورياً.

نرى كذلك أن التساؤل عن العلاقة بين المجموعات العنفية الإسلامية والإسلام ينبغي أن يكون تساؤلاً عن الإسلام أيضاً: ما الإسلام؟ ما المقصود بهذا التعبير الذي يبدو شرحاً لأشياء كثيرة، فيما نراه هو ذاته محتاجاً إلى شرح؟ لماذا يبدو أن الإسلام شيء لم يفهمه المسلمون أنفسهم، فضلاً عن غير المسلمين، ويشعر كثير من الإسلاميين بالحاجة إلى توضيحه لغيرهم، فلا يزيدونه إلا التباساً؟ سنقول إن الإسلام شيء لا تكفّ عن إنتاجه –قبل أن تنتسب إليه– مجموعات إسلامية مختلفة فيما بينها، ومتنازعة، التماساً للشرعية ولوضوح الهوية. لكنها في الحركة نفسه تُفقده شكلَه ووضوحَه، لتجعل منه دالّاً فارغاً يمكن أن يمتلئ بكل شيء، من التقوى إلى «الاحتطاب» (توقيف الناس ومصادرة أملاكهم وقتلهم بذريعة أنهم كفار)، ومن الحركة السياسية إلى المنظمة العدمية، ومن قوّة الاحتجاج على التمييز إلى آلة القتل العشواء، ومن دين المسلمين العامّ إلى سلطة أقلية عدوانية.

سنقول أيضاً إن الدين قد يُضفي الشرعية على العنف، لكن لا يسبّبه. السببيات دنيوية، ومن الضروري تالياً، ونحن نفكّر في عنف المجموعات الدينية، أن ننقل مركز النقاش من الديني والمشرّع إلى الدنيوي والسببيات.

الإسلام هو داعش!

انتشرت العقيدة التي تساوي بين الإسلام وداعش في سوريا بعد الصعود المشهدي للأخيرة في عام 2013. تقول هذه العقيدة إن داعش، وأخواتها («جبهة النصرة»، «أحرار الشام»، «جيش الإسلام»…)، هي تحقق الإسلام وحقيقته، أو التعبير الصحيح عنه. فهي تستند إلى آيات صريحة في القرآن تدعو إلى قتل الكافرين، وتفرض على «أهل الكتاب» دفع الجزية «وهم صاغرون»، وتؤسّس للتمييز ضد النساء. التطلّع إلى فتح البلدان و«وراثة الأرض» مؤسَّس قرآنياً بدوره. وحكم الرِّدّة مكرَّس في الفقه الذي يعتبره السلفيون وعموم الإسلاميين السياسيين من صلب الإسلام. وبعض أعلام التاريخ الديني للإسلام مثل ابن حنبل1 وابن تيمية2 وابن عبد الوهاب3، فضلاً عمّن هم أحدث مثل سيّد قطب4 وأسامة بن لادن5، هم الأكثر تشدّداً والأكثر فوزاً اليوم بالشرعية الإسلامية، وإليهم تنتسب بجدارة المجموعات العُنفية الإسلامية.

لا ريب في هذا كله.

لكن ألم تكن هذه الآيات موجودة على الدوام؟ ما الذي جعل السلفية تسجّل هذه القفزة الكبيرة في سوريا خلال سنوات الثورة، بينما كانت تياراً ثانوياً حتى بضع سنوات خلت؟ وكيف نفسّر تعدّد التيارات الإسلامية وتنازعها، إن كان محدّدها هو المتن العَقَدي الإسلامي الواحد؟

وهل إذن لا مجال للتعايش مع الإسلام ذاته، ما دامت هذه الحركات العدوانية هي هو؟ أليس هذا باباً للتهجير والعدمية، لا ينفتح على غير داعش ضدّ-إسلامية؟

وهل هذه العقيدة أطروحة فكرية يجدها المرء مَصوغة بوضوح عند دارِسين جادّين، أم هي أداة في الصراع الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي المحتدم في مجتمعاتنا قبل الثورات وأثناءها واليوم؟

هيمن طول العِقدين السابقَين للثورات العربية، وبخاصة العِقد اللاحق لـ11 أيلول 2001، تفكير «ثقافوي» يردّ أوضاع مجتمعنا ككل، بما في ذلك نُظُمنا السياسية، إلى الثقافة (التاريخ والجغرافيا والسياسة والاقتصاد تُهمَل) مردودةً إلى الموروث (المكتسَب يُهمَل)، مردوداً إلى الدين (ما ليس دينياً من أدب وتاريخ وثقافة شعبية يُهمَل)، مردوداً إلى الإسلام (الفكر والعقيدة المسيحية واليهودية والإيزيدية تُهمَل)، مردوداً في سوريا إلى الإسلام السنّي (الثقافة العلوية والدرزية والاسماعيلية والشيعية تُهمَل). بِفِعل تقليصات متلاحقة، يُحيل هذا المنهج الثقافوي السياسة والاقتصاد والأوضاع الدولية إلى عوامل عاطلة عن التأثير، حين لا يُشتقّ بعضها من الدين أيضاً.

وقد لا يكون هذا الطرح مصمّماً بغرض وحيد هو تبرير النظام، إلا أنه يتحرك في حقل أيديولوجي سياسي يُيسّره لأداء هذه الوظيفة أساساً. أصحاب هذا المنهج وقفوا من الثورة السورية دون استثناء معلوم موقفَ المتحفّظ منذ البداية، وصمتوا عن النظام أو بالكاد غمغموا عنه شيئاً.

ولبعض الوقت بدا أن هذا الطرح تلقّى لطمة كبيرة في الثورات العربية، وهي تمرّدات اجتماعية واسعة، موجّهة أساساً ضد النظام السياسي في بلدانها، وتُحرّكها مطالب اجتماعية وسياسة عادلة. في جميع هذه الثورات ظهر الدين كقوة احتجاج، وصعدت في جميعها جماعات دينية، تصدّرت بصندوق الاقتراع في بلدين (قبل أن تُحظر وتُحارَب في أحدهما بانقلاب عسكري)، واقتحمت المشهد بعنف في بلدان أخرى.

وعموماً تبدو صورة المجموعات الإسلامية الصاعدة على صلة وثيقة بحال البُنية الوطنية في البلدان المعنية. كلما كانت هذه البنية أشدّ خراباً، كانت هذه الحركات أشدّ تطرّفاً وعنفاً. تونس وسوريا قطبان متقابلان في هذا الشأن. في تونس «مجتمع مدني» حيوي نسبياً، ونقابات نَشِطة، وجامعات بمستوى جيّد، والتيار الأكبر بين إسلامييها، مختاراً أو مضطراً، أخذ هذا الواقع بعين الاعتبار. أما سوريا فهي المثال «الأخرب». طوال عقود كانت تَحكم البلد «دولة» منزوعة العمومية والوطنية، تمتلكها الأسرة الأسدية، وتشعر قطاعات واسعة من السكان بالغربة عنها، فيما بقية السكان رعايا تابعون للأسرة المالكة. المجتمع المدني محطّم، النقابات مُستتبَعة، الجامعات محتلّة، ووظائفها العلمية والاجتماعية متداعية. وحين شبّت الثورة، وُوجهت منذ البداية بحرب منفلتة، دونما ضوابط إنسانية أو وطنية.

هذا الارتباط الجزئي على الأقل بين الحركات الإسلامية العنفية والمجتمعات المعنّفة يُسوّغ التشكّك بعلاقة تَماهٍ مباشر بين تلك الحركات وبين الإسلام، على ما تفضّل الاعتقاد مجموعتان متعاديتان: هذه المجموعات العُنفية الإسلامية ذاتها التي تقوم هويتها وشرعيتها على تقرير تماهيها التامّ بالإسلام، ثم مجموعات معادية ماهوياً للإسلاميين، وللإسلام ذاته، سواءً كان غرضها تسويغ أوضاع قائمة أو في سياق الصراع الطائفي. الكلام نفسه تقوله أيضاً دوائر يمينية في الغرب، اشتهرت بدروها بممارسات مشهدية: حرق القرآن، رسوم كاريكاتير تحقّر نبيّ الإسلام، اعتداءات عنصرية على مسلمين.

الإسلام من ذلك براء!

وتلازم تلك العقيدة الاتهامية عقيدة معاكسة تقول إن الإسلام من ذلك براء، وأن داعش تحديداً مؤامرة لتشويه صورة الإسلام، وهي صنيعة إيران أو النظام الأسدي أو جهات استخباراتية أجنبية. ويجري استخدام هذه «الكليشيه» (الإسلام من ذلك براء) في كل حين للقول إن الإسلام كامل والمسلمون ناقصون، وأن المشكلة في تطبيق الناقصين، الناقص حتماً، للكامل، وليس في «الكامل» طبعاً. الحجّة نفسها حرفياً استخدمها شيوعيون وقت سقوط المعسكر الشيوعي قبل ربع قرن.

لكن كيف يكون الإسلام براء من حركات لا تُصرّ على انتسابها إليه فقط، بل يبدو أنها تستطيع المزايدة على الجميع وإحراجهم في توكيد هذا الانتساب؟ وكيف يكون الإسلام براء حين تمتشق هذه الحركات آيات صريحة من القرآن، فضلاً عن أحاديث نبوية ومَرويّات تاريخية، تسوّغ أفعالها، بل توجب هذه الأفعال، فيما بالكاد يُغمغم خصومها من الإسلاميين شيئاً متحفّظاً لا يمسّ جوهر حجج المتشدّدين؟ وكيف لا تكون هذه الحركات جوهرية الانتساب إلى الإسلام إن كان خصومها الإسلاميين يفشلون جوهرياً وفي كل مرة في إدانة استخدام العنف باسم الدين أو توسُّل الإكراه لفرض النظام الإسلامي والمعتقد الإسلامي ذاته؟

الدين-الإكراه هو «المتصل» الأعمق الذي يشغل إسلاميون متنوعون، من الإخوان المسلمين حتى داعش، ومن «مفكّرين» كالقرضاوي إلى فقهاء الوهابية إلى «شرعيّي» ’جبهة النصرة‘ و’الجبهة الإسلامية‘ في قول كلمة واحدة واضحة عنه: إن الإسلام يرى أن الإكراه في الدين غير شرعي وغير مقبول. فإذا كان الإكراه في الدين مقبولاً، لن تبقى أية حواجز فكرية يمكن نصبها في وجه الوصول إلى داعش. بل ستكون داعش هي القوة التي تتولى الإكراه باسم الدين بجدّيّة أكثر من غيرها وبعزم أكثر من غيرها وبإخلاص أكثر من غيرها. سيكون الغير خائرين أو منافقين أو مزدوجي الكلام. وإذا لم يكن العنف مرفوضاً باسم الإسلام، وإذا كان الإسلاميون جميعاً يقولون إنه لا بأس باستخدام العنف باسم العقيدة، وإن قتل المرتدّ واجب مثلاً، وإن العلماني كافر، فكيف يكون الإسلام من ذلك براء؟ هل المشكلة في «تجاوزات» هنا وهناك؟ هذا لا يستحقّ أن تتشكل حوله تيارات ومنظمات مغايرة لداعش، بل منازعة لها.

قد ينفي إسلاميون العلاقة بين الدين والإكراه، لكن حين يُطلب منهم كلام واضح بشأن إقرار حرية الاعتقاد الديني، بما في ذلك حرية عدم الاعتقاد وحرية تغيير الاعتقاد، يغمغمون ويتهرّبون.

أريد القول إنه ليس هناك فرق جوهري بين الإسلاميين على هذا المستوى. والقطيعة المرغوبة بين الدين والإكراه لا تزال طيّ الغيب.

وظاهر من هذه المناقشة أن في التأويل المهيمن للإسلام استعدادات أو شروط إمكان قوية للمجموعات العُنفية الإسلامية، وإن كان يبدو أن الإمكان ذاك لا ينتقل إلى عالم التحقق دون أوضاع واقعية مناسبة، تجعله مرغوباً وواجباً. وهو ما يعني أن تغيّر الأوضاع الواقعية يُضعف إمكانية تولّد هذه المجموعات، لكن ما يحول دون ولادتها تماماً هو زوال الشروط التي تجعلها ممكنة في التأويل المهيمن للإسلام.

وغير متصل الدين-الإكراه، هناك مشترَك عميق آخر بين مختلف صنوف الإسلاميين هو المخيال الإمبراطوري، الخاصّ بفتح البلدان واحتلال الأراضي الواسعة. يمكن تعريف الإسلام السياسي عموماً، وأكثر منه الإسلام العسكري، بهذا التطلع الإمبراطوري القائم على المزج بين الدين والقوة، أو على الشرعية الجوهرية للإكراه. والحال أننا لا نستطيع الاعتراض على ممارسة الإكراه داخل بلداننا ضد غير المؤمنين أو أصحاب الآراء غير النمطية دون الاعتراض على شرعية حروب الفتح والعنف الإمبراطوري، ودون مراجعة المخيال الإمبراطوري. سارَ الإكراهان معاً في الماضي، وترابَطا سياسياً على الدوام: التوسّع في الخارج والاستبداد في الداخل. القطع مع الاستبداد في الداخل يوجب القطع مع نزعة التوسّع الخارجي.

ليس الغرض إدانة الماضي، بل بالضبط جعل الماضي يمضي، والانفصال عنه، بحيث لا يتكرّر اليوم. وهو إن كان يتكرّر اليوم على يد داعش، فلأننا لم نسائل، كمجتمعات وثقافة، هذه المخيّلة أو نتوقف عند رموزها وأحلامها.

وما نرتبه على ذلك أن الإسلام ليس براء من داعش من موقع أي إسلاميين سياسيين نعرفهم. إن إسلاماً يعرّف نفسه بلا إكراه في الدين من جهة، وبرفض جوهري لاحتلال البلدان من جهة ثانية، هو ما يمكن أن يكون براءً من داعش.

وليس في عقيدة إن الإسلام من ذلك براء ما يدفع إلى أخذها بجدّيّة. فهي تنزِع نَسَقياً إلى إلقاء اللوم على أشرار آخرين: المخابرات الأميركية، إيران، النظام الأسدي، الموساد… وبهذا هي في الواقع آلية اتهام وتبرّؤ، لا تنفتح بحال على تَقَصٍّ مركّب لجذور المجموعات العنفية الإسلامية، وتفشل في كل مرة في شرح دواعي اضطرارها المتكرّر للدفاع عن الإسلام، أو السبب في كون الإسلام موضع توظيفات محرجة ينبغي التبرؤ منها.

في واقعه اليوم، «الإسلام» استراتيجية لإضفاء الشرعية على سياسات متنوعة ومتناقضة، على حركات يمكن أن تكون إجرامية، وعلى أنظمة وأوضاع سياسية يمكن أن تكون لا إنسانية. ويبدو أنه يمكن تسخيره بيُسر لأغراض يجد مسلمون وإسلاميون أنه لا بد من تبرئته منها. لكن تبرؤهم ذاتي، لا سند له في مخيالهم وفي تفكيرهم السياسي الديني ذاته.

من الفاعل؟

هناك في المقام الثالث من يتشكّكون في تصور علاقة بسيطة مباشرة بين الإسلام والمجموعات العنفية. سنحاول هنا صوغ تصوّر علائقي مركّب بقدر ما يمكن من الوضوح.

تستند المجموعات الإسلامية المتشدّدة دونما ريب إلى المجمل الإسلامي، ولا تأتي بشيء يمكن لأية مجموعات إسلامية «معتدلة» أو أقلّ تشدداً أن تقول إنه من خارج الإسلام. لكن المجموعات الإسلامية كلها لا تكف أثناء عملها عن إعادة بناء المجمل الإسلامي كي تستنبط نفسها منه استنباطاً ضرورياً.

على سبيل المثال، يركّز السلفيون الجهاديون على سورتَي الأنفال والتوبة6، ويتهمون النظام بأنه يحذف هاتين السورتين الغاضبتين العنيفتين من القرآن؛ قال لي ذلك «مجاهد» من ’جبهة النصرة‘ في صيف 2013. وهم يعتبرون أن آية السيف {اقتلوهم حيثُ ثَقِفتُمُوهم…} نَسَخَت قسماً كبيراً من القرآن، بما في ذلك آية {لا إكراهَ في الدين}، وهي –في رأيي– آية تأسيسية، يقوّض نسخُها الإسلامَ كلّه كدين، ليغدو أيديولوجيا فتح وإخضاع. وعلى أساس عَقَدي كهذا، سيكون الكلام على مقاومة سِلمية، مثلاً، خطأً في العقيدة، وليس مجرّد سياسة غير ناجعة.

ويتخذ تنظيم ’جيش الإسلام‘ في الغوطة الشرقية شعاراً له قولاً يُنسب إلى عمر بن الخطاب: نحنُ قومٌ أعزَنا اللهُ بالإسلام، فإذا التمسنا العزّةَ بغيرهِ أذلّنا الله! وهو قول لا يُضفي شرعية أعظمية على هذا التشكيل السلفي العسكري فقط، وإنما ينزع الشرعية عن غيره. ما هو الإسلام؟ الإسلام هو ما يكونه «جيش الإسلام»، وبالتالي أي شيء يصادف أن يفعله.

وفي البناء الذي اتخذه ’مجلس الشورى في دوما‘ مقرّاً له عُلّقت الآيات التالية من القرآن: {… يرفعِ اللهُ الذينَ آمنوا منكم والذين أُوتوا العِلمَ درجات}، {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟}، {والذين يُمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة، إنا لا نُضيع أجر المُصلحين}، {إقرأ باسمِ ربِّكَ الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربُّكَ الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم}. واضح أنه جرت مقاربة التعاليم الإسلامية من زاوية ما تُدرّه من شرعية أكبر ورفعة أكبر على «علماء» هذه الهيئة المخصوصة. السادة العلماء اختاروا ما يميّزه عن غيرهم، وما يرفعهم درجات فوق غيرهم، وليس ما يجمعهم بالناس.

المبدأ الفاعل في كل حال هو مجموعات بشرية حولنا، لا يمتنع التعرّف عليها ولا تحول دونَه صعوبة مبدئية (سلفيون جهاديون، ’جيش الإسلام‘، ’مجلس الشورى في دوما‘…)، تعيش في شروط عينية لا يمتنع التعرف عليها بدورها. تحرص هذ المجموعات على إظهار نفسها ممتثلةً لأمر إلهي، أنها ليست غير طرف منفعل مطيع، ينفّذ بكل أمانة واجباً مقدّساً سابقاً عليه. في واقع الأمر، العكس هو الصحيح. هي تختار من المجمل الإسلامي ما يسوّغ نهجها ويضفي عليها الشرعية ويضعف شرعية خصومها. لذلك لن نجد مجموعة سلفية جهادية شعارها: ولا تعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين! أو مجلس شورى شعاره: إن الملوكَ إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزّةَ أهلِها أذّلة! أو مجلس إفتاء شعاره: إن الله يغفر الذنوب جميعا! أو تياراً إسلامياً سياسياً شعاره: لا إكراه في الدين!

ماذا يعني أن مجموعات بشرية في شروط تاريخية بعينها هو الطرف الفاعل في العلاقة بينها وبين «الإسلام»، وأن المتون الإسلامية هي المنفعلة والمستجيبة لطلبات هذا الطرف الفاعل؟ يعني أن علينا الانتقال في مقاربة هذه المجموعات من النصوص والمجملات الإسلامية إلى المجموعات البشرية في بيئاتها الفعلية وشروط وجودها وعملها الواقعية. يعني أن علينا أن نفكر بالأمر بمفردات السياسة والاقتصاد والاجتماع والجغرافيا والعلاقات الدولية… جملة النُظُم والمناهج التي نقارب بها الظواهر الإنسانية عموماً.

ولا يبقى الإسلام مُشابِهاً لنفسه حين تنتقي منه هذه الجماعات ما يعود عليها وعلى سياساتها بشرعية أعظمية. فكي تحتفظ بهذه الشرعية عليها أن تعيد هيكلة الإسلام حول ما تنتقي منه، بحيث تحجب واقع الانتقاء من جهة، وبحيث يبدو ما جرى انتقاؤه هو الإسلام ذاته، وكما كان دوماً. على هذا النحو تكون هذه القوى هي المسلمة حقاً، وحاملة راية الإسلام الصحيح الذي هو من غيرها براء. سيقول الجهادي، مثلاً، إن الجهاد هو «ذروة سنام الإسلام»، ويقول شيئاً عن «عزّة الإسلام»، ويستظهر آيات القتال من سورتَي التوبة والأنفال، وسيكون جهاده تالياً تطبيقاً لأمر إسلامي، وليس نتيجة «جهاد» قام به هو لإعادة هيكلة المعتقد الإسلامي بما يسوّغ خياراته. لا يخترع القوم شيئاً، لكن إعادة الهيكلة تغيّر من تركيب المعتقد بحيث يكون ما تم اختياره مركزياً من جهة، ومن جهة ثانية تقلب العلاقة بين الفاعل والمنفعل بحيث يبدو المعتقد الديني هو الفاعل والعنصر النشط في العلاقة، بينما تبدو المجموعة الدينية منفعلة وسلبية ومطيعة لأمر الله.

ومن هذه الصورة المقلوبة يبدأ أصحاب العقيدة الأولى الذين يُقيمون تساوياً بين داعش أو غيرها والإسلام. ما يفوتهم هو العملية الأيديولوجية التي أنتجت داعش الإسلامَ عبرها واستولدت نفسها منه، فضلاً عن العمليات السياسية والاجتماعية التي ولّدت الاستعداد الداعشي ذاته، وفي الأساس منها شرط المجتمع المُعنّف (والمُشوّش، كما سنقول لاحقاً). لكن هذا يجعل أصحاب هذه العقيدة يقولون بالضبط كلام داعش وأشباهها عن أنفسهم (داعش تعاقب من يسمّيها داعش، وتعرّف جماعتها بالمسلمين، لا أكثر ولا أقل). وبهذا المسلك القاصر معرفياً يتبرعون بدين المسلمين لهذه القوى، فيُضيفون إلى قصور المعرفة طيش السياسة.

لكن، في الوقت نفسه، لم يخترع السلفيون الجهاديون سورتَي التوبة والأنفال، ولا اخترع مجلس الشورى في دوما آيات تُثني على «ممسكي الكتاب» و«الذين يعلمون»، ولم تخترع داعش ديناً خاصاً بها. صحيح أن إعادة الهيكلة تغيّر من تركيب المجمل موضع الهيكلة، إلا أنها لا تُضيف إليه شيئا من خارجه. في المجمل الإسلامي، وفي قراءاته المعاصرة، وفي المخيال التاريخي المكرَّس، استعداد قوي لداعش، تحقّقه هذه عبر إعادة هيكلة تبرز آيات ومواقف الجهاد، والحدود، والولاية العامة وعزل النساء. وهذا يحكم بالبطلان على القول بأن الإسلام من ذلك براء.

من أين يأتي العنف؟

على أن السؤال الذي نراه كاشفاً هنا ليس ما إذا كان يمكن لحركات دينية متنوعة اشتقاق نفسها من مجمل ديني متنوع بدوره بحيث تُقنع الجميع أن ولادتها منه ولادة طبيعة، وأنها الابن الشرعي الوحيد له؛ السؤال الكاشف بالأحرى هو: هل تحتاج حركات اجتماعية أو سياسية أو دينية تمارس العنف وتتطلع إلى السيطرة العامة إلى مصدر شرعي كي تمارس العنف والسيطرة، وإلا امتنعا عليها؟

الحركات التي مارست السيطرة متنوعة جداً، منتشرة في المجتمعات كلها، وفي العصور كلها، ولا يبدو أن منها من استغنى عن تسويغ عُنفه، أو عجِز عن العثور على ما يسوّغه. كلام المسيح في الإنجيل يخلو من الكلام عن الحرب والقتال، مع ذلك مارس مسيحيون مؤمنون من العنف، وباسم المسيح، ما هو جدير بانتزاع إعجاب الجهاديين الإسلاميين وإثارة حسدهم. ولا تكفّ عن الحرب في عصرنا دول لا تكف عن الكلام على السلام، مثل إسرائيل، ولا يبدو أنها تجد صعوبة في العثور على ما يشرّع حروبها، وإقناع قطاعات واسعة من الرأي العام «المستنير» بشرعية هذه الحروب.

لكن ما يُشرِّع العنف ليس ما يسبّبه. فما هي سَبَبِيّات العنف؟

نفترض أن العنف ينبثق من التمييز بين البشر، من ترتيبهم في مراتب بعضها أعلى من بعض، ولبعضهم من الحقوق أكثر من بعض، وحياة بعضهم أعزّ من حياة بعض آخر. منبع العنف هو الامتياز السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، ومقاومة العموم للممتازين وسعي الممتازين لاحتكار القوة والسلاح لإدامة امتيازاتهم. الأديان والعقائد يمكن أن تثبّت هذه الأوضاع أو تعترض عليها، وفي مراحل مختلفة من الزمن تثبّت أوضاعاً جائرة وتعترض على أوضاع جائرة. المسألة تاريخية بالكامل. ودون سند تشريعي في دينهم، يجد مسيحيون مؤمنون سَنَداً فكرياً لممارسة العنف عبر ما يولّده التماهي بالمسيح، المتماهي بدوره بالله، من تعصّب وتعالٍ على الغير. ليس هذا التعالي هو ما يقودهم إلى ممارسه العنف، تقودهم إليه أوضاع عينية لا تمتنع على التقصي، لكنهم حين يمارسون العنف يجدون سَنَدا فكرياً قوياً لممارسته. يجد المسلمون سَنَداً فكرياً وتشريعياً لعنفهم أيضاً، لكن ما كان لغياب السند أن يحول بينهم وبين ممارسة العنف، مقاوِماً كان هذا العنف أو عدوانياً.

فإذا ضربنا صفحاً عمّن يعتبرون كل عنف غير شرعي، تثور أسئلة مهمة: هل العنف الممارَس اضطراري أم اختياري؟ مقاوِم أم استعماري؟ عادل أم عدواني؟ بعبارة أخرى، ينبغي تحويل السؤال نحو منابع التمييز واللامساواة والاستعباد والتهميش، أي نحو السياسة وجذور الصراع العنيف، بدلاً من توجيهه حصراً نحو التشريع الأيديولوجي للعنف.

تَفجّر العنف في سوريا لأن هناك طغمة تستعبد السوريين، وتُسبغ على نفسها الكمال والعبقرية والتفوق، وتُبلغهم بألسنة متعددة أن حياتهم ليس كحياتها وكرامتهم ليست ككرامتها. ومارس إسلاميون ولا إسلاميون، ويمارسون اليوم، عنفاً دفاعياً في مواجهة نظام عدواني. ويمارس إسلاميون عنفاً عدوانياً ضدّ أي خصوم متصوَّرين في مناطق يسيطرون عليها لأنهم يريدون تثبيت أوضاع امتيازية لأنفسهم ومجموعاتهم، وهم يبحثون في دينهم عما يسوّغ تعاليَهم، ويجدونه.

في العنف المضادّ للنظام في سوريا يمتزج التمرّد العادل ضد نظام تمييزي وعنيف، مع ممارسات عُنفية تمييزية تشبه ممارسات النظام. تهافُت نهج إسلاميين عسكريين يتمثل في اعتراضهم على التمييز بمنطق تمييزي.

لا يجد الإسلاميون صعوبة في إيجاد ما يشرّع عنفهم وحروبهم في المتون الإسلامية، لكن لو لم يجدوا لاخترعوا التبريرات المناسبة مثل غيرهم. ولا يبدو عموماً أن الناس يحتاجون إلى نصوص مقدّسة كي يحاربوا ويمارسوا العنف. وجود هذه النصوص أمر طيّب طبعاً، لكن ليس لأنها موجودة هم عنيفون وحربيون.

لكن ما هو الإسلام؟

هل يجرّد هذا الطرح العقائد الدينية (والدنيوية) من الشخصية والمبادرة، هل يجعلها مجرّد مستودع للتسويغات؟ هذا هو مؤدّى التحليل. لكن سنقول بعد قليل إن هناك شيئاً آخر يتوسّط بين العقيدة والجماعة الفاعل، هو المِخيال والذاكرة التاريخيان.

والواقع أن في المستوع أشياء متناقضة جداً، بما فيها ما يبرّر لإبليس ضلالته على ما قال مكسيم ردونسون7 يوماً. أيام كتب رودنسون الماركسية والعالم الإسلامي والإسلام والرأسمالية، ستينات وسبعينات القرن العشرين، لم يكن السؤال ما إذا كان الإسلام يسوّغ العنف والإرهاب أم لا، بل ما إذا كان الإسلام أكثر توافقاً مع الرأسمالية أم مع الاشتراكية. وقد وجد أنصار هذه الدعوى وأنصار نقيضتها ما يسوّغ دعاويهم في المُجمَل الإسلامي، وبدا الإسلام الواحد إسلامَين اثنين أو إسلامات متعددة.

لكن ما هو الإسلام؟ على ضوء التحليلات السابقة نجيب بأن الإسلام مُجمَلٌ يُعاد تشكليه أو هيكلته وتأويله على ضوء مطالب وحاجات جماعات بشرية بعينها في شروط تاريخية محددة. تستنفر هذه الحاجات والمطالب نصوصاً قرآنية أو أحاديث نبوية أو اجتهادات فقهية أو قراءات تاريخية قام بها مفكّرون أو فقهاء مسلمون، أي شيئاً يسوغ التفضيلات الراهنة. فكأننا حيال عيون مختلفة، تصدر كل واحدة منها شعاعاً مغايراً لما تصدره الأخرى، ويضيء كل من الأشعة شيئا مختلفاً، فيتراءى أمامنا مشهد مختلف. هل هناك صنف من الأشعة يمكننا من أن نرى المشهد كله وعلى «حقيقته»؟ يبدو لنا أن هذا غير موجود إلا كزعم ذاتي لكل عين.

ومثله الزعم بأن «الإسلام» يقول كذا ويرفض كذا. الإسلام لا يقول ولا يرفض، من يقول هم مسلمون بعينهم في شروط عينية، يتعيّن معرفتها. وفي كل مرة يُنسب إلى الإسلام شيء، يكون الناسب أعاد تعريف وبناء الإسلام بما يناسب ما يريده.

غير أن ما يمكن استخلاصه من مجمل هذا التحليل أيضاً هو أن هناك دروباً ممهّدة ومفتوحة بين المجمل الإسلامي وبين تشكيلات إسلامية سياسية وعنفية متنوعة، بما يسهِّل عليها تثبيت شرعيتها. وأن مهووسيين دينيين أو طامحين سياسيين أو مجرمين تائبين أو حتى وكلاء أجهزة مخابرات، يستطيعون بالمزايدة ودون ممانعة تقريباً تسخيرَ المجمل الإسلامي لأغراضهم. «التشدّد يُحسِنُه أي أحد»، على ما قال يوماً سفيان الثوري8، والحركات المتطرفة التي ترتدّ عقائدها إلى كاتالوغ محدود ولا روح فيه من الأقوال والأفعال الصحيحة يَسهُل على أي كان انتحاله ومحاكاته، وربما اختراق هذه المجموعات واحتلال مراتب عالية فيها.

هذا حال المجمل الإسلامي اليوم: يكاد يكون بلا شخصية ذاتية، أي بلا مبادئ قوية وبلا قِيَم حيّة. وهذا واقع محقّق يزداد رسوخاً بقدر ما تمتدّ أيدي إسلاميين متنوعين بلا وساوس إلى المستودع الإسلامي ينخَبون منه ما يناسبهم، دون أن يسجّل أفرادهم، أو تسجّل منظماتهم وسياساتهم، أية ميزة إنسانية أو أخلاقية عامة.

ويشير النجاح المتواتر لأسلوب المزايدة على الغير والإحراج إلى غياب منطق الواقع والممكن عن التفكير الإسلامي، أو انفصال هذا التفكير عن شروط الحياة الفعلية للناس، وأكثريتهم من المسلمين. ونعلم من تاريخ سوريا المعاصر أننا لم نصحُ من المزايدة البعثية باسم عروبة بلا شخصية واضحة وبلا مبادئ قوية إلا على هزيمة حزيران 1967، ثم الكارثة الأسدية المستمرة. وليس هناك أي سبب لنتوقع ثماراً أقلّ مرارة من التقاء ضعف شخصية الإسلام المعاصر مع تجاهل الإسلاميين لمنطق الواقع. الكارثة قادمة، ولا يبعد أن تكون أسوأ من كل ما عرفنا حتى اليوم.

تشوّش ثلاثي الأبعاد

ويبدو أن وضع انعدام الشخصية هذا وغياب مبدأ الواقع تعزّزه حالة تشوش عامة متعددة المستويات في أوساط عموم المسلمين. تشوّش معرفي: في أي عالم نحن؟ وفي أي وضع؟ كيف جرى لنا كل هذا؟ وتشوّش وجداني وأخلاقي: من الصديق ومن العدوّ؟ مَن معنا ومن ضدنا؟ ماذا نريد؟ وتشوّش وجودي: من نحن؟ كيف نتغيّر؟ ماذا نصير؟ عند الإسلاميين، الجواب على كل هذه الأسئلة هو كلمة واحدة: الإسلام. وهذا اقتصاد في التفكير مصدره بكل بساطة الفقر الفكري والروحي المُطبِق. ومحصلته هي مزيد من الضغط على الإسلام والتلاعب به، مزيد أيضاً من فقدانه الشكل، ومزيد من إضعاف شخصيته. ومن التشوّش طبعاً.

وتتغذّى حالة التشوّش العام من تدهور أحوال المسلمين الذين يُفترض أن الله معهم، لكن تزيدها تعقيداً انتهازية الإسلاميين وافتقارهم للشجاعة الفكرية والأخلاقية، وهذه أهم بكثير من شجاعة جسدية لا يمكن إنكارها على الإسلاميين عموماً. ويسهم في التشوش معادون للإسلام موتورون، يجاهدون بكل ما أوتوا من قوة لتسفيه دين المسلمين والتشنيع عليه، وغرس شعور النقص في نفوسهم، واعتبار معتقدهم مصدراً حصرياً أو المصدر الأساسي لمشكلاتنا. هذا ليس غير صحيح فقط، وإنما هو مساهمة في «المجهود الحربي» للاستعمار المحلي.

والخلاصة أنه ليس الإسلاميون نتاج الإسلام المتماثل مع ذاته دوماً، بل الإسلام نتاج الإسلاميين وصنيعهم. وهم يستخدمونه لأغراضهم، ويجعلون منه مَطيّة لتطلّعاتهم للسيطرة على البشر والتحكم بالموارد. ولا يبدو أنهم يواجهون مقاومة من تفسيرات آخرى للإسلام تدفعهم إلى التردّد، ما يشير إلى إضعاف شديد مديد لشخصية الإسلام وقيمه، تجعل كل مُزايِد انتهازيّ قادراً على انتحاله واللعب به. فإذا قلنا إن الإسلام هو مجمل التأويلات المتاحة والمجموعات الإسلامية القائمة بالتأويل، فلا ريب أن العنفية الإسلامية شرعية الانتساب إلى الإسلام، وهي أقوى شرعية إسلامية في زمننا الراهن.

داعش نتاج شرعي، بل محتّم، لالتقاء انتهازية الإسلاميين، مع إضعاف شخصية الإسلام، مع تغييب مبدأ الواقع و«الإملاق» الفكري للإسلاميين، مع تشوّش عموم المسلمين. المجموعات الأخرى وليدة الظروف نفسها بنسب متفاوتة.

وبما أنه ليس للإسلام من شخصية غير شخصية المسلمين، أو أنه لا يستمد شخصيته من غير شخصية المسلمين، فإن ضعفه الراهن هو انعكاس لضعف شخصية المسلمين، عدالتهم وكرامتهم وإبداعيتهم وتمسّكهم بقيم عادلة، وبخاصة الإسلاميين منهم الذين يناسبهم أن يكون الإسلام أداة سياسية وعسكرية تشهد لهم دوماً، ولا تقيّدهم بأية ضوابط أخلاقية وإنسانية. ليس هناك مقدار من العنف يكفي كي يكون ضعيفُ الشخصية قويَّها، والعنيف رفيقاً. العنف يفاقم مشكلة تدهور شخصية الإسلام ولا يَحلّها.

ما يمكن أن يطعن في شِرْعة العنيفين وشرعيتهم هو توليد مناهج تأويل وحركات اجتماعية إسلامية تعمل على إعادة هيكلة المجمل الإسلامي حول معاني العدالة والتوحيد وكرامة بني آدم والأخوّة بين الناس والرحمة وعمران الأرض ومكارم الأخلاق، فتُقوّي بُعد الدين الأخلاقي، وتوفّر بذلك سلاحاً لعموم المسلمين يدافعون به عن أنفسهم وعن دينهم، وتجعل متعذراً على أفّاقين ومهووسين وانتهازيين وقَتَلَة توسّله من أجل الصراع على السلطة والموارد.

من النصوص إلى المخيال والذاكرة

هذا يمرّ أيضاً، وخاصةً، عبر نقد النماذج التاريخية أو المؤسطرة، والذاكرة التاريخية والمخيّلة التاريخية المتشكلة خلال 14 قرناً. المخيال والذاكرة هما الشكل الفاعل أو المُلْهِم لحضور الدين، أكثر من النصوص المجردة. النصوص لا تأثير لها دون الارتباط بمخيّلة وبذاكرة تُحيلان إلى «حكاية كبرى» أو سيناريو عظيم: جيوش الفتح، عزّة الإسلام، فتح البلدان، من الصين إلى الأندلس، الخ. كان يمكن لكل ما ورد في المتون الإسلامية من كلام على القتال أن يكون هامشيّ التأثير لولا أن قراءات التاريخ ومواعظ المرشدين الدينيين وخطب المشايخ وتقريعات الخطباء لعموم المؤمنين لا تكفّ عن توضيح تك النصوص بالتاريخ واستخراج التاريخ من تلك النصوص، فتخلق علاقة تطابق ضروري بينهما، هي ما ينطلق منها الإسلاميون العسكريون المعاصرون، وبعض أعتى خصومهم.

ونتكلم على دور للوعاظ والمشايخ والخطباء للقول إن المخيال والذاكرة لا يحضران من تلقاء نفسهما، بل هما نتاج عملية إعادة إنتاج مستمرة، معاصرة لنا، وليست قديمة مستمرّة بقوة العطالة. هذا يُحيلنا من جديد إلى الشروط الدنيوية، الاجتماعية والسياسية والنفسية، التي تجري فيه عملية «صنع الإسلام» المعاصرة.

الذاكرة والمخيلة والنماذج والرموز الحاضرة في ثقافة المسلمين المعاصرين مستمدة من الفتوح والإمبراطورية والحكم السلطاني التعسّفي، وهي تسوّغ أبا بكر البغدادي أكثر بما لا يقاس من جودت سعيد، و’القاعدة‘ أكثر من ’الإخوان‘. يجد الشيخ جودت سعيد آيات في القرآن تسوّغ تأويله اللاعنفي للإسلام، لكنه لا يجد بتصرّفه مخيالاً او ذاكرة تدعم هذ التأويل، خلافاً لكل الإسلاميين العُنفيين. والتكوين التوفيقي لـ’الإخوان‘ يجد نفسه ممزّقاً بين «غريزة» الإسلام ومخياله الأوفق لـ’القاعدة‘، وبين مبدأ الواقع الذي لا يستطيعون تجاهله بجسارة القاعديين. وليس واضحاً عَلامَ سيستقر هذا التكوين القلق.

والخلاصة أن الحركات الإسلامية ليست وليدة تقابل ثنائي بين نصوص وبشر في شروط تاريخية بعينها، بل هي أيضاً ذاكرة ومخيّلة متشكلة في نماذج وأدوار سائدة (دور المجاهد، والفقيه الثائر بخاصة). بل هي ذاكرة ومخيّلة قبل النصوص. وعلى هذا المستوى، أي كذاكرة ومخيال إمبراطوريَّين، ليس الإسلام براء من داعش و’القاعدة‘ وشبيهاتهما.

إن جنوننا المعاصر، متجسداً في داعش، وحركات كثيرة لا تختلف عنها جدّيّاً، متولّد عن تغليب المخيلة و«المصوّرة» والذاكرة على الواقع المَعيش، أو تغييب مبدأ الواقع على يد مبدأ تحالف النصّ والخيال. في مواجهة هذا الجنون يلزم تغيير الواقع وتغيير الثقافة معاً: واقع أكثر إنسانيةً، وثقافة متوجّهة نحو الحاضر والمستقبل.

ما يحتاجه المسلمون المُخْلِصون في رفض داعش و’القاعدة‘ ليس تأويلاً جديداً بالمعنى الضيق للكلمة، يحوِّل النصوص نحو معانيْ آخرى، «عصرية»، ولو بِلَيّ عنقها، على ما يتواتر أن يفعل الدكتور محمد شحرور9. ما يلزم هو، بالأحرى، إعادة هيكلة المجمل الإسلامي، حول معاني أساسية فيه (الوحدانية والعدل…) وأولوية العقيدة على الشريعة، والكلام على الفقه، والقرآن على الحديث والسيَر وغيرها، وتصفية الحساب مع المخيال الإمبراطوري.

إن معنى الإسلام المقصود في عبارة مجموعات أو حركات إسلامية هو مجمل مُكدّس فوق بعضه، لا شكلَ له، يستمدّ وحدته من الخيال والانطباع والصورة المجملة، لا من المفهوم والتفكير العقلاني. وهو لا يقتصر على القرآن، ولا يشمله مع أحاديث من كل نوع ابتدأ تدوينها بعد أكثر من قرن من وفاة الرسول، ولا تفسيرات وفتاوى واجتهادات بشرية تاريخية، من أصحاب الرسول إلى أسامة بن لادن وأبي بكر البغدادي، بل ذلك كلّه ومعه المخيّلة الإمبراطورية والأدوار والنماذج المهيمنة فيها.

ويبدو أنه كلما كان الإسلاميون أكثر تشدّداً اتجه تفضيلهم إلى مجمل إسلامي لا تشغل فيه وثيقة الإسلام الأساسية، القرآن، غير موقع ضئيل، بينما تتراكم حولها وفوقها أحاديث وفقه ومرويات وتفاسير من كل نوع. ونخمّن أن هذا التكوين الذي لا شكلَ له للإسلام أنسب لهذه المجموعات من أجل أن «تاخذ حريتها» وتختار من هذا المجمل ما يناسبها دون أن تنضبط بمدوَّنة أساسية.

لا نريد من ذلك أن القرآن ذاته لا يطرح أية مشكلات. لكن من شأن تحكيم القرآن بكل شيء آخر من النصوص والتقاليد الثانوية الإسلامية أن يكون فعل عقلنة وتنظيم من جهة، وأن يسهّل تدبّر مشكلات النص الأول من جهة ثانية. المشكلة اليوم لا ترتدّ إلى تناقضات النصّ وحدها، بل إلى كونه مندرجاً في مُجمَل لا شكلَ له، ولا يكاد المرء يجد مبدأ لترتيب هذا «اللاشكل السيّد»، المشوَّش والمشوِّش. أول الترتيب فيما نرى هو أن الإسلام، أولاً وأساساً، إن لم نقل حصراً، هو القرآن.

تحويل النقاش

لكن لماذا هذا الموضوع مهم؟ بأي شيء تفيد هذه المناقشة حول العلاقة بين الإسلام وعنف المجموعات العنفية الإسلامية؟ هناك أشياء كثيرة يمكن أن يهتمّ بها المرء، العلماني بخاصة، وفي مثل ظروفنا الراهنة، غير الانشغال بأمر العلاقة بين الإسلام والعنف.

لغرض معرفي أولاً. لا ينبغي بأية حال، وحتى في ظروف الثورة والصراع الهائل الذي نشهده اليوم، أن يتقدم التفكير المَواقفي المبسّط (مع/ضد) على معرفة أكثر تركيباً بالأوضاع الواقعية وأكثر تبيّناً لها. وليس لدواعي التعبئة والشحن النفسي أن تتحكم بما تقتضيه المعرفة من «تفريغ» ورأس بارد. نحتاج في كل حال إلى ما يتجاوز الشعارات والكلام المكرور، وإلى ما يسهم في تشكيل ذهن ناقد وثقافة متجاوزة للكليشيهات والمختزلات.

وبعد أن نكون قد قلنا من أين لم تأتِ داعش، سيتعين علينا أن نقول من أين أتت. هذا مبحث مستقل، نظنّنا صرنا الآن أحسن تأهيلاً لمقاربته. وأول هذا المبحث فيما نرى هو التحول من مفهوم العنف المجرّد إلى مفهوم الحرب، أي الصراع بين المجموعات البشرية على السلطة والموارد. لدينا حرب في سوريا تقبل الشرح بلغات السياسة والاقتصاد والاجتماع، ويجب شرحها بهذه اللغات «العقلانية».

يلزم في الوقت نفسه تجنب الاختزالية التي تلازم المناهج العقلانية، وتطوير منهج عقلاني ذكي، يتعامل مع النصوص والمخيّلات الرموز والصور، ويشتبك مع الثقافة والذاكرة، لا يكتفي بكلام مجمل عن أوضاع مادية تحدّد الذهنيات والأحوال العَقَدية. نقد الثقافوية الوجيه لا يصحّ بحال أن يُعفي الثقافة من النقد.

ولغرض سياسي ثانياً. فمن شأن رد المجموعات العنفية الإسلامية إلى الإسلام حصراً، أو أساساً، أن يحجب مسؤوليات هي الأكبر عن هذه الأوضاع، بخاصة مسؤولية النظام كترتيب سياسي واقتصادي واجتماعي قائم على الاضطهاد والتمييز. من يتحكم فعلياً بالشروط الفعلية لحياة الناس في بلدنا هو نخب السلطة والثروة المتحكمة، وليس شيئا غامضاً اسمه الإسلام.

وهذا ليس صحيحاً اليوم فقط، وإنما هو يبقى صحيحاً أيضاً إذا كان الإسلاميون في الحكم أو إذا وصلوا إلى الحكم. فمن المهم في كل حال مقاومة مَرْكَزة النقاش حول الإسلام على ما يفضّل الإسلاميون أنفسهم، وعلى ما يفضل خصوم لهم من جنسهم، طائفيون أو ثقافويون. يناسب الإسلاميون أن تكون المعركة مع الإسلام ذاته، وليس مع سياستهم وممارساتهم هم. في مواجهة هذا النهج نرى من الضروري الإلحاح على أن مشكلتنا ليست مع دين الإسلاميين، بل مع طغيانهم وعدوانهم واستئثارهم بالمواد العامة.

ثم من شأن ردّ عنف المجموعات الإسلامية إلى الإسلام أن يُلْحق المعتدلين من الإسلاميين بالمتطرفين، وهذا مسلك متطرف هو ذاته. هذا بينما يقتضي حسن السياسة اختراع المعتدلين الإسلاميين إن لم يوجدوا، والعمل على تقويتهم إن وجدوا. اعتبار الإسلاميين مثل بعضهم هو الخاصية الجامعة لمن يشتقّون الإسلاميين من الإسلام.

الفكر التحرّري والديمقراطي يعمل، بالعكس، على نقل النقاش نحو الشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تجري فيها الصراعات الأيديولوجية، ولا يبقى أسير هذه الصراعات ذاتها والوعي الذاتي لأطرافها.

ولهذا النقاش عن الإسلام والإسلاميين والعنف غرض وجودي ثالثاً، يتصل بالتشكل المرغوب لشخصية من نمط مغاير، تُعرّف نفسها بالتزامات أخلاقية وسياسية تحررية، بخيال جديد وأدوار جديدة، لا بهويات ثابتة وشعارات جامدة. علينا أن نتغير، وأن نحب أن نتغير، وأن نعمل من أجل أن نتغير، أن نحطم سجن التماثل المؤبد مع الذات، سواءً باسم الهوية أو الدين أو مبادئ أيديولوجية ذوى مضمونُها التحرري. فوق كونه تجربة شخصية واجتماعية محرِّرة، تغيّرنا هو مساهمتنا في تغيّر العالم وشرط لهذا التغير في آن. داعش غرامة تاريخية على محافظتنا وخوفنا من التغيّر، ليس الإسلاميين منّا، ولا عموم المسلمين، بل أيضا مجموعات حديثة وحداثية، تعرض مزيج داعش نفسه من الغرور والجهل والافتقار إلى الشجاعة.

وتجربة التغيّر تمرّ حتماً بقول ما في «الإسلام» وتؤول إلى قول. وهذا لأن «الإسلام» ليس شأناً سياسياً وأيديولوجياً، فوق كونه عقيدة دينية، وإنما هو أيضاً عنوان وجود وركيزة «هوية». ليس من الجدية في شيء، ونحن ننظر في وجودنا وهويتنا، أن يرتد هذا النظر إلى اتهام أو تبرّؤ، أو تهرّب من المشكلة، أو تلفيق معالجة شكلية لها.

من شأن خوض تجربة التغيّر أن يُسهم في فتح أبواب تحرّر فكري وروحي وأخلاقي، ينتهك حدود عوالم الهوية الجامدة وتفكيرها الديني أو اللاديني الفقير، ويفتح لعدد أكبر من الناس أبواب عيش حياة أخلاقية نشطة دون إطار ديني.

منافسة الدين ثقافياً، والإسلاميين اجتماعياً وسياسياً، ممتنعة دون وجود شُجاع متحرّر، منفتح على تغيّره الذاتي.

أحمد بن حنبل (780-855م) محدّث وفقيه وسجين عباسي. [↩]

أحمد تقيّ الدين ابن تيمية (1263-1328م) فقيه حنبلي وأصولي وفيلسوف وسجين مملوكي، توفّي في قلعة دمشق. [↩]

محمد بن عبد الوهاب (1703-1791م) «شرعي» الدولة السعودية الأولى وطريد نجدي عثماني. [↩]

سيّد قطب أديب ومنظّر سلفي مصري، أعدمه النظام الناصري عام 1966. [↩]

أسامة بن لادن معارض سعودي وأفغاني-عربي، كان أمير تنظيم ’القاعدة‘ السلفي الجهادي إلى أن قتلته ’وكالة المخابرات المركزية‘ الأميركية CIA عام 2011. [↩]

الأنفال والتوبة سورتان في القرآن نزلتا في المدينة بعد غزوتَي بدر 2هـ وتبوك 9هـ على الترتيب، وتتحدّثان عن أحكام الجهاد والغنائم والمنافقين والكافرين وأجواء الانتصارات النبويّة. [↩]

مكسيم رودنسون (1915-2004) مؤرّخ ومستشرق يساري فرنسي، يُعتبر كتابه محمد (بالفرنسية 1960 وبالإنكليزية 2002) من أهم السير الأكاديمية لنبيّ الإسلام. [↩]

سفيان الثوري عالِم ومحدّث وقاضٍ عبّاسي. [↩]

محمد شحرور أستاذ الهندسة المدنية في جامعة دمشق، وأحد أهم المنظّرين القرآنيين المعاصرين. من أعماله الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة (1990) وتجفيف منابع الإرهاب (2008). [↩]

 

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى