حمّود حمّودصفحات الرأي

«الإسلاموية الجديدة» والتشظي الأصولي/ حمّود حمّود

 

 

لأنّ الفضاء الأصولي فضاء مفتوح على «اللامعنى العدمي» الإطلاقي، أي اللامعنى كإطار أنتولوجي يجدون ذاتهم من خلاله، فإنه فضاء يمتنع عمقاً عن الاعتراف بلحظته التاريخية والخضوع لها. إنه فوق ذلك، كما أشرنا، فضاء أدلوجي مائع، وهذا هو السبب أنّ لديه القابلية في كل لحظة مختلفة يواجهها أنْ ينتج لنا «أصوليين جدداً» بأثواب جديدة. من هنا، فإنّ نقدنا لاصطلاح «ما بعد الإسلام السياسي» لا يعني على الإطلاق عدم الاعتراف بأننا نواجه اليوم بأصوليات جديدة وأنماط من الطهوريات الأصولية الجديدة بأشكالها الأيديولوجية: لا محاربين قدماء من الأرثوذكسيين الدينيين النصانيين أو الحرفيين، بل «أصوليات جديدة» منفلتة من عقال الدولة وثقل الجغرافية، أصوليات مائعة في فضاء معولم، أصوليات هي بحق ما فوق-الدولة. هذه النقطة تُعتبر في غاية الأهمية إذا ما أريد فهم الأصولية، وبخاصة في عالم اليوم، بيد أنّ عدم درسها نقدياً يُعرّض الكثيرين للوقوع ضحايا أمام «جاذبية الإسلام السياسي»، كما هو حال كثير من المراكز البحثية الغربية التي تسير في ركاب التبشير برسل الديموقراطية من الإسلاميين المابعديين.

هناك زاويتان نقديتان مهمتان، من بين العديد، يمكن من خلالها رصد الحركة الأصولية اليوم: الأولى، رصدها من زاوية الفضاء العولمي الذي تتحرك به ومن خلاله، حيث أنه لو دققنا في الحقيقة قليلاً في السلوك المعاصر للسياق الذي تعمل به الأصولية عموماً لوجدنا أن بنيته الأساسية هي «اللاسياق»، أي فضاء منفلت من أيّ تحديد أو حدود أو حتى تنميط. إننا بالفعل نُواجه بعولمة جديدة للمقدس الأصولي. بيد أنه مقدس لا يرتبط على الإطلاق بطهوريته وتقوويته الكلاسيكية كما كنا نتلمس آثارها سابقاً. ولأنه يصعب «تسييق» هذه الأصوليات الدولانية بسياق ثقافي منمّط، فإنها، والحال هذا، تمتلك ثقافتها الخاصة العولمية. من هنا مشروعية تشديد بعض الباحثين على أنّ الأصوليات الإسلامية في الغرب ترتبط ثقافياً ارتباطاً ضئيلاً بثقافاتها العربية التي ولدت منها. أصوليو هذه الأصوليات هم أبناء هذه العولمة الجديدة للمقدس.

هذا ما ينقلنا الآن للمرور سريعاً على ظاهرة مرض من أمراض الأصولية، ألا وهو الإسهاب والاستسهال في التكاثر الأصولي لدرجة التشظي، وذلك يعود من جهة، إلى طبيعة الأدلوجة الإسلاموية ذاتها القابلة لأنْ تُنتج منشقين ومنشقين عن المنشقين وهكذا دواليك، وهو الأمر الذي نلحظه اليوم في دول المشرق، وتحدياً سورية والعراق، في حروب الأصوليين على الأصوليين، حيث إنّ المرتكزات الأدلوجية التي تجمع، هي نفسها التي تنتج «صراع الأشقاء». ومن جهة ثانية، أنّ هذا التشظي الأصولي يعود بمَعْلمه السلوكي والحركي إلى الطبيعة العولمية السائلة الجديدة للسلوك الأصولي والتي تتضافر يداً بيد مع الميوعة المتأصلة أصلاً في الفضاء الأصولي. عولمة البعث الأصولي هي بالفعل ما يميز أصوليات عالم اليوم.

والركيزة الثانية، أنّ هذا الحراك المنفلت من كل شيء أكثر ما يشده هو القولبة الهوياتية والطائفية، أي القولبة التي تمنحها مشروعية الاسم ومشروعية بعث الجماعة أو بعث الطائفة. ليس صحيحاً على الإطلاق أنّ هذه الأصوليات الجديدة تجاوزت المشاريع الإسلاموية الكلاسيكية في التشديد على المشاريع الهوياتية والأخلاقية. على العكس تماماً، فإنّ الأصوليات الجديدة تتمتع بانشداد قوي صوب بعث هوياتها المخيالية. إذا كان مشروع الهوية والطائفة هو بالأصل مشروع أصولي، فإنّ أصوليات اليوم هي أشد من يشدد على هذا: الأصولي في هذا الفضاء الجديد ملتزم أشد الالتزام بحدود الطائفة، طائفته، بيد أنه ومن خلال اللاحدود التي تطبع هذا الفضاء، فإنه يعمم هويته، ويعمم طائفته، وإنْ اقتضى الأمر استخدام الدم، إنه يشرعنها عالمياً لتغدو لا منحصرة في مناطقه بل ليثبت حضورها وهويتها على شكل معولم. هكذا، نحن أمام حالة من اللاسياق العام جداً، وبالوقت ذاته أمام سياق أصولي يتقيد فيه الأصولي على نحو وثيق.

في الحقيقة شرط الأصولية اليوم، أو قل الأصوليات المتشظية، شرط معقد جداً، من الصعب حصره وتنميطه بعمومه ضمن خانات أيديولوجية. من يشدد اليوم على حصر الإسلاميين ضمن قولبة المابعدية، فإنه لا يفعل ذلك وفقاً لقراءة تاريخية لهم، بل وفقاً لما يريده هو منهم. قراءة إسلامي اليوم تبدأ بقراءة الأبنية والنظائم الفكرية الإسلاموية من جهة، والدرس التاريخي النقدي للسياق الدولي والسياسي الذي يتحركون ضمن فضائه، من جهة أخرى. نعم صحيح، لقد أثبت الإسلام السياسي الفشل، بيد أنّ هذا الفشل لم يحثه على مراجعة ونقد تجربته اللاتاريخية حتى نقل أنه انقلب على أسلافه، بل كل ما في الأمر أنه انتقل بحركيته المسلكية يداً بيد ضمن وسائل حديثة وارتدى ألواناً جديدة هي التي تمنحه اليوم مشروعية النطق باسم السماء. وفي كل هذا، يبقى النكوص التاريخي للإسلاموية هو العنوان الأبرز ضمن هذا الفضاء السخي المتشظي في «سوق الأصوليات المعمم».

* كاتب سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى