رستم محمودصفحات الرأي

الإسلاميون … فاشيتان وبنية!/ رستم محمود

 

 

مع ما جرى في سورية، بات واضحاً أن تنظيمات الإسلام السياسي بمختلف تعبيراتها وقواعدها الاجتماعية تتعرض لنوعين من «الفاشيات» المناهضة لها جذرياً: الأولى سياسية عسكرية، حيث «الأسدية» نموذجها الأوضح، التي تعتبر أن تنظيمات الإسلام السياسي «السُنية» وبيئاتها الأهلية مباحة للتعنيف والتهشيم بكل الوسائل والممارسات، لأنها خطر «وجودي» و»استراتيجي» كلي ومطلق، وأنها بتعنيفها وتحطيمها لهذه التيارات وقواعدها الاجتماعية إنما تمارس فعلاً سياسياً دفاعياً «حداثوياً» إيجابياً، متوافقاً مع خيارات «العالم الحر» ومتماهياً مع قيمه، أياً كان حجم الضحايا والأثمان!.

نمط آخر «مكمل» لهذه الفاشية السياسية العسكرية، ثقافي اجتماعي، يصدر عن الكتل الأهلية والثقافية والمجتمعية المتمركزة حول ما يمكن تسميته «وعي الأقليات». هذه التي ترى في الإسلام السياسي «السُني» وجماعته الأهلية سبب البلاء التاريخي الذي تعيشه مجتمعاتنا. فوفق رؤيتها يشكل هذا الإسلام المحافظ بتعبيراته السياسية والاجتماعية والثقافية جوهر النكوص التاريخي الخاص بنا، وكل الجهود يجب أن تسعى بحزم لكبح أي تعبير عن ذلك النمط من التديّن السياسي والاجتماعي. وفوق ذلك فإنها تبيح لكل تيار سياسي وكل سلطة حاكمة كل ممارساتها، طالما تسعى إلى حظر وكبح حركة التيارات السياسية الإسلامية. وهي ترى في الإسلام السياسي وحده معياراً قيمياً وحُكمياً فاصلاً بين الصالح والطالح.

انطلاقاً من ذلك، تغدو مناهضة هاتين الفاشيتين فعلاً ثقافياً وسياسياً تحريرياً، لأنها بالأساس تناهض التجريم الأولي والمطلق لجماعة وطنية واسعة الانتشار، وتدافع عن الحق الطبيعي لطيف سياسي يسعى إلى الإندراج في الحيز العام.

لكن ذلك الدفاع عن الحركات السياسية الإسلامية وبيئاتها الاجتماعية ضد النمذجة الفاشية المناهضة لها، غالباً ما ينجر ليغدو فعلاً تبريرياً للكثير من المعضلات البنيوية في جل التنظيمات السياسية الإسلامية، وفي شكل نسبي في قواعدها الاجتماعية. وهذه المعضلات يمكن تحديدها بثلاث ركائز جوهرية:

فكل الإسلام السياسي في منطقتنا تعبير عن التدين السياسي وليس المحافظة الاجتماعية، أي أنها تيارات تعتبر الدين مرجعيتها وأيديولوجيتها وأدبها وعالمها الرمزي الذي تستقي منه سياساتها وبرامجها وتوجهاتها. فالدين بالنسبة إليها برنامج عمل سياسي واقتصادي وسلوكي، وليس مجرد فضاء روحي واجتماعي. كل الإسلام السياسي في منطقتنا لا يعتبر تورغوت أوزال أو ذو فقار علي بوتو نموذجاً يُحتذى به، بل أردوغان ومحمد مرسي. فالقضايا الخلافية مع هذه التنظيمات لا تتعلق بتفاصيل قانونية وخيارات اجتماعية، كالموقف من الإجهاض وقانون الأحوال المدنية وسلطة العائلة، بل تتعداها إلى الخلاف حول مصدر السلطة العليا ومكانة الدستور وقيم المواطنة وهوية الكيان إلخ. فوق ذلك فإنها بمجموعها تنظيمات تاريخانية جوهرانية، مؤمنة بأنها تمثل جوهر حركة التاريخ وأنها ستحقق تجربتها النموذجية في المستقبل القريب، وأن كل المجريات دليل على صواب رؤيتها الاستراتيجية. وهذا رومانسية عنيفة سيطرت على التيارات القومية والشيوعية والقومية السورية طوال العقود الأولى من القرن الفائت. فكل الإسلام السياسي لا يسعى إلى أن يكون تعبيراً عن حلول جزئية نسبية وموضوعية للمعضلات المتناهية الصغر التي تحياها هذه المجتمعات، بل ما زالت تجد في ذاتها طرفاً خلاصياً كلياً، ووحيداً. ما زالت ترى كل أشكال الفشل التي وقعت فيها التيارات السياسية المطابقة لها أيديولوجياً وسياسياً إنما نتجت عن سوء في التطبيق والممارسة، وأبداً لم تنشأ عن معضلة في الجوهر.

أخيراً فهذه التيارات بمجملها تيارات هوياتية مجتمعياً، أي أنها لا تستطيع أن تقرأ البنى المجتمعية في شكل أفقي مركّب، بل شاقولي مؤطر ومقسم. لا تستطيع هذه التيارات أن ترى الطبقات الاجتماعية ذات المستوى التعليمي الواحد وما يجمع بينها، ولا حتى التفاوتات الاقتصادية ودورها في حركة المجتمعات، ولا ترى الجهويات ودينامياتها الخاصة، ولا الريف ولا المدن ولا الأجيال ولا النزعات الأيديولوجية، بل فقط ترى المجتمع كتلاً من الطوائف والمذاهب والأدبيات والقوميات، مع مخيلة بالغة الوثوق من ذاتها بصلاح جماعية اجتماعية واحدة من بين كل هؤلاء، هي تلك التي يمثلها الإسلام السياسي المحافظ. هذا المنطق هو بوابة التصارع المستديم.

وإيجاد توازن ذهني وروحي بين رفض كل الفاشيات الممارسَة بحق تيار سياسي وقواعده الاجتماعية، مع الحفاظ الدائم على العقل النقدي تجاهها، هو ما يستدعيه التشويش المرعب الذي تخلقه حالة العنف المنفلت الذي نحياه.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى